خالد سليمان
كان إعلان جائزة نوبل في السنوات الماضية مناسبة للتعرّف على كتاب غير معروفين عالمياً وإكتشاف عوالم أدبهم . أما هذا العام ، فشكل هذا الإعلان مناسبة لإعادة إكتشاف واحد من أهم كتاب المسرح في النصف الثاني من القرن العشرين وهو " هارولد بنتر " ، المدافع العنيد عن حقوق الإنسان والشعوب وقيم الحرية ، والحلقة الأهم بين الكلاسيكية و الحداثة في المسرح الحديث . لقد اختار هذا الشاعر والمسرحي أصعب موقع داخل الثقافة الأوروبية المعاصرة ، وهو الغضب والصمت معاً . ففيما اتجهت التيارات العبثية والغاضبة في كل من باريس ولندن نحو التركيز على الحركة والعنف اللفظي في تحديهم لمأسسة المأساة الإنسانية التي تركتها الحربين الكونيتين بالإضافة إلى الأسئلة الوجودية التي كانوا يطرحونها ، خص بنتر نصوصه بالثرثرة والصمت واللاإتصال ،وخبأ غضبه في دهاليز لغة نثرية متقطعة أدهشت الكثير من المخرجين المسرحيين . فهي ( النصوص ) طالما جمعت بين السكون والحركة الموقعية للممثل تركت فضاءاً يسع للغة والأنين الداخلي أكثر من الحركة الفيزكية .
هناك بدايات كثيرة للحديث عن هارولد بنتر وحياته الموزعة بين المسرح والشعر والسياسة ، فهو جزء من ظاهرة مسرح الغضب الذي أطلقه كل من ( جون أُزبورن و جون آردن ) وآخرين في الحياة الثقافية البريطانية أواسط القرن الماضي . لكن بنتر لم يمش مع التيار بأن نحت عالماً خاصاً به ، اتجه فيه نحو التشخيص الشعري للحالة المسرحية ، ابتعد بالتالي من " الديالوغ " وسيطر " المونولوغ " السردي على أجواء نصوصه ضمن غرف مغلقة .
كان تفرّد الإنسان بذاته وابتعاده عن بيئته الإجتماعية والتاريخية هو الميزة الأساسية في نصوص بنتر المسرحية ، ومن هنا ظهر الماضي مستبداً بشخصياته واصبح عاملاً مهماً في تكوينها النفسي ، ذلك انها – الشخصيات – تخاف الحاضر وتخضع نفسها إلى خبث لغوي مقتضب ،تتملك فيه المرء رغبة في الإنتقام من الخارج طالما شكل مصدر التهديد لها .
وفي الغالب ترمز الشخصية عند بنتر إلى حالة أو زمن او تاريخ ما ، ولايمكن إكتشاف العلاقة الداخلية في نصه بالتالي دون البحث عن مصادر لغته المكثفة ، المقتضبة ، المتقطعة . ذلك ان ابعاد الشخصية البسيكولوجية لديه ترتسم وفق البعد الرمزي للماضي في حياتها . ولو رجعنا إلى مسرحيته الشهيرة " الحارس " التي كتبها عام 1959 ، أي بعد عامين من مسرحيته الأُولى "الغرفة " ، نرى دخول شخصية العجوز إلى منزل أخوين واختراق علاقتهما " الهشة " يتحول إلى السيطرة على البيت . وليس للعجوز الغريب ماض في حياة الأخوين اللذين فقدا حضورهما بعد ظهوره ،لا بل هو قوة لامرئية أوجدتها العلاقة ذاتها ، ذلك انها ضبابية وهشة في جوهرها .
في مسرحية " الأيام الخوالي " تتكرر ثيمة " الحارس " على نحو آخر وبين زوجين اكتشفا بعضهما بعد عشرين عاماً من الحياة الزوجية . في يوم هادئ وعادي يعيشه الزوجان تزورهما صديقة قديمة وتقلب حياتهما الهادئة رأساً على عقب . بعد دخولها تدخل الزوجة إلى الحمام وتبدأ الضيفة بحوار مع الزوج حول زيف علاقته بزوجته وان هناك خيانة بينهما تستمر منذ عشرين عاماً . عندما تخرج الزوجة من الحمام تنتهي " كذبة " البيت الزوجي الهادئ وينكشف ظلم الماضي عليهما . تبدو الفكرة هنا قاسية وفيها قدر كاف من العنف اللفظي والجسدي ، لأن الخيانة الزوجية هي في الأساس إشتراط مألوف للإنفعال والصراخ والبكاء إلخ .. من أدوات العنف . لكن بنتر كعادته استخدم لغة الصمت بين الشخصيات الثلاث ( الزوج ، الزوجة ، الصديقة ) التي بدت وكأنها تخص بكلامها أناس آخرون وليست ذواتها . رغم ان الكاتب اعتمد مونولوغات طويلة في هذا النص وأننا لم نلحظها في مسرحياتها الأُخرى ، لكن فترات الصمت التي تتخللها تقتضب الجمل والأفكار ويعود الكاتب بالتالي إلى اسلوبه الشائع في استراتيجية تشخيص اللغة الدرامية المسماة اليوم بـ " البنترية " ، وهي لغة سهلة ، كلماتها قليلة ، وجملها قصيرة ، ونعثر عنده أيضاً على بساطة لفظية . اعتبر نقاد مسرح بنتر في تحليلهم لهذا النص بأن الشخصية الثالثة " الصديقة " ، هي الزمن الواقع بين الخيانة ولحظة اكتشافها ، أي انها بعد رمزي اقتضته نهاية حياة زوجية مزيفة .
في مسرحية " الصمت " تواجه ثلاث شخصيات أُخرى ماضيها عبر لقاء غير حميمي . يبدأ الحوار بينهم في مكان غير محدد ، وتتكلم كل شخصية عن ذاتها عبر جمل غير مفهومة ووصف شعري أحياناً ، لكن في سياق أحاديث إنفرادية يبدو انها كلام إرتجالي من عمل الممثل ذاته . وظهرت " البنترية " من خلال أسلبة هذه التقنية الكتابية لدى بنتر في جميع مسرحياته التي اعتمد فيها على الكلام أكثر من اللغة . الأحساس الغالب لدى المتلقي في المسرح البنتري هو ان الممثلين يتكلمون وتتضمن حواراتهم العفوية والصمت والسهولة والضبابية احياناً . فمثلما نقول في حياتنا العادية ( لم أقدرأن افهم عليك ) لا نفهم على الشخصية البنترية أحياناً ،لأنها ترتجل وتقطع الكلام في اعالي الغضب صمتاً كما في مسرحية " لغة الجبل " التي نأتي إلى ذكرها أيضاً.
إذاً ، هناك وراء " البنترية " ظاهرة إرتجال الكلام في النص وفق ميكانيزم التغيير الموضعي له ، أو تبديل مساحاته المحسوسة . ويأتي إستقدام النص الخلفي " الباغراوند " وإعلانه في متن النص المقروء ، ضمن التبديل ذاته وجسد دافع كامن لبقاء اللغة كشيء غير مكتمل . لذا حاول المخرجون والنقاد والممثلون قراءة نصه وفق آلية النص ذاته وليس وفق ثقافتهم المسرحية والموسوعية ، لأن التتمة الموضوعية للحدث أو التحول الدرامي ، طالما اصبحت تراثاً مسرحياً درامياً ، اختفت لديه وأصبح قول شيء في بداية النص مثلاً ، لا يعني إلا تلك البداية ؛ أي تلاشي التسلسل المنطقي للأشياء . وقد تميز بنتر في هذا السياق بنحت لغة تصلح للصمت والعزلة ، ذلك انها ليست لغة حوارية وأن فيها إسترسال متقطع يشبه الهذيان في أعلى درجات الضجر .هذا ما نلاحظه في "الأيام الخوالي " إذ تسترسل الشخصيات الثلاث حوارها وصمتها دون الإستماع للآخر ، وكأن كل واحدة منها تريد إعلان شيء عن ماضيها لإلغاء حاضرها .
تجدر الإشارة هنا إلى ان حركة الممثل في جميع نصوصه باستثناء " لغة الجبل " محدودة ،لا تتجاوز موقعه الفيزيكي ، وللسبب ذاته تبقى حركة موضعية ولا تتداخل مع حركة الممثلين الآخرين . ففي "الصمت" كما في "الأيام الخوالي" و"الحارس " يجلس الممثل على كرسيه أو يتحرك في دائرة محدودة . نفهم من هذا السكون أو " التحرك الموقعي " الذي تقتضيه حالة الشخصية الداخلية ولغتها ، ان هناك ثنائيات لصيقة ببعضها في البنترية وهي : الصمت والكلام ، الظل والضوء ، الإقتضاب والإسترسال . وهي بالتالي شكل من أشكال الإرتجال الكتابي لديه . يمكنني القول في هذا السياق وبعد تجربة إخراجية لي عام 1989 لمسرحية " الصمت " في مدينة السليمانية في كردستان العراق وقراءة نصوص أُخرى مسرحية وشعرية له ، ان " البنترية " هي الإرتجال الكتابي . وفي هذا المنحى الكتابي الذي تتميز فيه اللغة بأجواء " كلامية " تتذاهن الشخصية المسرحية مع شروده ومقتضيات حالة نفسية تفرض طقساً " تشيخوفياً " من حيث الهدوء والغضب الداخلي . لكن مقاربة كهذه ، لايمكَّننا التشبث إلاّ بإستعارة إيحائية بين لغة تشيخوف المحبوكة وفق تشخيص درامي اعتبره نقاد المسرح البذور الأُولى للمسرح اللامعقول وبين اللغة البنترية التي تعتمد السردية المقتضبة . رغم ان نقاد مسرح بنتر لم يشيروا إلى تأثر البنترية
بـمسرج تشيخوف الذي أرسى مع كل من أُوغست ستريندبرغ وهنريك ابسن معالم مسرح العبث في أوروبا ، إلا ان هناك تأثيراً واضحاً من حيث بناء الشخصية وعوالمها المسكونة في الصمت . فتلك " الحوارات الذاتية " الطويلة التي تتميز بها الشخصية التشيخوفية وتمنحها صورة " المرتجل " على الخشبة ، نلاحظها لدى بنتر في " حوار إنفرادي " مقتصرعلى تصورات ممكنة للإرتجال ،لكنه حوار مقتضب كما أشرت .في عام 1985 قام بنتر مع المسرحي الأمريكي الشهير " آرثر ميللر " بزيارة إلى تركيا وتعرّف هناك على مأساة الشعب الكردي المحروم من التكلم بلغته الأم والذي تمنع عليه ثقافته الموروثة الشفاهية والكتابية . كان للزيارة اثر خاص عليه ،دفعه لكتابة نص مسرحي عام 1988 بعنوان " لغة الجبل " ، يتناول فيها حيثيات محاكمة عسكرية تركية ذعنت لها إمرأة كردية بعد أن عضها كلب " الجندرمة " وهي في طريقها للمدينة كي تزور إبنها في السجن . ولأن القانون المديني التركي لا يقبل أية شكوى إلاّ باللغة التركية يقول لها الضابط ( أنت لا تجيدين لغة المدينة وتتكلمين بلغة لا نفهمها ، إنها لغة الجبل . لا يمكن محاكمة كلبنا قبل أن نسمع مالديك بلغتنا نحن ) لكن الأُم لم تسمع في حياتها غير لغتها التي تغني بها لإبنها عندما كان صغيراً . والآن تتحرق لرؤيته ، ما لها بهذه المصيبة .انها تريد ان تلتقي بولدها وحسب، وهذا الكلب الذي يرجع لهم عضها ، فيجب عقابه . ترفض المحكمة العسكرية طلب الأُم بمعاقبة الكلب ، ولكنها تسمح لها بزيارة السجن مع خطيبة إبنها للقاء ه ، شرط ان لا تتكلما غير التركية . ولا تتكلم الأُم ولا الخطيبة غير الكردية فيفرض الصمت بالتالي شروط اللقاء .
تعليقات