خالد سليمان/ مونتريال
تقوم جمعية " نساء بالأبيض " التي تضم زوجات وأمهات وأخوات سجناء سياسيين في كوبا كل يوم أحد بتظاهرة صامتة وتلبس كل واحدة منهن ملابس بيضاء و تحمل قرنفلة حمراء في الشارع الخامس في ميرامار غرب هافانا . تكافح جمعية " نساء بالأبيض " التي تشكلت اثر إعتقال 75 معارضاً كوبياً عام 2003 من أجل حرية المعتقلين الذين يشكلون نخبة من المثقفين والأكاديميين والسياسيين الكوبيين الذين عارضوا نظام " الكاستريزم " . كان الشاعر والصحفي الكوبي " مانويل فاكيز بورتال" الذي أُطلق سراحه في حزيران عام 2004 بعد تدخل منظمات عالمية لحقوق الإنسان بسبب أوضاعه الصحية واحداً من هؤلاء المعارضين ، وكتب كثيراً عما تحويه تلك المظاهرة " المُدائمة " لذاتها منذ ربيع 2003 من المعاني السياسية والأخلاقية .
وصف الشاعر بورتال في رسالة إلى صديق كندي له في مدينة مونتريال حركة تلك النسوة الممتزجة بحال هافانا وخوف أهلها من عيون البوليس السري في كل يوم من نهاية الاسبوع بجرأة لم تعرفها البلاد في تاريخها ، وهن ، أي نساء بالأبيض يمثلن التاريخ والشجاعة بالنسبة له إذ يواجهن يد السلطة الممدودة إلى أعماق الروح . . سُمي ذلك الربيع الذي أُعتقلت فيه تلك المجموعة المعارضة لدكتاتور هافانا بالربيع الأسود ، لكنه كان ربيعاً أبيضاً في الوقت ذاته ، ذلك انه تحول إلى مشهد إحتجاجي ضد رماديات الحكم المرمية على عقول الناس وأذواقهم وإحتمالات أية " لاء " قد تلون حياتهم .
في البداية سيطر الخوف على الناس وهم يشاهدون نساء جريئات يكسرن التابو وصمت الشارع ويحتججن ضد حكومة هافانا " الشيوعية " من خلال مظاهرات اسبوعية لا تحمل سوى الصمت والورود والملابس البيضاء . هي بالتالي مظاهرات بيضاء تمخضت عن ربيع أسود وسياسة سوداء . وإذ تستمر هذه المظاهرة التي أسست مقدماتها نساء باحثات عن الحق وليس الجنون كما ظن بعض الناس إلى يومنا هذا ، وبالأبيض كما بدأت ،تحولت إلى ظاهرة ثقافية سياسية لم تشهد مثلها تلك البلاد في تاريخها الخجول الذي صنعه جيل مابعد غيفارا .
قال بعض من الناس أثناء التظاهرات الأُولى " انهن مجنونات " وكان المارة في الشارع الخامس في ميرامار غرب هافانا والجالسون في السيارات المكيفة والأُوتوبوسات لا ينظرون إليهن في البداية خشية ، بينما عيون الأمن السياسي الوقحة تحتجز كل واحدة منهن في وقت مستقطع آخر ، ذلك ان زمن نساء بالأبيض هو شيء مستقطع من تاريخ الثورة الفضولي . هناك اخبار وصور كثيرة عن " نساء بالأبيض " ، لكن رسالة بورتال تحمل معان أكثر واقعية إذ تحتوي على صور حية لنساء محتجات على الصمت بالصمت . ولو تغير التاريخ في كوبا وخرج منه الأخ الكبير كاسترو ، سيتحول الشارع الخامس أمام كنيسة سانتا- ريتا إلى ساحة ثورة أُخرى مختلفة عن الأُولى " الكاستريزم " وقد تبقي السيدات الكوبيات الحزينات رمزاً لتحطيم التابو . فالخوف الذي زرع في حياة الناس منذ نصف قرن ، ثابت ووقح ، يكتسح الروح ويكبل الشجاعة . لكن إرادة هذه المجموعة في المبارزة مع الحضور الكثيف لرجالات الأمن والبوليس حازمة في توقها للحرية . وكما يقول بورتال لم ينجح أحد بالتظاهر في الشارع قبل تلك النسوة وهن يولاندا وبيرثا ولورا وباربارا و كارديدا ومارغريتا وأُوسليفي وياميليه وماغالي وألسا ودوليا وأخريات.
كل واحدة من هذه المجموعة التي تقارع الخوف من النظام تحتل موقعاً متميزاً في المجتمع ولم تأت من الفراغ ، فغالبيتهن وكما يذكر بروتال في الرسالة المذكورة تعمل في الإقتصاد والسياسية والتدريس والطب ، والبيئة والتضميد والصحافة . هن لا يصرحن للصحافة الكوبية ولا يظهرن في التلفزيون الكوبي ولا يقلن شيئاً للراديو الكوبي ، لكن صوتهن وصل للعالم رغم كل شيء .
أنا زوجة الجرّاح والصحفي ورئيس حزب الليبرال المحظور هيكتور ماسيدا ، وأنا زوجة المدافع عن حقوق الإنسان أنجيل مويا ، وأنا زوجة الإقتصادي وعضو مجلس الوطني للإقتصاد ألفريدو فيليب وأنا زوجة المترجم الصحافي فرنانديز سيز وأنا وأنا ... الخ من التعاريف الشخصية التي تُعرّف مضمون السجون الكوبية .
نساء بالأبيض ، قوة مرئية في واقع لامرئي ، صمت يحارب ضوضاء الآيديولوجيا الشمولية وأطيافها المزروعة في جميع خلايا الحياة اليومية .
تعليقات