خالد سليمان
لوصف إشكاليات المثقف العربي المستقوية بالخيال القومي والانحياز الدائم للنموذج <<الهايدغري>>، قد يحتاج المرء إلى متابعة يومية جادة لجميع تلك الأفكار التي تطرحها النخبة المثقفة حول القضية الكردية وتجلياتها في الصحافة العربية. ذلك ان فكراً يومياً منحازاً <<للقائم>> في العالم العربي يسوق أغلب الرؤى السياسية والثقافية التي تراها النخبة ذاتها، مناسبة للقضية الكردية. ولا يخرج هذا الفكر من السياق العام لوضع حلول إنشائية تعتمد العروبة لقضايا <<الآخر>> بالدرجة الأساس. لعل ما يميز استفحال هذه الإشكالية التي تضع تمثلات المثقف الأخلاقية محل الريبة والشك، هو اعتماد مقولات كلاسيكية مألوفة لمشكلات سياسية واجتماعية وثقافية، لم تحلها الأفكار القديمة وأصبحت إحدى المعضلات الرئيسية للراهن المحتضر. قد لا أبالغ إن قلت إن رؤية رئيس تحرير <<السفير>> جوزف سماحة للقضية الكردية في مقاله المعنون <<الشعب الكردي والطوائف العربية>> في عدد يوم 09/8/2005 في الصحيفة ذاتها، تجسد الثيمة الأساسية لفكر سياسي يومي سائد يقترن غيابه أو اختفاء دوره التاريخي بحضور <<الآخر>>. فالمحاور الأساسية التي بنى عليها السيد سماحة رؤيته حول الحضور الكردي في العراق في المقال المذكور هي: الاستقواء الكردي بالوجود الأميركي وبالضعف العربي اليوم، والتأثر بالوعي الصهيوني، والرفض الكردي <<الشعبي والرسمي>> للبقاء في العراق <<العربي>>. من هنا يمكننا مناقشة تلك الأفكار التي يطرحها الكاتب في سياق مقاله المذكور إذ يسجل فيه حصيلة تاريخ طويل من الصمت حول تراجيديا <<الشقيق الكردي>> مع تنبيهه من مغبة الابتعاد عن العروبة. ولأن الكاتب يرى أنه (لا يمكن للعرب مطالبة الأكراد بمشروع إنقاذي للمنطقة. ليست تلك مهمتهم، ولا هذه <<رسالة>> الأقليات)، لا يمكن تصديق قابلية <<الأغلبيات>> للاحتواء والتعايش أيضاً. وكون السياسة هنا، تتجسد وفق حق الغالبية في تسمية مكوناتها وأشكالها، لا تحتمل آراء الكاتب سوى العودة إلى حلول إجرائية سبق وأن جرّبها النظام البعثي في تعاطيها مع القضية الكردية. هذه ليس اتهاماً للكاتب وهو معروف بموقفه من نظام صدام حسين، لكن تلاقي الحلول الإجرائية التي تقترحها النخب العربية الحاكمة والمثقفة للمشاكل الناجمة عن فشل نموذج <<الدولة الأُمة>> مع الآخر، تحمل أبعاداً سياسية ترتسم على <<المعطف>> القومي الواسع والدافئ للجميع. لكن برد الاضطهاد السياسي والقومي يسلك طريقه لحياة الأُمة وفقاً لمنطلقات النخب ذاتها، من خلال نوافذ أقامها التدخل الخارجي، أو عبر حضور الوعي الصهيوني عند <<الأقليات>> في المنطقة. يقول جوزف سماحة: <<يبدو، أحياناً، أن في <<قلب>> كل أقلية، وكل وعي أقلوي، شيئاً من الرغبة في محاكاة النموذج الصهيوني بصفته المثال على نجاح حفنة قليلة العدد في امتهان عشرات الملايين، ومصادرة حقوقهم، وإذلالهم، والتنكيل بهم أو اعتراض طريقهم المشروع نحو التحرر والنهضة>>. لم تستوقفني أية فكرة في المقال مثل هذه الفكرة التي أعتبرها جوهره، ذلك انها تركز على تماثل ايديولوجي مفترض بين الصهيونية و<<الحركة الكُردية>>. لأن الرغبة في المحاكاة ليست مجرّد رغبة، بل انها عنصر فعّال لأي حلم وأي مشروع سياسي. لهذا لا يمكن تفسير كلام الكاتب بأي منطق سوى انه التأكيد على رغبة الأكراد في التنكيل بالعرب. لأنهم أي الأكراد يعتبرون العداء مع إسرائيل مفروضاً عليهم ومستورداً برأيه. لا يمكن اعتبار هذه الرغبة العربية بتخوين الكرد، إلا تحميلهم مسؤولية فشل مشروع الوحدة العربية، ووضع قضاياهم القومية والإنسانية محل <<يهودية جديدة>> تمخضت عن الغزوة الكولونيالية التي يستعد الأكراد لتقديم الخدمات إليها. ورغم ان الدولة الإسرائيلية ولدت في أحشاء الدين وتختلف هويتها السياسية والثقافية اختلافاً جوهرياً عن هوية الكرد القومية التي طمستها عوامل عدة منها الطبيعة الجيوبوليتيكية لكردستان واتفاقية دولية استعمارية عام 1924 <<لوزان>> سمحت بموجبها بتقسيم كردستان على أربع دول. فإن علاقة مفترضة بينهما تشغل الرأي العربي الرسمي والشعبي والثقافي وتسوق أي تحرك كردي لتجاوز الوضع السياسي القائم والخروج عن <<الثوابت>> المُقدسة، باتجاه الآيديولوجيا الصهيونية. والحال هذه، تبقى المطالب الكردية في صياغة الدستور العراقي الجديد برأي الكاتب، والتي تتعلق أكثريتها بالهوية العراقية لا الكردية، هي الاستقواء ب(الانهيار المريع في الوضع العربي العام وتراجعه الشامل عن قدرته على الإمساك بمصيره، وعجزه عن بلورة أنظمة ذات قاعدة تمثيلية، واختناقه الثقافي والحضاري). لماذا اتهام <<الكُردي>> على شيء لم ينوه، رغم أنه لم يطالب سوى بحقوق شرعتها جميع المواثيق الدولية والإنسانية. إن الرغبة في إعادة بناء العراق تقتضي جميع الوسائل المتاحة، وللكردي الحق في سياق مثل هذه العملية، المطالبة بحقوقه من ضمنها حق تقرير المصير. فإذا كانت (رغبة الانفصال والاستقلال تعمّ القيادة والقواعد والنخب والشباب) في كردستان كما حدث في استفتاء هذا العام على هامش الانتخابات العراقية الاخيرة، لم لا. ماذا سيكون رأي النخب العربية المثقفة إذا حصل استفتاء ثان في كردستان وصوت المشاركون هذه المرة بالنسبة 99 بنعم لصالح الاستقلال. هل سيكون الرد مطالبة العسكر بالتدخل أم احترام إرادة شعب له وجوده القومي والتاريخي واللغوي وكل العناصر الأُخرى التي تثبت الهوية القومية. (كان يتمنى المرء لو أن جلال الطالباني، أو غيره، أصبح رئيساً في سياق تطور طبيعي وديموقراطي للعراق وللفكر القومي العربي. كان ذلك سيكون دليل عافية ونمو، وبرهاناً على أن حل مشكلة الأقليات هو الوجه الآخر، والتتمة المنطقية، لنجاح الأكثرية في التصدي للتحديات المطروحة عليها). مفاد هذا الكلام الذي لا يبدو سوى انه مقدمة منطقية ل<<صَهيَنَة>> الحلم الكردي في تأسيس كيانه المستقل في المنطقة، يتمثل في أن العالم العربي هو عالم قلق، مريض، والفكر القومي العربي الذي يرى الكاتب بيئته الحضارية والثقافية مختنقة، ليس قادراً على التعايش في عالم مختلف إلى هذا الحين. لأن الانهيار العام للوضع العربي والاختناق الحضاري والثقافي الذي يتحدث عنه ويعتبره عنصراً من عناصر الاستقواء الكردي، لا يمكنه إنتاج فكر يرتقي إلى مستوى الأحداث والتغيرات. هذا، إذا اعتمدنا السياق التاريخي لنشوء وتطور الفكر ذاته. في سياق نفس الفكر اليومي الذي أشرت اليه في البداية، نلاحظ ان وصول <<مام جلال>> بالنسبة لجوزيف سماحة إلى منصب رئاسة الجمهورية كان (ثأراً غربياً من العرب)، دون وضع الحركة التحررية الكردية والحركة الديموقراطية العراقية في الحسبان، اللتين وضعتا مستقبل رئيس صنمي للعراق محل السؤال عن ديموقراطية ولو متأرجحة!
تعليقات