المستقبل - الاحد 17 نيسان 2005 - العدد 1893 - - صفحة 14
مونتريال ـ خالد سليمان
نشرت صحافية روسية في أوائل تسعينات القرن الماضي بعضاً من الرسائل التي كان يرسلها مكسيم غوركي الى رومان رولان عن روسيا العشرينات. كان غوركي يشتكي لصديقه في تلك الرسائل من الأجواء البوليسية التي كانت تعم البلاد بعدما بسط ستالين سيطرته على كل نواحي الحياة واصبح رجل القرار الأول في السياسة والقتل وعسكرة الثقافة ايضاً. ولم يكن صاحب رواية "الأُم" بالتالي إلاّ جسداً بشاربيه الكثّين لذلك الإسم اللامع بين جماهير "الأدب البروليتاري"، وكان أيضاً متألماً داخلياً من كل تلك الأجواء التي طالما كتب عنها روايات ومسرحيات تحولت من الرومانسية الثورية الى نهايات الحلم. ولو نشرت تلك الرسائل قبل البيروسترويكا أو بعد موت كاتبها الغامض لبقي اسم غوركي ملتصقاً بالخيانة الطبقية أو الإنزلاق الطبقي كما كان شائعاً في ثقافة البروليتاريين.
بين فترة كتابة تلك الرسائل وبين زمن نشرها تركت بلاد تولستوي وليرمنتوف تراثاً عسكرياً ضخماً شاع فيها مصطلح "العسكرية الوطنية" وكان أول ضحاياها مكسيم غوركي وماياكوفسكي ضمناً. ولئن صار العالَم الروسي الجوّاني ثابتاً كرواية "الأم" ومتحولاً في مكابداته الداخلية مثلما كان غوركي في رسائله التي تحمل أبعاداً إنسانية أكثر من أدبه البروليتاري، حل مفهوم "العسكرية الوطنية" محل أدب بوشكين وتشيخوف وغوغول وأصبح واقعاً مليئاً بالحياة المفترضة. لم يبق فراغ يذكر حيث امتلأ العصر بايديولوجيا الإقتراب من نهاية التاريخ وأصبحت الثقافة ظلاَ مؤسلباً لمساحاتها الفارغة. أما الفترة الواقعة بين نشر تلك الرسائل وأيامنا هذه، فهي زمن ثبوت كليشيهات ثقافية تستند في أبعادها الجوهرية الى تلك الوصايا الثورية التي أدت الى إنتحار مايكوفسكي وكتابة رسائل سرّية الى خارج "مملكة ستالين" بقلم الثورة غير الدائمة. أي أن "العسكرية الوطنية" لا تزال تأخذ المساحة الأوسع في حياة الناس حيث أصبح المجتمع كائناً "أورويلياً"، نسبة الى الكاتب جورج أورويل في علاقته مع تاريخ "الأخ الأكبر" ولا يتمكن التخلص منه بسهولة.جاء في خبر نشرته صحيفة "لودوفوار" الكندية نقلاً عن وكالة الصحافة الفرنسية أن وزارة الدفاع الروسية قررت إنشاء قناة تلفزيونية عسكرية وطنية، ستبدأ ببث برامجها الخاصة بتراث العسكر في أول شهر أيار 2005. وستركز قناة "زفيزدا" (اي النجمة) في سياستها الإعلامية والثقافية على فكرة الإفتخار بالوطن وتنمية الروح الوطنية وإعطاء صورة إيجابية عن الجيش لدى الروس، خصوصاً الأجيال الناشئة. "بلدنا هو الأفضل في العالم وماضينا هو الأكثر بطولياً ومستقبلنا بين أيدينا"، هذا ما اعلنه مدير القناة المذكورة منوهاً أنه لا يريد رسم البلد بالأسود وتقديم برامج سلبية عنه.ماذا يعني رسم البلاد بالأسود، وهل على الإعلام ان يرسم علامة قوس قزح دائمة للبلاد يتحرك المبدعون والمثقفون في دائرتها المغلقة؟ تتطلب هذه العودة الى مفهوم العسكرة الذي ساد في الحياة الثقافية الروسية لفترة طويلة طوراً آخر من الثبات على ظهر الحصان "غولساري" بطل رواية جنكيز إيتماتوف "وداعاً يا غولساري". ففي تلك الرواية الشهيرة يُشبَّه إيتماتوف كهولة غولساري وتعبه المطلق الذي يتحول الى التمرد في المشي بحالة "الحزب" الذي كان كهلاً هو أيضاً، ولم يحتج سوى الى رحلة مشابهة لتلك التي رسمها الروائي للبلاد وغولساري بالأسود كي يتوقف ويترك ما بقي وراءه في الفوضى.في "وداعاً يا غولساري" يبدو العالم ثابتاً، لكن موت غولساري يغير الرحلة من سرد مطلق عن الماضي وعربة الحزب الى الحدث وبالتالي التغيير. وإن قاربنا الصورة ذاتها مع تلك النهاية الدراماتيكية التي توصل المجتمع "الأورويلي إليها" بعد خروج عجلات عربة الحزب عن السيطرة في نهاية ثمانينات القرن الماضي، نلاحظ ان التحول ظهر من أحشاء مجتمع سردي فقد فيه الفرد حتى المرايا الصغيرة للذات. لكن التغيير الكبير الذي حصل بعد موت الايديولوجيا لم يكفل التطلع الإنساني للمجتمع والذي بقي أسير فراغ تركته "العنابر الأورويلية" المشفرة وفق اليوتوبيا من جانب وتراث "الجنرالات" من جانب آخر.يمكننا قراءة ملامح الجانب الأول في سياق صورة للمشهد الثقافي يرسمها الناقد السينمائي "دانيال دونوريي" في حوار نشرته "كورييه انترناسيونال" الفرنسية في أحد أعدادها الصادر في شهر شباط الماضي، إذ يرسم فيه هذا الناقد، على عكس ثقافة الجنرالات، بورتريه البلاد الحالي بقلم الرصاص و يحاول رسم مزاج المتلقي الروسي في سياق فراغ ثقافي و"ايديولوجي" يعانيه المجتمع. ويتطرق دونوريي في الحوار المذكور الى إشكالية كبيرة تواجه السينما والثقافة السينمائية في روسيا وهي حضور مسلسلات تلفزيونية ميلودرامية طويلة تدور وتستمر كالحياة. وتأتي هذه الحلقات التي أصبحت مشاهدتها كالإستحمام والأكل في الحياة اليومية، من أميركا اللاتينية كالمكسيك والبرازيل مثل جرعات أساسية لملء ذلك الفراغ الذي تريد وزارة الدفاع سدّه بأدوات تراث "المليتاريزم". بذلك، لم يعد المواطن بحاجة الى السينما الوطنية و ما عاد يدرك إلاّ زمناً يصلح للحلم والمراهنة على تفاصيله التي تبقى غالباً في طي النسيان. فالتأثيث الايديولوجي الذي لم يعمّر كالمسلسلات اللاتينية وفراغ ما بعد البيروسترويكا لم يؤديا سوى الى الوقوع بين عالمين مختلفين، أحدهما ثابت و فولكلوري يتجسد في "التجنيد العسكري" للأشياء، أما ثانيهما فهو عالم متغير يبدو فيه المرء جزءاً من ذاته ولو في سياق خطاب المجتمع الإستعراضي.بين الرهان على موت المثقف بغية إبعاد البلد عن "السواد" كما حدث في زمن غوركي وبين إعادة إنتاج صور "الإخوة الكبار" ببيريهاتم العسكرية كما يحدث الآن في حضور مطلق لفاتنات لاتينيات على الشاشة الصغيرة، شيء ما يشبه الزواج العُرفي من التاريخ.
تعليقات