2005/08/12
weekly_culture
لماذا لا يصدّق المثقفون العرب مأساة الجار الكردي؟
خالد سليمان
للحديث عن المثقف العربي وموقفه تجاه الكرد وقضيتهم نحتاج لبداية قاسية تضع الحديث عن الثقافة وتمثلاتها الأخلاقية التي تحدث عنها المفكر الراحل أدوارد سعيد، في دائرة الشك والريبة في آن واحد. ولا بأس من أن نبدأ ب<<أدوارد سعيد>> نفسه وصمته حيال مأساة مدينة حلبجة والأنفال رغم اطّلاعه على معلومات وفيرة حول مراحل السياسة الجينوسيدية التي مارسها نظام البعث ضد الكرد. ففي حياة سجالية مستمرة كرّسها هذا المفكر للدفاع عن القضية الفلسطينية والبوسنيين والشيشانيين لم يلتفت الى ذلك الممشى القصير الذي يفصل دم الأكراد عن دم الفلسطينيين جغرافيا. وتجنب بذلك سؤالا صعبا لم يوجهه له أحد وهو <<أيمكن تقليم تاريخ العرب من الشوائب من خلال قتل الكردي وأنفلته ووضعه في حلقات تمرين الإفناء؟>>. نترك هنا هذا السؤال لنعود إليه في ما بعد، ونحاول الولوج الى حوار قد لا يخلو من <<الطرشنة>> كمقدمة منطقية له ولأبعاده القصدية في تناول الأشياء الأشياء الكردية والعربية ضمناً وصمتاً ، ونبدأ بكلمات كتبها وقالها مثقفون وكتاب عرب تحمل من العنف والقسوة قدراً كافياً لمبررات دولة البعث في استخدام الأسلحة الكيمياوية والأنفال والتقبير الجماعي. نبدأ بشاعر وصحافي كردي وهو <<فريد زامدار>> وافقه الحظ في الإقامة بدمشق، وكأي كاتب كردي يقيم في مدينة عربية يحاول للوهلة الأولى التعرّف على المثقفين العرب ومواقفهم المتباينة تجاه الكرد والثقافة الكردية، ثم وافقه الحظ أيضا ان يلتقي بالقاص زكريا تامر في كافيتيريا فندق الشام مكان اللقاء بينه وبين الشاعر محمد الماغوط. القصة تبدأ من هنا، والغريب فيها هو تلك الكلمات التي قالها <<تامر>> بحق الكرد بمجرد سماعه اسم كردستان: شو كردستان يا أخي، أنتم عراقيون ولكم كأي عربي عراقي حقوق المواطنة، الا انتم وكل ما فعلتم وتفعلونه منذ البداية ولحد الآن أعمال شغب وعمالة للاستعمار، أنتم عملاء الاستعمار. ثم يتابع ويقول <<لا تقارنوا أنفسكم مع الفلسطينيين، أنتم لم يكن لديكم يوما ما أرض ولا وطن محتل كالفلسطينيين. ولعلمك الكلام موجه لفريد زامدار أنا أعطي الحق للنظام العراقي في قصف مدينة (حلبجة) بالأسلحة الكيماوية، لأنكم حملتم السلاح ضده. ترى ما هذا السقوط الأخلاقي الذي يقع فيه المثقف العربي، ولماذا لا يبني علاقة متوازنة مع ذاته ومحيطه الاجتماعي والتاريخي وفقاً لجماليات الأشياء وغرائز الحياة، أين تكمن مصادر هذه الكراهية، أهي نفسها التي اعتمدها البعث في سوريا والعراق لصناعة <<نمر خاص>> يحسن إفراغ لبيدو السلطة في كل يوم من تلك الأيام العشرة التي حددها زكريا تامر لمقاومة بطل قصته <<النمور في اليوم العاشر>>. أيكمن الخلل في الثقافة أم في رموزها وواقعها المتفسخ والمكبل تحت سيطرة أنظمة شمولية وعنفية تنتج ذاتها عبر آليات الموت وصناعة المجتمع السردي لحكايات <<قبضايات>> الثورة. يرجع سبب هذا التواطؤ بين المثقف العربي الأكثروي وبين نموذج الدولة القومي <<البعثي>> الى إشكالية مستفحلة في ثقافة الغالبية وهي حضور خطاب عرقي يحمل عناصر نفس الفكر الذي تعتمده الدولة التدجينية. وتضخ الإشكالية ذاتها الحركات الاجتماعية السفلية والهامشيين ب<<طاقة انفعالية سحرية>> تكمن جذورها في الحاجة الى الاستبداد كمفهوم للوطنية. يقول الكاتب السوري لؤي حسين في هذا السياق وفي مقال نشر له في السفير البيروتية <<ثقافتنا مشوبة بالفهم الاستبدادي الذي يطغى عليها لدرجة أنه يسميها باسمه. ففهمنا للوطن والوطنية والاستقلال والسيادة والهوية والتعددية السياسية والفكرية وتعددية التعليم والدولة والمرأة والنخبة والشعب والحل القهري والأسلوب العنفي وحق التمثيل وحق الأقليات السياسية... الخ، كل هذا يشكل فهماً استبدادياً جميعنا مسؤولون عنه، وعلى جميعنا التشكيك بكل أفكارنا ومواقفنا المعتادة والسائدة واتهامها بالاستبدادية حتى يثبت العقل والواقع المعقول براءتها>>. وكان قمع دولتي البعث في كل من العراق وسوريا للكرد واتباع سياسات التطهير العرقي ضدهم من خلال الأنفال والتجريد من الجنسية و<<تشريد الأمكنة عن أسمائها>> حسب الروائي سليم بركات، جزءاً من وطنية النظام ودحض المؤامرات التي تحاك ضده. ولم يغير مسّاح العقل العربي في هذه الحال في قياساته لطبيعة محور الشرّ الكردي عن نفس المسّاح الذي أصبح حكماً جبرياً على إسرائيل في ثقافة العرب الأكثرية. الصمت في أروقة وزارة الثقافة السورية وفي قسم الرقابة على الكتب والموافقة على نشرها كتب شاعر قومي سوري على الصفحة الأولى من مخطوطة شعرية للشاعر الكردي طه خليل: <<نصوص شعرية مكتوبة بلغة مُشفرة لأُناس (وهم الأكراد خصوصا) لا نأنس بصحبتهم>> مع عدم الموافقة. نؤكد هنا على تعبير <<لا نأنس بصحبتهم>> إذ لا يحمل من الباطنيات الثقافية الاّ فعلا <<اجتماعيا>> يقتضي الاستئناس بالآخر وفق الاندماج مع صور الكاريزما الاجتماعية القومية، أما خارج هذا فسيبقى فعل التأنسن في الفكر الذي يشتق منه الشاعر تعبيره كوضع فاقد للتسمية وللإنسية معا. ولا بد للإشارة هنا أن هذا الشاعر اختصر الطريق وقال جملته السرطانية بخصوص ديوان <<الملك الأعمى>> الذي حمل في طياته قصيدة جميلة وحزينة عن أطفال حلبجة، ولم يطل في الحديث، معلناً كرهه للكرد بطريقته الخاصة جدا. ولا تكمن المشكلة هنا ما دام الوضوح استقداماً للأشياء، لكنها تكمن في وضع تاريخي عام شكل الكاتب المذكور جزءاً منه، وضع كرّس مشروع الاستبداد والعنف في ماكياج المجتمع كحقيقة قومية، تتطلب التخلص من الغرباء عن الأمة، كما في الحالة الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية والتي مثّلت الرغبة الأوروبية في التخلص من اليهود والغجر والهوموسيكسويل. للوقوف عند هذه النقطة لا بد من القول إن فكرة المجتمع المقلم عند الأوروبيين بدأت بطرد العيوب عنه وإبعاد ذلك التنوع الثقافي والاجتما إثني الذي أحدثته الثورة الاتصالاتية الثانية في تاريخ أوروبا. وكانت التعبئة النفسية للخضوع لوجه الحداثة العدواني والتخلص من مصادر التهديد للعرق الأوروبي وتقليم المدينة الأوروبية من الأغصان الزائدة قولاً باطنياً أعلنه الألمان بدل الجميع قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. من هنا شكل الهولوكوست نقطة تحول الحداثة من توسيع مفهوم الإنسان المركز الى استهلاليات إعلان نموذج الدولة الصانع لقوى إكراه متعددة. كان الوضع العربي مهيأ لقبول فكرة أنفلة الكرد على يد البعث، ولم تكن العملية في رأي العرب الرسمي والثقافي وحتى العام سوى وضع حدٍ لمجموعات بشرية لا تنسجم مع تطلعات دولة عربية كانت تمثل طرفا مهما من عمليات إعادة الفرملة الديموغرافية والثقافية والجغرافية للمنطقة. ولا يمكن تصديق الرأي الذي يقول ان عمليات الإبادة الجماعية تمت في سرّية تامة وفي ظل تعتيم إعلامي، لأن صور حلبجة التي التقطتها الأقمار الصناعية والصحافة الغربية انتشرت في العالم، ثم إن المجموعات التي نجت من عمليات الموت ووصلت الى المخيمات داخل الحدود الإيرانية والتركية، هرّبت معها قدرا كافيا من روايات الموت وقسوة رحلة النجاة من فيالق الجيش العراقي المتوجهة الى كردستان. لكن النخبة العربية المثقفة باستثناء أقلية صغيرة منها بقيت صامتة وغارقة في نفس الوهم الذي أسسه البعث لصناعة إنسان جديد مجرّد من الأغصان، إنسان بلا أشواك، بلا إحراج، بلا حلم، بلا طاقة، وبلا سؤال أيضا. وإذا راجعنا أرشيف الصحافة والإعلام العربيين حول مأساة حلبجة وكارثة الأنفال وموقف المثقف العربي منهما لا نحصل على شيء يذكر باستثناء موقف الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلّة والمفكر العراقي الراحل هادي العلوي من خلال رسالة إعتذار بعنوان <<براءة الى أطفال كردستان>> نشرها في صحيفة السفير البيروتية بتاريخ 23/9/1988 وهي وثيقة أخلاقية قبل كل شيء وتمثل غضب مثقف ومفكر عربي كسر صمت العرب أمام مأساة بشرية وأدان تاريخا مسكوتا عنه في الثقافة العربية كما في هذه الرسالة التي ننشرها هنا لقيمتها الأخلاقية والثقافية للمفكر الراحل الذي يقول في مقطع منها: إن أبناء الشعب الكردي، أحفاد نور الدين وصلاح الدين الأيوبي، وقفوا منذ مئات السنين ومنذ أن جمعتهم راية الإسلام بجانب العرب. وقد نظّم الشعب الكردي المظاهرات الضخمة احتجاجاً على العدوان الثلاثي ضد مصر عام 1956 ونظم شعراءه وأدباءه بعض أجمل نتاجاتهم حول ثورة الجزائر، وقاتل مئات منهم في صفوف الثورة الفلسطينية. إن هذا الشعب هو في محنته اليوم يستحق من إخوانه العرب والمسلمين أن يرفعوا أصواتهم لحمايته من الإبادة، وهو أضعف الإيمان، لكي لا يسجل التاريخ بأننا علمنا وشهدنا وسكتنا>>. لقد علموا وشهدوا وسكتوا، بل حاولوا التعتيم على كل ما نشرته الصحف الغربية حول استخدام البعث للأسلحة الكيمياوية والجرثومية ضد الكرد. ففي أحد أعدادها في تلك الفترة نشرت صحيفة <<الغارديان>> البريطانية نبأ زيارة وفد بعض الدول العربية الخليجية والمغاربية لوزارة الخارجية البريطانية للاحتجاج على مواقف الحكومة البريطانية وصحافتها في فضحها النظام العراقي الفاشي على ما ارتكبته أياديه من الإجرام بحق الشعب الكردي واستعمال الغازات السامة والمبيدات الكيمياوية ضد أبنائه من المدنيين العزل. هذا على المستوى الرسمي، أما على المستوى الثقافي وموقف المثقف العربي من تلك المأساة فكان الصمت حاكماً مطلقاً باستثناء أقلية ثقافية أشرت لها آنفا، ولا مجال هنا للحديث عن الموقف الشعبي وقوى الشارع التي تعيش في أوكار أنتي أمريكانية والصور التراجيدية التي تصنعها قوى الإكراه الإسرائيلية على جسد الفلسطينيين. والإشكالية المستعصية في رأي الشارع في العالم العربي هي تعاطيه مع الإرهاب الداخلي ومظاهر العسكرة الوطنية التي تحولت إلى قوى فاشية بعد سيطرتها على مقاليد الحكم كأمر روتيني يومي، أي إن الذات الصانعة للتاريخ تأقلمت مع العنف والاستبداد ولا ترى في الشموليات القومية خطراً على حياتها. صديقنا الكردي ضمن هذا السياق العام تركز ميكانيزمات العنف ومصادره في اللاوعي الجمعي للنخب العربية السياسية والثقافية، حاولت الأقلية الثقافية ورموزها كسر الصمت وأدانة احتفالات الموت في العراق وجبال كردستان ونذكر هنا اسم أدونيس وحازم صاغية وعباس بيضون وإلياس خوري ووضاح شرارة وحسن داوود. لكن طغيان <<الغالبيات>> اليسارية والقومية والإسلامية التي لم تر من كردستان الاّ إسرائيل ثانية، بقي في دائرة اتصال وثيق مع تلك المفاهيم التي أنتجها البعث حول الكرد وإمكانية التخلص من ارتسام وجوده على تاريخ المنطقة. ففي وقت يؤسس كاتب ومثقف مثل حازم صاغية فضاءً ذاتياً لقراءة كل خبر يتعلق بالكرد والأمازيغ والعرب الشيعة ومن ثم الكتابة فيه وتحويله إلى فضاء أوسع كي يشمل الجميع لممارسة قول شيء لم يقله المثقف العربي، يحاول <<المثقف الأكثروي>> الاختباء وراء الأصالة واليسار الوطني والقومي الاجتماعي والقومي الإشتراكي الخ.. من التسمية واستراتيجياتها في الثقافة العربية. انتقد الشاعر عباس بيضون العقلية العربية وازدواجيتها مع الأشياء في سياق مقال كتبه في جريدة السفير أثناء إلقاء القبض على رئيس حزب العمال الكردستاني عام 1999. وتطرق بيضون الى ازدواجية هذه العقلية عندما تصمت أمام كارثة الأنفال وحلبجة وتصرخ ضد تركيا وقمعها للأكراد. ولا تختلف هذه الازدواجية برأيه عن ازدواجية السياسة الأميركية في مساندتها للكرد في كرستان العراق واعتبارها نضال الكرد في كردستان تركيا إرهاباً. ثم إنها عقلية كانت تقيس المواقف وفق الصراع العربي الإسرائيلي من جانب والتحالفات الإسرائيلية التركية من جانب آخر. وبإمكاننا القول إن كتابات هذه الأقلية الثقافية رغم أنها جاءت متأخرة كما يقول عباس بيضون في أكثر من كتابة نقدية للذات، لكنها تشكل موقفاً أخلاقياً وإنسانياً ويمكن اعتبارها <<ندرة>> في زمن التخاذل الثقافي أمام منتجات العنف القومي. في مقال بعنوان <<شقيقنا الكردي>> في عدد جريدة السفير يوم 3/ مارس/ 2000 كتب بيضون <<شقيقنا الكردي تركناه طعمة للغاز الخانق والمدافن الجماعية للأحياء والصخور القاتلة. وحين سألني كردي كيف لي أن أهتم بثقافات بعيدة ولا ألقي نظرة على ثقافة الجوار. وجدت ما قاله حقاً لكنني لم أقل له انني رأيت صور حلبجة ايضاً في مجلات أجنبية وعلمت بخطة الأنفال من كتاب مترجم عن الأنكليزية. ولم أقل له إنني لم أكن في يوم مع اضطهاد الأكراد لكني لم أعرف في المنطقة جماعة أو شعباً أو شخصاً غير مضطهد. لم أقل له إننا ننسل كثيراً هنا لفرط ما نكره الحياة. ننسل كثيراً لكي لا نتألم لموت الأطفال. وأننا لا نفكر بأن موت الأطفال مختنقين بالغاز يهز العرش حقاً. إذا لم يوضع الله مجدداً على الصليب>>. <<تركناه طعمة للغاز>> لا تعني هذه الجملة الاّ الصمت الذي يقتضي اعتذار المثقف العربي لا لشقيقه الكردي فحسب بل لكل أشقائه ولذاته أيضا. لأن المنطقة امتلأت بالاضطهاد والقهر ضد الجميع ومن قبل الجميع وليس هناك <<عوام لاتينو>> يحكموننا. بل هناك <<عوام>> جاؤوا من مستنقعات محلية مع تماثيل ضخمة وجاهزة للتخويف وصناعة مجتمع الرخويات الثقافي. لقد فقدت الثقافة عظامها وتحولت إلى كائن رخوي لا يستطيع مقاومة أي قدم يدهسها في أي زمن وفي مكان محدد. بالعودة إلى احتياجنا لبداية قاسية للحديث عن المثقف العربي والموقف من كل تلك المآسي التي ذكرت في سياق هذا الكتاب، نرى أن كتاب كنعان مكية <<القسوة والصمت>> الذي عرّف الأنفال بالنخبة العربية، هو أقسى <<بدايات>> ممكنة ومُتَخيلة بين محاكاة قسوة الدولة العربية التوتاليتارية وبين تجريب فكري لممارسة الصمت عند المثقفين الأغلبيين. لا يحمل كتاب <<القسوة والصمت>> الاّ جزأً قليلاً من الأنفال، لكنه أدى إلى خلق سجال عنيف في الأوساط الثقافية والفكرية العربية وشاركت فيه أسماء كثيرة للمفكرين والكتاب والصحافيين العرب. والغريب في ذلك السجال القاسي الذي جاء كملحق عربي للمأساة العراقية وسط حديقة البعث المُقَلَمَة هو اختفاء الثيمة الأساسية التي هي <<الأنفال وحملات الإبادة الجماعية>> لكل قصة تم سردها في سياق التسمية والتخوين، وإحالة متنها الى <<حزازيات>> فردية وشخصية بين المساجلين. ففي مقال نشره ادوارد سعيد في جريدة <<الحياة>> بتاريخ 3/12/2002 بعنوان <<معلومات مضللة عن العراق>> شكك في جميع تلك المعلومات والوثائق التي نشرها كنعان مكية عن الأنفال والجينوسيد في العراق، واتهمه بالعمل لصالح الولايات المتحدة الأميركية وتقديم معلومات مضللة لإدارة جورج بوش الابن، عن بلدعربي. وشارك في ذلك السجال الاتهامي مجموعة من الكتاب والصحافيين العرب في الصحيفة ذاتها وعلى منابر أخرى ولم يتورع البعض عن إطلاق صفات عمالة مكية لوكالة المخابرات الأميركية والموساد الإسرائيلي. ولا نبالغ إذا قلنا إن المثقفين العرب بذلوا جهداً كبيراً لتسخيف كتاب مكية وإخراجه عن دائرة الضوء، كي لا تبقى فضيحة الصمت أمام آلة الدولة للموت في مدار البحث والتحقيق. إدوارد سعيد والأثقال لم يدافع أدوارد سعيد عن نظام صدام حسين، لكن إدانته له في الصحافة العربية حصراً لم يكن كافياً، ففي مقالاته الكثيرة التي نشرتها لوموند ديبلوماتيك الفرنسية كان يغرق في سرد تاريخ أميركا الأسود ويتجنب بذلك الحديث عن جرائم نظام البعث وأهوائه في القتل. ومن حقنا اليوم أن نسأله ولو كان في قبره، لماذا السكوت عن حلبجة واعتبار كارثة قصفها بالأسلحة الكيمياوية صنيعة إيرانية وإبعاد صورة البعث عنها، إذ كتب بتاريخ 7 /3/1991 قائلاً: <<لأكثر من مرة تم التأكيد على أن النظام العراقي استخدم الأسلحة الكيمياوية ضد مواطنيه. ولكن في أحسن الأحوال فإن هذه المسألة موضع شك. وعندما كان العراق حليفاً لأميركا تحدث تقرير لكلية الحرب عن استخدام إيران للأسلحة الكيمياوية ضد الأكراد في حلبجة. ولا يتحدث عن هذا التقرير في وسائل الإعلام إلاّ أناس قليلون>>. لماذا اعتبار <<القسوة والصمت>> معلومات مضللة عن العراق؟ أليست هناك طريقة أخرى لمحاربة كنعان مكية إلاّ من خلال دحض تلك الوثائق التي تثبت الأنفال وفاشية البعث؟ يقول الشاعر والناقد العراقي فوزي كريم في مقال بعنوان <<عن إدوارد سعيد ومكية، وإستغاثة القتيل>>: <<إن إدوارد سعيد يحاول جاهداً أن يعالج أزمة العراق مع أطماع الإمبريالية الأميركية. ويتأمل معالجة كنعان مكية من هذه الزاوية فيأخذه الغيظ، لأن الأخير لا يكاد يرى إلاّ أزمة العراقيين في مسلخ نظام صدام حسين، إلاّ جثث القتلى وخراب القرى والمدن المهجورة. لأن الأخير أجل عداواته الى حين. أجل عداواته في حربه القومية وحربه الأممية والإنسانية إلى حين، وتفرغ لا للحرب مع صدام حسين، بل للاستغاثة والنجدة. إنه لم يعد يملك حتى طاقة المقاومة السلبية في الصمت وتجرع الأذى والضيم>>. ولا يتورع الكاتب نفسه في مقال آخر بعنوان <<أهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي>> عن تشبيه علاقة المثقف العربي مع نظام البعث بعلاقة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر مع النازية: <<إن هايدغر الفيلسوف الالماني الكبير، اندفع باتجاه النازية وعانق افكاره بحماسة، ولم يعد، حتى آخر حياته آسفاً او شاعراً بالذنب، وهو يعبر ملايين الجثث، التي قتلت بأسلحة الافكار. لسبب قد يبدو هيناً بسيطاً في عين احدنا، هوأن هذا الفيلسوف، شأن كثيرين، لم يُلحق بعالم افكاره المتألقة المثالبة معرفة كافية بالحياة العامة. حتى اصبحت تلك الافكار المتألقة غائمة بفعل المشاعر الشخصية الملتهبة، وبفعل الجهل بالكائنات الانسانية. وأي اضاءة لهذه العتمة لا تتم إلا بترويض هذه المشاعر الجامحة>>. والمثقف العربي لم ير من الفانتازيا الصدامية سوى نموذج حلم بسماركي للعرب وتماه ساذج مع جميع تلك البطولات الداخلية التي صنعها من خلال تصغير الجميع أمام تماثيلها العملاقة. عندما سقط الطاغية وتعبت التماثيل من عدها ورؤية الدبابات لالتقامها وجرّها في الشوارع وزهق الأطفال من تعذيبها، ظهور المقابر الجماعية، أرامل الأنفال، بعد كل هذا، لم يتردد المثقف العربي عن فعل تحويل قسري لكل تلك الصور التذكارية الأليمة في مزرعة البعث إلى مقولات شمولية مثل <<كل البلدان العربية لديها مقابرها الجماعية وسجونها فلماذا الحديث عن العراق فقط>>. ولم تحرّك المقابر الجماعية بالتالي ضمير المثقف العربي كما حرّكته أوهام يومية أطلقها وزير كذاب محمد سعيد الصحاف ضمناً لم ير في سقوط بغداد ما رآه المثقفون العرب. تكمن في سياق هذه الإشكالية الأخلاقية، <<هايدغرية عربية>> تصيب المثقف وتضعه خلف تاريخ الوجدان القمعي المهيمن على المصادر <<الجوّانية>> لمفهوم الإنسان المركز. وتبقى العلاقة المتصلبة بين بيروقراطية الدولة الشمولية وثقافة تكرّست لتأسيس نظريات المؤامرة، عبارة عن جداريات زجاجية تنعكس فيها صور الكاريزما وملازمات الهروب من الحرية .
تعليقات