خالد سليمان
قبل خمسة وسبعون عاماً من الآن ، أي بعد سبعة أعوام من تأسيسها تعرضت دولة الفتى العلماني " مصطفى كمال أتاتورك " لأول محاولة إهتزاز في بلدة صغيرة تسمى " منيمن " . ذلك ان مجموعة من أتباع الطريقة النقشبندية الإسلامية هاجمت مبادئ الجمهورية وشعاراتها في ساحة البلدة المذكورة وأعدمت أول ضابط جمهوري باسم مصطفى فهمي كوبيلاي إنتقاماً من فرض تلك التغييرات الراديكالية التي أحدثها الفتى العلماني أتاتورك في الحياة المدنية والسياسية والإجتماعية التركية .
ما يثير الإستغراب في تاريخ العلمانية التركية الناقصة هو الإحتفال بولادة الجمهورية من خلال تلك الحادثة التي صادفت 23 كانون الأول 1930 وليس بالتواريخ التي سبقتها في إحداث التحول العلماني في تركيا . وفي هذا دلالات ومعان كثيرة لا تتصل بالحادثة فحسب بل تدخلها في صلب الحياة التركية الحديثة التي تعاني من طغيان " مركنتيلية " دينية عليها رغم مرور أكثر من ثمانين عاماً على إعلان الجمهورية وفصل الدين عن الدولة .
كانت بلدة "منيمن " مكاناً نموذجياً للصراع بين علمانية العسكر والمجتمع المحافظ ، إذ خصت ذاتها إستيلاداً تاريخياً للفصل بين الذاكرة الجماعية المتجذرة في وحل التخلف الديني والإجتماعي وبين آيديولوجيا التناغم القومي العلماني . ويمكننا القول بالتالي ان العلمانية المستقدمة على التاريخ لم تفكك العقد الإجتماعي ولم تؤسس لذاتها بيئة ثقافية سياسية توفر لقضايا الحرية والديمقراطية شروطها الصحيحة . فالبلدة الملعونة كما وصفها كمال أتاتورك حينها جسدت بداية فشل العلمنة التي لم تحدث أي تغيير في البنى الثقافية والدينية والبسيكولوجية للمجتمع . ذلك انها أفقدت لقاء المُتخيل السياسي بالمُجسَد الإجتماعي ، والذي أراده مؤسس الجمهورية لقاءاً ينهي فوضى ثقافية ولغوية ودينية ترسخت في التقاليد العثمانية التي فضّلت عدم التعرض للغات وثقافات الأُمم التي دخلت في حيازة الإمبراطورية . وكانت الإشكالية التاريخية بين جديد القوميين وقديم الإمبراطوريين غاية في التعقيد إذا استعرنا تعبير غرامشي لذلك . لأن الفكر العلماني الذي دخل على حين غرة إلى حياة الناس الموغلة في الأُسروية التقليدية على المستوى الشعبي ذهب نحو نقطة أبعد وهي الزواج المدني منه على سرير المجتمع الديني .
ان السنوات التي سبقت حادثة البلدة المذكورة بين النقشبنديين والدرك شهدت عدة تغيرات سياسية ودستورية فوقية أدخلت المجتمع إلى مواجهة كالحة مع الدولة . ذلك انها ، أي التغيرات ، لم تشمل رأسمال المجتمع الرمزي والذي تجسد في الدين والتقاليد والبنى الثقافية العامة . فإعلان نهاية الإمبراطورية عام 1922 ومن ثم إنهاء دور الخليفة وإستبدال مؤسسات التعليم الديني بمدارس عامة ووضع القبعة محل الطربوش وإلغاء القانون الديني وإعلان المساواة
،Homogèneبين الرجل والمرأة وفرض اللغة التركية المُلَتنَنة واعتبار المجتمع التركي مجتمعاً متجانساً
جاءت جميع هذه الإصلاحات الراديكالية بقرار من الفتى العلماني دون سجال تاريخي داخل المجتمع الذي كان مكبلاً بشروطه الداخلية الإقتصادية والسياسية والثقافية القاسية .
لقد جسدت " منيمن " التحول التركي المربوط بماضي الإمبراطورية والمجتمع في فشل الطلاق بين القديم والحداثة ، وطرحت في الوقت ذاته جملة من الأسئلة والشكوك حول العلمانية التركية التي يمكن إستعادتها للواجهة السجالية في الحياة السياسية التركية في الوقت الراهن . وبما ان الحديث عن الفتى العلماني وجمهوريته التي اقتضت حدث " منيمن " في سياقها التاريخي يرتبط بتركيا الآن أكثر من الماضي .
أحاول التركيز هنا على بعض من جوانب الهوية السياسية لهذه العلمانية التي تبقى ناقصة ما لم ترتسم أبعادها على التحول الإجتماعي البنيوي والتنوع الثقافي والتحرر من البارانويا القومية والجيو-سياسية التي تعانيها تركيا اليوم .
ان الصراع الدائر بين المؤسسة العسكرية التركية التي تمثل وجه العلمانية الأبرز وبين القوى الدينية وتراثها الإجتماعي ، هو في الأصل لا يختلف عما جرى من الإحتدام والصراعات بين الجديد الناقص والقديم الثابت في بدايات تأسيس الجمهورية . ذلك ان العلمنة تأسست على فراغ تاريخي طويل تمثل في حكم السلاطين ولم يشهد سوى تجربة خجولة في البحث عن المدنية وهي تجربة " الإتحاد والترقي " التي أجهضتها حركة " تركيا الفتاة " عام 1908 .أي ان العلمنة التركية فرضت وفق قرارات سياسية بعيداً عن التحول المجتمعي عكس ما حدث عند الأوروبيين في النصف الثاني من قرن التاسع عشر إذ رأت فيه الطبقات الإجتماعية والسياسية والدينية سجالاً فكرياً وآيديولوجياً عنيفاً هزّ الأركان الأساسية لحكم السلاطين والفكر التيولوجي وتراجع على أثره دور الكنيسة في إدارة الدولة والمجتمع . لقد طرحت تلك المغامرات الفكرية والأدبية والفنية التي توزعت بين الماركسية والفرويدية والنيتشوية قلبت الحياة الإجتماعية والسياسية في أوروبا ،طرحت شكوكاً تجاه الثقافة الأوروبية ذاتها وقلبت أساليبها المنمطة رأساً على عقب . وأصبحت اللوحة السوسيو- ثقافية التي كان الأقرب فيها للثبات يخص ذاته بعناصر التحول ، مشهداً للتمرد والنضال الفرديين ضد المؤسسة الإجتماعية والتاريخية السائدة وقتئذ . وفقاً للتعبير الأرستقراطي للثقافة يمكننا القول ان المدن والعواصم الأوروبية في النصف من القرن التاسع عشر كانت عرضة للإختراق اللغوي والثقافي و،النشاط الإجتماعي غير الأليف مع التقاليد الأوروبية الارستقراطية ، وتمكنت حركات التمرد الإجتماعية والفردية بالتالي من إنتاج ثقافة خاصة بها لكنها ممتزجة بالوضع الكلاسي للمدينة من حيث اللغة والتقاليد والزواج والجنس . ثم بدأت هذه الحركات تشارك المجتمع المديني والمحافظ على تقاليده في التجارة والصناعة وتقاسمه في البعد المكاني .
يقول ريمون ولييمز : ( من اجل أن نفهم التعقيدات الأكثرعمومية في طرائق الحداثة ،علينا أن ننظر إلى ماوراء أولئك البشر كأفراد ، إلى التتابع العنيف للحركات الفنية والتكوينات الثقافية التي شكلت التاريخ الفعلي للحداثة ). ترتبط هذه الفكرة التي يطرحها ولييمز بالثقافات الهجينة التي حملها افراد من قاع المجتمعات الغربية وغيرها من المجتمعات هاجر أبنائها من الأطراف " المُكَولَنة " في أنحاء العالم إلى تلك المناطق الحضرية التي كانت محظورة على غير حاملي العرق الخالص قبل الحقبة الكولونيالية . وكان سخف أفراد هذه الحركات ، والذين أتوا من العوالم السفلى على الأغلب للبرجوازية المُستعرضة للأدب والفن والثقافة والسياسة القائمة زمنئذ ، جزءاً من ميكانيزم علاقة زواج سببي بينهم وبين مفاهيم إشتراكية وعمالية وفوضوية . لكنها بقيت علاقة غير ملتزمة واقتصرت أشكالها على رفض المألوف وقوانين الدولة الإحتكارية والثقافة " البيتية " ولادنيوية النزعات الأخلاقية تجاه الجنس . وفق المعطيات تلك ، تحرر المجتمع والدولة مع بداية عصر الحداثة الأوروبي من الآيديولوجيا الهوموجينية بعدما تمخض عنه سجال شمل جميع نواحي الحياة .في وصف بسيط وواضح للمسافة التي فصلت دولة " أتاتورك " عن المجتمع التركي ، يمكننا إعارة صورة حصان لم يسبق العربة فحسب ، بل انقطع الحبل بينهما وتوقفت الثانية عن الحركة ، بينما تقدم الأول دون الإلتفات إلى الوراء . إذاً ، أنتجت المساحة الفارغة بين الحصان والعربة معاني العلمانية الأولى التي تجسدت في حادث دموي في ساحة بلدة " منيمن " . في سياق ذات الوصف يمكننا القول ان الإشكالية لم تخص تخلف المجتمع وحده ، بل خصت عملية العلمنة أيضاً إذ فرضتها الدولة دون تأسيس قاعدة توفر لها الطلب الإجتماعي وليس العرض . فالذي أدى إلى مقتل الضابط " كوبيلاي " كان عرضاً وبيّن دلالة إستيلادية للرأسمال الرمزي الإجتماعي حين يعيد إنتاج خطابه وأدواته من خلال تفعيل المبادلة الذاتية دون الحاجة إلى طرف آخر . ذلك ان النموذج التركي للعلمنة تعمد تجنيس المجتمع وفق آليات آيديولوجية قومية أخفت قيم المواطنة المختلفة وكرست بالتالي عملية تكرار التاريخ وفق خطاب تداخلت فيه عناصر الخوف من المحيط التاريخي والجغرافي ، ناهيك عن الخوف من التنوع الهوياتي داخل تركيا . في هذا السياق بدت الدولة كطرف آخر تعتمد المبادلة الذاتية في تسويق سياساتها التي أدت إلى تلوين لوحة الحصان والعربة بعدما كان أسوداً وأبيض في بداياتها .
تعليقات