خالد سليمان
مونتريال
تبرز في عالمنا المعاصر مشكلات مستعصية تتجاوزحدود العولمة في تجلياتها الإنسانية والثقافية . فالفقر والحرمان والأمراض الفتاكة " آيدز " وتكاثر سكان المعمورة والتلوث البيئي ومشكلة المياه في الشرق الأوسط والجفاف الأفرو-آسيويين ، جميع هذه المشكلات التي تعد الوجه الآخر لتطور الحضارة البشرية خلال القرن العشرين .
لكن المشكلة القومية ، في تداعياتها العالمية والاقليمية تشكل إحدى اهم هذه المشكلات إذ ينعكس تأثيرها في الحدود السياسية والإقتصادية والثقافية للكثير من الدول والكيانات ، ليس في موقع المشكلة الجغرافي فحسب ، بل يصل التأثير ذاته في أحيان كثيرة إلى حدود الدول الكبرى التي لا تعاني هذه المشكلات في الأغلب . يتناول الباحث البريطاني " إريك هوبسباوم " ظاهرة ( الأُمم والنزعة القومية ) بجوانبها المختلفة واسبابها الكامنة في التاريخ واللغة والإقتصاد والجغرافيا والاثنية ، ويرى ان مفهوم القومية قبل عام 1884 كان يعني ببساطة " مجموعة سكان مقاطعة أو اقليم او مملكة " وما كانت للدولة علاقة بهذا المفهوم لحد العام ذاته -1884- .وكلمة "وطن" التي ارتبطت بالدولة فيما بعد ، كانت تعني قبل ذلك العام وكما وردت في المعجم الاسباني لعام 1726 " المكان او الناحية او البلد الذي يولد فيه
المرء " .
يعني ان مفهوم الأُمة بمعناه الحديث السياسي هو مفهوم حديث العهد من الناحية التاريخية ، ذلك انه حتى في المعجم الانجليزي كان يشمل أساساً الوحدة الاثنية . لكن الإستعمال الحديث يشدد بدلاً من ذلك على " فكرة الوحدة السياسية والإستقلال " . ولئن ظهرت في أوروبا قبل الفترة الواقعة بين 1830-1880 قوتان عظميان على المبدأ القومي وهم ايطاليا والمانيا بالإضافة إلى النمسا والمجر، يمكننا القول ان مفهوم الأُمم كان المضمون الجوهري لتطور القرن التاسع عشر ، إذ كان فيه للإقتصاد طابع دولي ذو سياسة " مركنتيلية "[1] حسب هوبسباوم وأخذت الحكومات تبرز بإقتصاداتها القومية الرأسمالية .
يتضح مفهوم القومية عند " أدم سميث " بتأكيده على ان الأُمة تتكون من مجموعة من الأفراد يعيشون على أرض الدولة . والمعروف عن " سميث " انه ربط نجاح الأُمة وإزدهار إقتصادها بسياق ثقافي يسبق النشاط الإقتصادي وهو قيم العمل الأخلاقية والإخلاص والشراكة والمجازفة .
هناك إذاً ، لكل أُمة " مركنتيلية " ثقافية تساعدها في بناء وإنتشار إقتصاداتها وقيمها . فإذا المركنتيلية السيا-إقتصادية دفعت الأُمم المتقدمة لإكتشاف العالم وإستعماره والبحث فيه عن مصادر إضافية للصدارة القومية ، ضمّن جانبها الثقافي شروط النجاح .
الفرنسي " سيمون ميشيل شفالييه " يؤكد على المبدا " السميثي " ذاته ولو بشكل آخر ويقول : ( إننا محكومون بأن نشغل أنفسنا بالمصالح العامة للمجتمعات البشرية وليس محضورا علينا ان ناخذ بعين الإعتبار الوضع الخاص في المجتمع الذي نعش فيه ) .
يمكننا القول هنا ان البحث عن المنزلة الرفيعة بين الأُمم ، كان حلماً ومشروعاً أوروبياً في القرن التاسع عشر فم توظيف كل الطاقات البشرية من أجلهما . ولا يمكن في هذا المجال ، نكران الوظائف الإقتصادية ولا منافع الدولة في البحث عن الذات القومية والصدارة العالمية الإقتصادية والسياسية المتمثلة بإنشاء مصارف دولية ، مسؤوليات قومية عن ديوان الدولة ، إيجاد دين قومي ، حماية الصناعات الوطنية بالتعريفات الجمركية المرتفعة والضريبة القومية الإلزامية .
نفهم تالياً ان شروط نجاح الأُمة لم تقتض الإقتصاد القومي وتعزيزه المنهجي من قبل الدولة فحسب ، بل ثقافة مُنَسِقة لسير العمل وأخلاقياته ، وللشراكة والمجازفة كما اشرت سابقاً .
هناك جانب آخر لنشوء الأُمم يتمثل في التطور الإجتماعي والإرتقاء بالوحدات الإجتماعية الصغيرة من العائلة والقبيلة إلى المقاطعة والكانتون ، من المحلي إلى الإقليمي فالقومي وأخيراً العالمي . اعتمدت هذه السياسة " اليوجينية " – أي علم تحسين النسل – على ثلاث قرائن رئيسية كما يحددها إيريك هوبسباوم وهي :
1- ارتباط تاريخي للمجتمع بدولة راهنة أو بدولة ذات ماض عريق تماماً أو حديث
2- وجود نخبة ثقافية عريقة تمتلك لغة بلدية ، أدبية وإدارية قومية مكتوبة
3- القدرة على الفتح الخارجي باعتباره نوعاً اجتماعياً للتطور
أما العوامل الأُخرى وراء مشروع الأُمة ، والتي هي ذات طابع سوسيولوجي فتتمثل في نظام اللغة بالإضافة إلى الاثنية والدين . ذلك ان وجود لغة أدبية وإدارية نخبوية مهما تكن صغيرة من حيث عدد مستعمليها الحقيقيين ، يمكنها أن تصبح عنصراً مهماً للإندماج الإرهاصي – القومي في حال ديمومتها مع المتطلبات الإقتصادية والسياسية والثقافية وتحديث ميكانيزماتها النخبوية حسب الأقاليم الإجتماعية ، اي تحويلها من النخبوية إلى العامة .
بالنسبة للاثنية فإنها ترتبط بالمجالين البيولوجي والسوسيولوجي للإنسان ، يعني أصل ونسب مشترك بين مجموعات إجتماعية من جانب ، واشكال ومنظومات علاقاتها من جانب آخر . وكما هو المعروف ، ان موضوع الاثنية يتصل بالاشكال التي تربط افراد مجموعة ما من خلال " القرابة "وصلة " الدم " والإنغلاق الثقافي واستبعاد الغرباء .
أما الدين وعلاقته بالهوية والإرهاص القومي ،فله تعقيداته وغموضه إلى أقصى درجة . وعلاقة كهذا ، تستقصي على التعميم البسيط ، لكنها تسمح للجماعات الاثنية باكتساب مصادر قوة يمكن ان تساعد لاحقاً في تحول هذه الجماعة إلى كيان قومي . لان الرموز او الطقوس والممارسات الجماعية المشتركة تعطي مجالاً كافياً للتكاتف بين المجموعات الإجتماعية ، إذ تتبدل فيه أنماط التفكير الاقليمي إلى وطني قومي حديث .
رغم جميع تلك الحجج الإقتصادية وملحقاتها العمالية والعسكرية التي تساند نظرية هوبسباوم وتؤكد بأن الدولة الحديثة التي اخذت شكلها النظامي من مبادئ الثورة الفرنسية ، إذ احتوت المجتمع في القرن التاسع عشر وحولته من ولاءاته المباشرة لحكام اقاليمه جغرافياً إلى مريدي الدولة ومؤسساتها التي كانت بحاجة ماسة لكي تباري منافسيها لكسب ولاء فئات الدنيا ، يبقي للقيم الثقافية وموروثاتها في العلاقات الإجتماعية دوراً مهماً ومؤثراً في تحديد مفهوم القومية والصدارة العالمية . ذلك ان المركنتيلية الثقافية التي تنتج الثقة والرخاء النفسي قبل السلعة تحدد الكثير من مزايا العمل القومي والشراكة القومية . فظهور سكك الحديد وآلة التصوير والسينما والراديو والتلفزيون والنسخ والتسجيل ، كان نتاج المرحلة القومية الأوروبية التي حوّلت ثقافة تقليدية في التواصل والتأسيس وفي المراكز الحضرية ، إلى ثقافات تأخذ على عاتقها الأسئلة التاريخية المتعلقة بمشكلات المجتمعات الإقليمية .
نستطيع القول من هنا ان مفهوم الأُمة أو الحديث عنها في القرن التارسع عشر ، كان جزءاً من الآيديولوجيا الليبرالية المولَّدة للثورة الصناعية التي فتحت العالم أمام الأقاليم المنعزلة ،وانعكس تأثيره بين الإشتراكيين الروس والأمريكيين إذ أرسى كل من لينين وويلسون مبدأ " حق تقرير المصير للشعوب " . تزامنت هذه المرحلة ورؤية مفكريها وسياسييها مع تفكيك الامبراطوريات في وسط وشرق أوروبا من جانب ،وبوادر الثورة الروسية " البلشفية " من جانب آخر .
تالياً ، كانت القومية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في أوجهها وظهر تأثيرها الأقوى في النضال ضد الفاشية إذ وضع اليسار دور العامل القومي المؤثر في الحسبان لمقاومتها ، فكان شعار تحرير شعوب المستعمرات المضطهدة مصدر قوة كامنة ذات اهمية للثورة العالمية .
يصل هوبسباوم في تحليله للأُمة وكيفية نشوءها إلى الرأي القائل بأن اللغة والدين والاثنية والجغرافيا ليست كافية لنشوء الأًُمة ، هناك عوامل أُخرى ذات تأثير كاف في تحويل الناس من أفراد في قبيلة واثنية إلى مواطنين للدولة ومؤسساتها .
تتجسد هذه العوامل في الإقتصاد والتجارة والسياسة والحرب إذ يمكن تسميتها بعوامل " نشوء القومية " أو الوطنية دون الفصل بينها وبين دعوات الثورة الفرنسية ومن ثم الإرهاص القومي عند الطليان والألمان في القرن التاسع عشر .
رغم ان النزعة القومية برأي الكثير من المفكرين الغربيين هي في طور ما بعد فقدان مهمتها المتمثلة بتطوير وتوسيع الإقتصادات القومية ، حيث تأخذ النشاطات الإقتصادية أشكالاً لا قومية في توسعها العالمي ، فإن قضايا عالمية متفجرة في الشرق الأوسط وأفريقيا وجمهوريات الإتحاد السوفياتي السابقة والبلقان تشير إلى مرحلة جديدة في الصراع القومي ولا يمكن بالتالي الفصل بين تلك الفترة التي ظهر فيها شعار " حق تقرير المصير للشعوب " (1918-1921) وبين عصرنا الحالي . ذلك ان الإرهاص القومي يرتسم في صميم المشاكل التي يواجهها العالم اليوم .
1/ مذهب سياسي ـ اقتصادي ساد أوروبا فيما بين بداية القرن السادس عشر ومنتصف القرن الثامن عشر. يرى أن مقدار قوة الدولة إنما تقاس بما لديها من ذهب ومعادن نفيسة وليس في قدرتها على إنتاج السلع والخدمات كما هو المقياس الحديث. تجيز المركنتيلية تدخل الدولة في الحياة
الإقتصادية بغية تحقيق فائض في ميزان المدفوعات
مونتريال
تبرز في عالمنا المعاصر مشكلات مستعصية تتجاوزحدود العولمة في تجلياتها الإنسانية والثقافية . فالفقر والحرمان والأمراض الفتاكة " آيدز " وتكاثر سكان المعمورة والتلوث البيئي ومشكلة المياه في الشرق الأوسط والجفاف الأفرو-آسيويين ، جميع هذه المشكلات التي تعد الوجه الآخر لتطور الحضارة البشرية خلال القرن العشرين .
لكن المشكلة القومية ، في تداعياتها العالمية والاقليمية تشكل إحدى اهم هذه المشكلات إذ ينعكس تأثيرها في الحدود السياسية والإقتصادية والثقافية للكثير من الدول والكيانات ، ليس في موقع المشكلة الجغرافي فحسب ، بل يصل التأثير ذاته في أحيان كثيرة إلى حدود الدول الكبرى التي لا تعاني هذه المشكلات في الأغلب . يتناول الباحث البريطاني " إريك هوبسباوم " ظاهرة ( الأُمم والنزعة القومية ) بجوانبها المختلفة واسبابها الكامنة في التاريخ واللغة والإقتصاد والجغرافيا والاثنية ، ويرى ان مفهوم القومية قبل عام 1884 كان يعني ببساطة " مجموعة سكان مقاطعة أو اقليم او مملكة " وما كانت للدولة علاقة بهذا المفهوم لحد العام ذاته -1884- .وكلمة "وطن" التي ارتبطت بالدولة فيما بعد ، كانت تعني قبل ذلك العام وكما وردت في المعجم الاسباني لعام 1726 " المكان او الناحية او البلد الذي يولد فيه
المرء " .
يعني ان مفهوم الأُمة بمعناه الحديث السياسي هو مفهوم حديث العهد من الناحية التاريخية ، ذلك انه حتى في المعجم الانجليزي كان يشمل أساساً الوحدة الاثنية . لكن الإستعمال الحديث يشدد بدلاً من ذلك على " فكرة الوحدة السياسية والإستقلال " . ولئن ظهرت في أوروبا قبل الفترة الواقعة بين 1830-1880 قوتان عظميان على المبدأ القومي وهم ايطاليا والمانيا بالإضافة إلى النمسا والمجر، يمكننا القول ان مفهوم الأُمم كان المضمون الجوهري لتطور القرن التاسع عشر ، إذ كان فيه للإقتصاد طابع دولي ذو سياسة " مركنتيلية "[1] حسب هوبسباوم وأخذت الحكومات تبرز بإقتصاداتها القومية الرأسمالية .
يتضح مفهوم القومية عند " أدم سميث " بتأكيده على ان الأُمة تتكون من مجموعة من الأفراد يعيشون على أرض الدولة . والمعروف عن " سميث " انه ربط نجاح الأُمة وإزدهار إقتصادها بسياق ثقافي يسبق النشاط الإقتصادي وهو قيم العمل الأخلاقية والإخلاص والشراكة والمجازفة .
هناك إذاً ، لكل أُمة " مركنتيلية " ثقافية تساعدها في بناء وإنتشار إقتصاداتها وقيمها . فإذا المركنتيلية السيا-إقتصادية دفعت الأُمم المتقدمة لإكتشاف العالم وإستعماره والبحث فيه عن مصادر إضافية للصدارة القومية ، ضمّن جانبها الثقافي شروط النجاح .
الفرنسي " سيمون ميشيل شفالييه " يؤكد على المبدا " السميثي " ذاته ولو بشكل آخر ويقول : ( إننا محكومون بأن نشغل أنفسنا بالمصالح العامة للمجتمعات البشرية وليس محضورا علينا ان ناخذ بعين الإعتبار الوضع الخاص في المجتمع الذي نعش فيه ) .
يمكننا القول هنا ان البحث عن المنزلة الرفيعة بين الأُمم ، كان حلماً ومشروعاً أوروبياً في القرن التاسع عشر فم توظيف كل الطاقات البشرية من أجلهما . ولا يمكن في هذا المجال ، نكران الوظائف الإقتصادية ولا منافع الدولة في البحث عن الذات القومية والصدارة العالمية الإقتصادية والسياسية المتمثلة بإنشاء مصارف دولية ، مسؤوليات قومية عن ديوان الدولة ، إيجاد دين قومي ، حماية الصناعات الوطنية بالتعريفات الجمركية المرتفعة والضريبة القومية الإلزامية .
نفهم تالياً ان شروط نجاح الأُمة لم تقتض الإقتصاد القومي وتعزيزه المنهجي من قبل الدولة فحسب ، بل ثقافة مُنَسِقة لسير العمل وأخلاقياته ، وللشراكة والمجازفة كما اشرت سابقاً .
هناك جانب آخر لنشوء الأُمم يتمثل في التطور الإجتماعي والإرتقاء بالوحدات الإجتماعية الصغيرة من العائلة والقبيلة إلى المقاطعة والكانتون ، من المحلي إلى الإقليمي فالقومي وأخيراً العالمي . اعتمدت هذه السياسة " اليوجينية " – أي علم تحسين النسل – على ثلاث قرائن رئيسية كما يحددها إيريك هوبسباوم وهي :
1- ارتباط تاريخي للمجتمع بدولة راهنة أو بدولة ذات ماض عريق تماماً أو حديث
2- وجود نخبة ثقافية عريقة تمتلك لغة بلدية ، أدبية وإدارية قومية مكتوبة
3- القدرة على الفتح الخارجي باعتباره نوعاً اجتماعياً للتطور
أما العوامل الأُخرى وراء مشروع الأُمة ، والتي هي ذات طابع سوسيولوجي فتتمثل في نظام اللغة بالإضافة إلى الاثنية والدين . ذلك ان وجود لغة أدبية وإدارية نخبوية مهما تكن صغيرة من حيث عدد مستعمليها الحقيقيين ، يمكنها أن تصبح عنصراً مهماً للإندماج الإرهاصي – القومي في حال ديمومتها مع المتطلبات الإقتصادية والسياسية والثقافية وتحديث ميكانيزماتها النخبوية حسب الأقاليم الإجتماعية ، اي تحويلها من النخبوية إلى العامة .
بالنسبة للاثنية فإنها ترتبط بالمجالين البيولوجي والسوسيولوجي للإنسان ، يعني أصل ونسب مشترك بين مجموعات إجتماعية من جانب ، واشكال ومنظومات علاقاتها من جانب آخر . وكما هو المعروف ، ان موضوع الاثنية يتصل بالاشكال التي تربط افراد مجموعة ما من خلال " القرابة "وصلة " الدم " والإنغلاق الثقافي واستبعاد الغرباء .
أما الدين وعلاقته بالهوية والإرهاص القومي ،فله تعقيداته وغموضه إلى أقصى درجة . وعلاقة كهذا ، تستقصي على التعميم البسيط ، لكنها تسمح للجماعات الاثنية باكتساب مصادر قوة يمكن ان تساعد لاحقاً في تحول هذه الجماعة إلى كيان قومي . لان الرموز او الطقوس والممارسات الجماعية المشتركة تعطي مجالاً كافياً للتكاتف بين المجموعات الإجتماعية ، إذ تتبدل فيه أنماط التفكير الاقليمي إلى وطني قومي حديث .
رغم جميع تلك الحجج الإقتصادية وملحقاتها العمالية والعسكرية التي تساند نظرية هوبسباوم وتؤكد بأن الدولة الحديثة التي اخذت شكلها النظامي من مبادئ الثورة الفرنسية ، إذ احتوت المجتمع في القرن التاسع عشر وحولته من ولاءاته المباشرة لحكام اقاليمه جغرافياً إلى مريدي الدولة ومؤسساتها التي كانت بحاجة ماسة لكي تباري منافسيها لكسب ولاء فئات الدنيا ، يبقي للقيم الثقافية وموروثاتها في العلاقات الإجتماعية دوراً مهماً ومؤثراً في تحديد مفهوم القومية والصدارة العالمية . ذلك ان المركنتيلية الثقافية التي تنتج الثقة والرخاء النفسي قبل السلعة تحدد الكثير من مزايا العمل القومي والشراكة القومية . فظهور سكك الحديد وآلة التصوير والسينما والراديو والتلفزيون والنسخ والتسجيل ، كان نتاج المرحلة القومية الأوروبية التي حوّلت ثقافة تقليدية في التواصل والتأسيس وفي المراكز الحضرية ، إلى ثقافات تأخذ على عاتقها الأسئلة التاريخية المتعلقة بمشكلات المجتمعات الإقليمية .
نستطيع القول من هنا ان مفهوم الأُمة أو الحديث عنها في القرن التارسع عشر ، كان جزءاً من الآيديولوجيا الليبرالية المولَّدة للثورة الصناعية التي فتحت العالم أمام الأقاليم المنعزلة ،وانعكس تأثيره بين الإشتراكيين الروس والأمريكيين إذ أرسى كل من لينين وويلسون مبدأ " حق تقرير المصير للشعوب " . تزامنت هذه المرحلة ورؤية مفكريها وسياسييها مع تفكيك الامبراطوريات في وسط وشرق أوروبا من جانب ،وبوادر الثورة الروسية " البلشفية " من جانب آخر .
تالياً ، كانت القومية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في أوجهها وظهر تأثيرها الأقوى في النضال ضد الفاشية إذ وضع اليسار دور العامل القومي المؤثر في الحسبان لمقاومتها ، فكان شعار تحرير شعوب المستعمرات المضطهدة مصدر قوة كامنة ذات اهمية للثورة العالمية .
يصل هوبسباوم في تحليله للأُمة وكيفية نشوءها إلى الرأي القائل بأن اللغة والدين والاثنية والجغرافيا ليست كافية لنشوء الأًُمة ، هناك عوامل أُخرى ذات تأثير كاف في تحويل الناس من أفراد في قبيلة واثنية إلى مواطنين للدولة ومؤسساتها .
تتجسد هذه العوامل في الإقتصاد والتجارة والسياسة والحرب إذ يمكن تسميتها بعوامل " نشوء القومية " أو الوطنية دون الفصل بينها وبين دعوات الثورة الفرنسية ومن ثم الإرهاص القومي عند الطليان والألمان في القرن التاسع عشر .
رغم ان النزعة القومية برأي الكثير من المفكرين الغربيين هي في طور ما بعد فقدان مهمتها المتمثلة بتطوير وتوسيع الإقتصادات القومية ، حيث تأخذ النشاطات الإقتصادية أشكالاً لا قومية في توسعها العالمي ، فإن قضايا عالمية متفجرة في الشرق الأوسط وأفريقيا وجمهوريات الإتحاد السوفياتي السابقة والبلقان تشير إلى مرحلة جديدة في الصراع القومي ولا يمكن بالتالي الفصل بين تلك الفترة التي ظهر فيها شعار " حق تقرير المصير للشعوب " (1918-1921) وبين عصرنا الحالي . ذلك ان الإرهاص القومي يرتسم في صميم المشاكل التي يواجهها العالم اليوم .
1/ مذهب سياسي ـ اقتصادي ساد أوروبا فيما بين بداية القرن السادس عشر ومنتصف القرن الثامن عشر. يرى أن مقدار قوة الدولة إنما تقاس بما لديها من ذهب ومعادن نفيسة وليس في قدرتها على إنتاج السلع والخدمات كما هو المقياس الحديث. تجيز المركنتيلية تدخل الدولة في الحياة
الإقتصادية بغية تحقيق فائض في ميزان المدفوعات
تعليقات