المستقبل - الاحد 20 تشرين الثاني 2005 - العدد 2104 - - صفحة 14
مونتريال ـ خالد سليمان
بعد خمسة اشهر من السجال والتشهير السياسي بتاريخه الشبابي والمنافسة السياسية الحادة، يخترق شاب طموح (بالقياس السياسي) إسمه "أندريه بواسكلير" دنيا السياسة ويصبح رئيس أهم حزب قومي في الكندا الفرنسية "كيبيك" دون الإلتفات إلى ماضيه وهو الحزب الكيبيكي "الإستقلالي". ففي 14 من هذا الشهر اختارت غالبية أعضاء الحزب المذكور السيد بواسكلير بينما حصلت منافسته الأقوى السيدة "بولين ماروا" على 6 ,30 من الأصوات. في أول خطاب سياسي له أعلن الرئيس السادس (39 عاماً) للحزب، أهدافه السياسية التي تتمثل في التربية والإهتمام بالشباب الكيبيكي الضامن للمستقبل ومشروع الإستقلال. "هذه الليلة اشعر بالسعادة داخل عائلتنا الكبيرة، وهي عائلة الحزب الكيبيكي. الشعب الكيبيكي سيكون على موعد جديد مع التاريخ". وفي خطابه الأول الذي تلا نتائج إنتخابه خلفاً لـ"بيرنارد لاندري" الذي استقال الصيف الماضي من منصب رئاسة الحزب، أشار بواسكلير لقناعته التامة بتأييد الكيبيكوا للإستقلال، ووصف الإستفتاء لإختيار العلاقة مع كندا كأحد أهدافه الرئيسية وسيعتمد برنامجه الإنتخابي القادم ـ النجاح القادم ضمناً ـ على الموضوع ذاته؛ أي إستقلال كيبيك عن كندا. لقد هاجمته وسائل الإعلام الفيدرالية والمحلية الكيبيكية بسبب تعاطيه المخدرات في الماضي، وقد نصحه ساسة معروفون بالتخلي عن الترشيح خوفاً من إقتناص الاعلام الانكليزي في كندا هذه الفرصة والإنتقاص من تاريخ الحزب الذي يتهيأ لقيادة إستفتاء آخر للإنفصال عن كندا. لكن بواسكلير لم يتخل عن فكرته واعتبر ان ما حصل في الماضي ليس له العلاقة بحياته السياسية التي تتمثل بتوجهاته الإستقلالية لكيبيك.ماضي "أندريه بواسكلير" الذي درس العلوم الإقتصادية في جامعة مونتريال وشغل عدة مواقع وزارية في الحكومة المحلية لمقاطعة كيبيك، أصبح الشغل الشاغل وأخذت وسائل الإعلام تكشف المزيد من تاريخه، خاصة انه تعاطى نوعاً خطيراً من المخدرات هو الـ"كوكايين". هذا الموضوع الذي صار حديث الساعة وتدور حوله سجالات كثيرة منذ الخريف الماضي، واعتبره المحللون نجاحاً للأجيال الجديدة في السياسة والشأن العام، يطرح اسئلة كثيرة حول "البريستيج السياسي" في مجتمع يصبح فيه عدم الحديث عن المحرمات "تابو" بذاته. ذلك ان الأجيال الجديدة التي تتخرج من الجامعات وتحتل مواقع قيادية في المؤسسات الحكومية والسياسية والإدارية، هي نسيج من واقع اجتماعي جديد ينتج نموذجه الخاص من التفكير والسلوك. فالمساحة الذاتية التي تتيحها الحريات الفردية للإنسان لم تبق ذاتية فحسب بل تحولت إلى ظاهرة مكونة من عناصر الإستعراض اليومي للإنفتاح على اقصى الإحتمالات. بالتالي، هناك جيل آت يحمل معه أُطراً فكرية ثقافية وإجتماعية، تتميز فيها المشاركة في الرأي العام بالليونة والتصادم في آن واحد. فقضية "بواسكلير" مثلاً، والتي دفعت حتى حاكمة كندا "ميكايل جان" للتعليق والسخرية، ينظر إليها الشباب كمسألة عادية ولا يمكن إعتبارها سوى انها ماض مضى، بينما الأجيال السابقة تراها كنقطة سوداء في حاضره ومستقبله. للوقوف عند هذه المسألة وتداعياتها على الحياة السياسية في جزء كبير من البلاد، قد نحتاج للعودة إلى تاريخ قريب يميز الكيبيكيين عن سواهم. يعتبر عام 1976 في كندا الفرنسية (كيبيك) تاريخاً فاصلاً بين جيل كان يحلم بالإستقلال عن كندا الإنكليزية سرّاً وبين جيل آخر أعلن عن الحلم ذاك وجعل منه مشروعاً قومياً بعدما وصل إلى السلطة. ففي ذلك العام الذي تجددت فيه فكرة "الفرنسا الجديدة" في شمال أمريكا، ووصل فيه أيضاً الحزب الكيبيكي إلى السلطة، أعلن الفرنسيون الكنديون مشروع الإستقلال كأحد الأهداف الرئيسية لحزبهم القومي الذي أصبح كاريزما ثقافية وسياسية في حياة "الكيبيكوا". كانت كيبيك قبل 1960 تحت سيطرة مباشرة للكنيسة وخضعت مؤسساتها التربوية والخدمات الاجتماعية والصحية فيها للسلطات الدينية التي كانت تفرض قوانين صارمة على المجتمع من ضمنها الإنجاب الإجباري. شهد العقد الأول من النصف الثاني من القرن العشرين إشارات افول تلك السيطرة الكنسية إذ بدأت النخب السياسية والثقافية بنقد حال السلطة وتوجهاتها الثيوقراطية. أول رئيس وزراء كيبيكي عرف بهذا الإتجاه الديني للحكم هو موريس دوبليسي وحكم في الفترة الواقعة بين 1944 ـ 1959. ورغم حضوره الكاريزمي بقي دوبليس موضع نقد عنيف وجهه له المثقفون الجدد حينئذ، ذلك انه كان من المحافظين المتشددين في المسائل الدينية والإجتماعية. بعد موت دوبليس في عام 1959 شهدت كيبيك تغيرات سياسية وثقافية وبدأ تأثير الكنيسة يتضاءل في حياة المجتمع وتأسست حركات إصلاحية وإجتماعية وقومية بعيداً عن التراث الديني "الكاثوليكي" لطالما حكم الكيبيكيين منذ نشوئهم كقومية في شمال أمريكا. ولئن لم يتضمن التغيير ذاك وسائل العنف، عرف عصر الكيبيكيين الجديد الذي تلا فترة الحكم الثيو ـ قراطي بـ"الثورة الهادئة". وما لبث ان حصل الافول الفعلي لحضور الكنيسة، حتى ظهرت كاريزما جديدة تنتسب عناصرها للقومية ومفاهيم التحرر من الكندا الأنكلو ـ ساكسونية. ففي عام 1967 أسس الشخصية الأكثر تأثيراً وحضوراً في الكندا الفرنسية "رينيه ريلفيك" حركة قومية بعدما اختلف مع قادة حزب الليبرال الكيبيكي الذي كان ينتمي إليه وانشق عنهم. أطلق في البداية إسم "حركة عصبة الإستقلال" على الحزب الذي أنشأه وتحول فيما بعد إلى "الحزب الكيبيكي" الذي يعتبر إلى يومنا هذا من الأحزاب الأكثر تأثيراً في الحياة السياسية والثقافية والإجتماعية في المجتمع الكيبيكي. لقد دفع "الحزب الكيبيكي" ورئيسه، ومؤسسه بالطبع، الكندا الإنكليزية الى مراجعة جميع السياسات التي اتبعتها في البلاد منذ سقوط دولة "فرنسا الجديدة" في 1760 على ايدي الجيوش الإنكليزية.ومن ضمن تلك المراجعة السياسية القاسية التي أدت إلى إصدار قرارات مهمة لصالح الكيبيكيين، كان هناك قرار 101 الذي أصبحت بموجبه الفرنسية اللغة الرسمية في أنحاء البلاد بجانب الإنكليزية.حتى بعد غيابه، ظلت صورة "ليفيك" القيادية، الخطابية، الحماسية عاملاً فعّالاً لتجديد الإنتماء للقومية وللحزب الكيبيكي تحديداً. ذاك ان جملة التغيرات التي حصلت في المجتمع الكيبيكي بدءاً من عزل سلطة الكنيسة عن الحياة السياسية والإجتماعية، وفّرت للقوميين إمكانية إحتلال موقع الصدارة فيها. اليوم، وبعد فشل كل الذين قادوا الحزب الكيبيكي بعد رينيه ليفيك وهم (جاك باريزو ولوسيان بوشار وبيرنار لاندري) في تحقيق حلم إستقلال كيبيك عن كندا، تعلن الكاريزما الـ"ليفيكية" نهايتها وسط سجال سياسي حاد بين النخب الفكرية والثقافية حول قيادة حزب طالما استمر في إنتاج الوعي القومي الكاريزماتيكي. يدور منذ الصيف الماضي في كيبيك حوار لا يخلو من العنف اللفظي حول قيادة هذا الحزب للمجتمع ودخول وجوه جديدة إلى هيكله، تُستَهجَن وتَستَهجِن.ذلك انها تحمل معها روح جيل صنعته الميديا والمجتمع البيو ـ تكنولوجي أكثر من الايديولوجيا القومية، جيل منفتح على تقاليد حديثة متمثلة في التعاطي مع ظواهر لم "تُستوعب" فحسب، بل اصبحت جزءاً من النسيج الإجتماعي والثقافي والأخلاقي للمجتمع. فمسائل مثل الحب المثلي والمخدرات لم تعد تشكل عائقاً أمام المرشح البرلماني أو الحزبي الذي ينطبق عليه مفهوم المجتمع البيو ـ تكنولوجي أكثر من أي مفهوم تاريخي آخر. وبما ان الواقع الحالي يفرز مبررات غير واردة في قاموس السياسة القديم إذ يخترق فيه جيل جديد "التابو الأخلاقي" للسياسة، تتأثر النخبة الكاريزمة القديمة بوقع حاضر أجيالها المُخَدَّر. ففي سياق هذا التحول داخل النخب الفرانكوفونية الكندية التي تبحث عن الإنفصال عن كندا وبناء صورة مغايرة لذاتها في شمال أمريكا، يفرض الجيل الجديد شروطه القاسية في العمل السياسي والشأن العام، وهو أزاح جميع تلك القيود التي تربط الحاضر بالماضي وفق عقد زواج كاثوليكي، كما اخترق أهم مؤسسة سياسية في تاريخ المجتمع وهو "الحزب الكيبيكي" الذي عمل منذ تأسيسه لتحقيق الإستقلال.
نوافذ صفحة 1
نوافذ صفحة 2
نوافذ صفحة 3
نوافذ صفحة 4
نوافذ صفحة 5
نوافذ صفحة 6
نوافذ صفحة 7
نوافذ صفحة 8
تعليقات