خالد سليمان /مونتريال
يعد التخبط السياسي والإقتصادي والإجتماعي الذي يعيشه العالم العربي اليوم ، هو في جوهره غير مستحب للتبيان آيديولوجياً ، تأصل لجفاف تاريخي في العلاقة بين الثابت والمتحول . وهو " أيضاً " فعل تكرار ماضوي لنظم فكرية عقادئية دينية وقومية تعتمد فلسفة " الحضارة السردية " في وصف ذاته . ففي أطواره المابعد- كولونيالية ، ورغم تغييرات راديكالية في العالم تمخضت عن اختفاء وظهور كيانات سياسية كثيرة ، بقي العالم العربي متأثراً بأقدامه الثابتة في وحل تخلف إجتماعي وثقافي منعزل عن مفاهيم التحول .وقد لا يشكل التحول اليمني الذي هيمن من خلاله الرئيس الشمالي علي عبدالله صالح على اليمن الجنوبي " الإشتراكي " في بداية تسعينات من القرن الماضي، سوى خطوة إلى الوراء ، وفيه ، انتفت الحاجة للتحول السلمي طالما ابتغى "الرادع العسكري " الإمساك بجميع الوسائل .
قبل الحدث اليمني المشروط بالتصدع الداخلي ، كان الغزو العراقي للكويت (1990) الذي انتفخت فيه السياسة اثر تضخم المطلق القومي واكتفاء الآيديولوجيا البعثية بالثابت ، مناسبة أُخرى لردع إحتمالات التغيير . فبرغم ان الغزو وشروطه غيّر خطوط بيانية عريضة في السياسة العربية حينئذ ،وأحدث إمكانات إرتجالية كثيرة لمراجعة العلاقة بين القومية والدولة ، لكن رغبة تذليل الإمكانات الإرتجالية ذاتها بين الأنتلجنسيا العربية كانت أقوى .
لقد أعتمدت القومية العربية الزواج الكاثوليكي في علاقتها مع الدولة ،لكن ذلك لا يمنع طرح فكرة الزواج السببي بين المجتمع والسلطة . ذاك ان المساحة المتوفرة لإعلان Le mariage de raison
الأشكال المتحركة للإرتباط الإختياري لم تبد ضيقة فحسب ، بل كانت مرهونة بآليات التضييق . وتآبد تالياً ، الدوغما السوسيو-ديني سياسياً وصار بإمكان الفعالية القومية بناء العلاقة وفق معطيات " سببية " لا تجيز الإفتراق سوى تحت سقف بيت واحد . بذلك ، لم ينتم العالم العربي في أطواره المابعد-إستعمارية إلى فلسفة ( دعه يفكر ، دعه يمر ) ، يعني ، انه بقي في إطار سردي تاريخي تستلهم عناصره الداخلية من " القُدسي " قبل اللغة والدين والتاريخ . والمعروف ان هذه المقولة الفلسفية التي هي إقتصادية أساساً وطرحها " آدم سميث " على نحو التالي : ( دعه يعمل ، دعه يمر ) ، وتحرر الفرد على أثرها من Autocentréeتحولت في عصر الحداثة الأُوروبي إلى وعي مؤسس لـمركزية ذاتية
من قيود القُدسي .
وإذا ذهبنا أبعد من تسمية العروبة ،التي أطلقها قوميون عرب على مشروعهم الهادف إلى الوحدة المجردة من التنوع ، يمكن وضع " القُدسي " في سياق وضع " ثوري " ، أُستحضرت فيه المحاكاة السياسية شرطاً للنجاح . فتأثير حركة " الأتراك الجدد " القومية بعد هيمنتها على الثورة المشروطية في تركيا على رموز العروبة الأوائل كان واضحاً ، وأصبحت رغبة تقليد النموذج التركي لدى كل من زكي آرسوزي وساطع الحصري جزءاً من قيم العروبة . وهذا لا يعني بطبيعة الحال ان العروبة تشكلت في رحم غيرها ولاتملك شروطها الذاتية ، وإنما هناك ، تكريساً للمحاكاة الثورية ضمناً ، بيئات إجتماعية ثقافية مختلفة تحاكي بعضها البعض وفقاً للمقومات البسيكولوجية للإنتماء القومي .
بيد ان نجاح كل من القوميين الأتراك والعرب في الوصول إلى السلطة ، رغم إنحيازهما المختلف للتاريخ ، يعد عاملاً مستقدماً على التاريخ نفسه ، ذلك ان مقاسات قومية مركزية مستقوية بعَسكَرَةُ حضورها، أصبحت قرينة أي أُفق لتجانس الإختلاف القومي والثقافي . وفي خاتمة المشهد العثماني الصدأ في أوائل العشرينات من القرن الماضي ، والتصدّع الذي خلفه ورائه ، أصبحت فكرة الإستقواء بجديد غير مولود على أيدي القوميين مشروعاً غارقاً في الرمزية الوطنية ، وفيه أيضاً – المشهد – تأسلب نموذج القومية الأوروبية كمدخل للتمارين والمحاكاة .
كل ذلك ، والقديم الإمبراطوري ( العثماني ) الذي ، " فضّل عدم التعرض للغات الأُمم التي دخلت في حيازته " حسب سليمان البستاني (1856-1908) ، كان يحتضر ولم يمت ، وكانت الإشكالية التاريخية بين جديد القوميين وقديم الإمبراطوريين غاية في التعقيد إذا استعرنا تعبير غرامشي لذلك . فالفكر القومي عند العرب والأتراك بهذا المعنى الـ " غرامشي " لجدلية القديم والحديث ، كان جزءاً من عملية تأصيل العلاقة " السببية " وأزماتها المتكررة نحو نقطة أبعد وهي العلاقة القسرية أو الزواج الكاثوليكي كما هو شائع في اللغة السياسية . لان العلاقة ذاتها ، وفي طورها العثماني تميزت بأبعاد أُخرى مما هي كانت عليه في ظل القوميين لاحقاً.
يقول سليمان البستاني في مقاله المشهور عن " الدستور والتعصب " : ( وهو معلوم ان سياسة التسامح التي جرت عليها سلاطين آل عثمان ، في عدم التعرض للغات الأُمم التي دخلت في حيازتهم ، كانت مع كل حسناتها سبباً في بقاء كل هذا الأُمم على غير تلاؤم واندماج . واللغة التركية على كونها لغة الحكام كانت بحكم المجهول في بعض أجزاء السلطنة . والظاهر انهم حاولوا بعض المحاولة تلافي ذلك التباعد إذ يروى عن السلطان سليم الأول انه على اثر فتح مصر ومبايعة المتوكل على الله العباسي له بالخلافة أراد أن يتخذ العربية لغة رسمية فلم يتسن له ذلك ، فلا ذاعت العربية ولا عمت التركية . فقيت كل أُمة منفردة بلغتها وليس لها ما يكفي من الإلمام بلغة الدولة الحاكمة . وحيث لا يحصل التفاهم لا يحكم الاندماج والتمازج ) .
بدورهم ، وبعد إنتصار " الأتراك الجدد " إذ سيطروا على منظمة " الإتحاد والترقي " عام 1908 ولاق مشروعهم القومي " الطوراني " رواجاً ، سارع القوميون العرب إلى طرح بديل واضح لتلك " الفوضى اللغوية " المتنوعة التي كانت ترسم للعثمانية معانٍ للسياسة والحكم . وكانت العروبة كمفهوم جامع لتشتت الأُمة بديلاً للحالة الدستورية العثمانية طالما بقيت بلا أثر يذكر منذ الإعلان عن تأسيسه عام 1876 في ظل حكم السلطان مدحت باشا .
ولكن البيئات العربية " المشرقية تحديداً " ، والتي كانت – ولاتزال- تعاني من مشكلات دينية ومذهبية ، بالإضافة إلى ظروفها الإقتصادية والإجتماعية القاهرة ، وقفت بعيداً عن الفكر الذي طرحه العروبيون . ذلك ان انها بيئات كانت تحمل من الرمزية الشعبية والدينية " الشفاهية " أكثر من المعاني القومية . فحتى الطبقة المثقفة العربية في الفترة التي سبقت ظهور الحركات القومية المستولِدة لمعاني المحاكاة السياسية ، كانت تنقسم بين فئتين دينيتين ، احتلت الأُولى مراكز رسمية واضطلع دورها في إيضاح المثل الدينية والمعنوية للمجتمع في كل من الحياة اليومية والمناسبات الإحتفالية بإعتاره صوت الجماعة . بينما احتل العلماء المتوسطون مناصباً في الجوامع والمدارس الدينية والأضرحة المحلية بعيداً عن الموظفين العثمانيين الكبار ، وكانوا منهمكين في الوقت ذاته في أداء الشعائر الشعبية .
على هذا النحو ، تلخصت العلاقة بين القومية المستولَدة من بيئة إجتماعية وثقافية راغبة للإخضاع وبين رغبة محاكاة غيرها ، في حمولة رمزية اندرجت في سياقها إمكانات تحول لامتكافئ ، ذلك ان أسطرة " مجتمع ذو صوت واحد" أصبحت مشروع الدولة الوحيد . فالواقع الإجتماعي الذي كان يتميز بتنوع ثقافي وطائفي وتمزق تاريخي أيضاً ، أُستُبدل بآيديولوجيا منقوعة في القومية الإشتراكية والأصالة العرقية ، وتم تغليف الواقع بالتالي وفق إستعارات خطابية اعتمدت " الداروينية الإجتماعية " في تأسيس بيئة السلطة السياسية .
وفق هذا الإنتقاء الفكري الذي أبرزته الحداثة والذي سمي بالداروينية الإجتماعية بعدما تأسس كتيار مستقل بذاته في الأوساط الأوروبية والأمريكية ، جاءت " العروبة " لتحدث التحول الأقسى في المنطقة وهو تأصيل النزعة القومية ليس سياسياً فقط ، بل إجتماعياً وثقافياً . هناك نص في دستور حزب البعث يقول :
(أقر حزب البعث في المادة الخامسة عشر من دستوره بأن الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدول العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين و انصهارهم في بوتقة امة واحدة, و تكافح جميع العصبيات المذهبية و الطائفية و القبلية و العرقية و الاقليمية).
يمكننا القول بأن النص هذا ، الذي تنتفي فيه الحاجة للإختلاف ، يجمع القوميين والإشتراكيين و"الإجتماعيون الجدد " والإسلاميين برغم تنوع مشاربهم . ومن هنا يتبين مدى تلك المسافة التي تفصل بين هذا الفكر والواقع المؤسِس لمعضلاته التاريخية والثقافية ، لأن هناك حالة ولادة قسرية لحمولة القومية الرمزية . لكن الجنين لم يظهر إلاّ على شكل إنسان بائس ذو بعد واحد ؛ أي ولادة نكوصية . وبما ان البلدان التي أُثقل كاهلها بعبئ العروبة الرمزي ، كانت تتميز بالتنوع الثقافي والأتني وبإنشاءات كولونيالية على التاريخ والجغرافيا ، اتجهت " الحلول البديلة " لتلك الفوضى اللغوية التي تركها العثمانيون نحو التعريب . فبدل إعتماد الأنسنة والإنفتاح على الآخر ، خصت العروبة لذاتها إصطلاحاً غريباً وهو التعريب أو الإنصهار كما جاء في النص الدستوري " الحزبي " المذكور .
اقتصر التعريب البديل المتمثل كما أشرت في السابق في القومية الرمزية ،على الإنتماء للأُمة العربية من خلال الإيمان بآيديولوجيا العروبة ؛ أي انه تجسد في البدء في جهاز سياسي ترك مساحة العنف وراءه . لكن التحولات العسكرية التي شهدتها بلدان مثل العراق ومصر وسوريا وتجربة الوحدة المصرية –السورية ، وفيها الإنقلابات ، إذ وصل البعث بمقتضاها إلى السلطة في كل من سوريا والعراق ، أوجدت آليات جديدة لتوسيع مفهوم العروبة وهو إستقدام المساحة العنفية تلك إلى واجهة الحياة السياسية .
تعليقات