التخطي إلى المحتوى الرئيسي

طيور كردستان وقد تحتل واجهات الصحافة في محل المجهول

خالد سليمان
قلما اهتمت الصحافة في بلداننا بالطيور وأنواعها ، ومواطنها وأنماط حياتها وبيئاتها ومشاكلها الصحية ، أولنقل أنها لم تهتم أبداً . فلو هاجر نوع من الطيور وجاء نوع آخر جديد يبقى الأمر شأناً عادياً ولذلك شروط طبيعية إذ يبقى طير زرزور مثلاً في كردستان شتاءاً ويهاجر في منتصف الربيع . لم نر يوماً خبراً عن الطيور أو الحيوانات الوطنية البرّية على الصفحة الأُولى في صحيفة أو ملف خاص عنها . فبإستثناء الطيور والحيوانات المحددة ( الصقور والغزلان والببغاوات مثلاً ) التي توفر متعة التباهي بإمتلاكها وزجها في الأقفاص ، بقيت معرفتنا بمجتمع الحيوانات وأصول تنظيم حياتها معدومة . أما صحافتنا وآدابنا وعلومنا فخصت ذاتها بصفات قومية وسياسية ودينية وثقافية مجردة ، متجنبة بذلك جميع تلك الحيوات التي تسري داخل الأشياء والطبيعة من خلال كائناتها .

انتبهت لهذا التجاهل تجاه الطيور عام 1993 لأول مرة إذ كنت صحفياً لصالح إذاعة صوت شعب العراق في بلدة شقلاوة في كردستان . وكانت الإذاعة التي يديرها الإعلام المركزي للحزب الشيوعي العراقي قد فتحت ملفاً عن تجفيف الأهوار في جنوب العراق والذي نفذه نظام صدام حسين . وحين بدأنا بالعمل لإعداد الملف ومتابعة ما كتبته الصحافة العالمية حول تلك الجريمة ضد أقدم بيئة تاريخية في العالم ، تبين لنا ان هناك طيوراً كانت تعيش في بيئات الأهوار منذ آلاف السنين ، لكنها هاجرت واستوطنت في واحات صناعية في الكويت بعدما جفت واحاتها الطبيعية. لقد تم اكتشاف تلك الهجرة التي تمت من البيئة الأصلية إلى أُخرى صناعية فيها عناصر شبه مع الأُولى من تقارير نشرتها الصحافة الأوروبية بعدما حصلت عليها من خلال منظمات عالمية مهتمة بالبيئة . ولم يكن للصحافة العربية في تناول تلك الهجرة على صفحاتها أي دور سوى ترجمة الخبر من وسائل الإعلام العالمية ونشره في زاوية منسية في صفحة المنوعات .
لقد ظلت الصحافة والثقافة مكرّستان للسياسية البشرية وللخطابات المتعددة دون الإلتفات لمصادر حياتنا وحيواتها الطبيعية وجمالها الرومانسي الذي طالما تغنى به الأدب والخيال الشعبي . فللطيور ، وعبرتاريخ البشر بالطبع ، وقع خيالي لبناء العلاقة مع المحبوبة والثورة والوطن والمنفى . لكنها وعبر تاريخها هي ، محل النسيان واللامبالاة إذ لم يؤانسها أحد سوى في حدود " اللذة " الشرهة والصيد .
جاء في أخبار نشرتها الصحف المحلية في كردستان ان أعداد كبيرة من حجل جبال " قنديل " ماتت دون معرفة الأعراض ولم تصل الفرق الطبية للمنطقة أساساً . هكذا ، وقبل وصول فرق الإبادة ، أصاب الحجل والأصناف الأُخرى من الطيور وباء النسيان الأبدي بعدما كان وباءاً بشرياً قصدياً في التجاهل . والغريب في الأمر هو انه يُنظر إلى مأسآة طاعون الطيور التي ستشكل كارثة للجغرافيا الوطنية في آثارها المستقبلية من زاوية " البطن " قبل أي شيء آخر . ففيما نرى رسوماً كاريكاتيرية لدجاجات ممتلئة وسمينة تتغنج لأي زبون شره في أكل اللحوم ، لا نلاحظ أية صورة ولو أرشيفية للأنواع الأُخرى من الطيور .
لا تخلو هذه المفارقة من الحزن على " البطن " قبل كل شيء ، فهي ، وبما تحمله من معان سطحية لوباء قاتل تدخل في سياق خيال متمثل بأطباق لذيذة لا يرى الإنسان ذاته إلاّ من خلاله .
وبما ان الوباء قد حصل وترك مقابر جماعية لجمال جغرافيانا المحدودة ، كان يجدر بنا العودة إلى تاريخ الطيور المنسية وليس إبرازها كقتلة البشر . فالحجل والحمامات والكوكوختي ( طير الفاختة ) والصقور والزرازير والحبشي والبطة ، كل هذه الصنوف من الطيور وغيرها تشارك في بناء تاريخ هذه الجغرافيا واسرارها ومكوناتها . كيف لنا وضعها في قمامات بلاستيكية أو حرقها كمعضلة في تاريخنا . ألا يكمننا ، على الأقل ، إستعادة شيئ من أصالة المكان عبر الطيران والحركية النابضة التي وهبتها الطيور لنا .
كان هناك طير " لقلق" في مدينة أربيل واستوطن على قبة جامع من جوامع المدينة لفترة طويلة زادت عن ثلاثين عاماً . عندما بدأت الحرب الداخلية بين الأحزاب القومية عام 1994 أُصيب عشه بطلقات المتحاربين وترك اللقلق بالتالي مكانه التاريخي ولا أتذكر إن كان قد أُصيب هو أيضاً . وقد سارعت وسائل الإعلام حينئذ بالحديث عن المؤانسة بين أهل المدينة وعن اللقلق والدمار الذي لحق بالمدينة جراء حرب الأخوة الأعداء .
كان للدفاع عن ذلك الطير معان كثيرة منها شاعريته وهو يلزم مكانه منذ عقود ، وعبثية الحرب الأهلية. ولكن كانت هناك طيور أُخرى تعرضت للمحنة ذاتها في ظل الحرب ذاتها وفي الصمت دون أن يراها أحد.
في عراق اليوم ، هناك حمى سجال سياسي حول تشكيل الحكومة وتحالف الطوائف والعشائر والقوميات كل وفق أجندته ، وهناك من يتحدث عن كوارث وطنية في حال لم تتوصل الأطراف إلى الإتفاق والوئام . لكن الحديث عن إنتشار المرض في كردستان والجنوب وإبادة الملايين من الطيور يبقى محصوراً بين الزراعيين والمسألة ليست كارثة وطنية من وجهة نظر الهؤلاء ، بل هي مجرد مرض يجب التخلص منه ، أما آثاره البيئية التي سوف تجرد الطبيعة والجغرفيا الوطنية من ملامحها المتنوعة فلا يتحدث عنها أحد . لا يفيد أي حديث عن الطاعون بينما الطيور تموت أو تقتل في حملات الإبادة الجماعية ، لكن تتمثل " السياسة الوطنية " الصحيحة ، إن وجدت، هي تلك السياسة التي تتداخل فيها أبعاد الوطن ببشره وطيوره وحيواناته ونباتاته وأشجاره وليس بالشعارات والمقدسات ، فالسياسة دون ذلك تتهاوى نحو مناطق سفلى في الأخلاق ويجب إدانتها .
المسألة هنا ليست الرومانسية تجاه كل تلك الطيور المبادة أو التي تواجه موت معلناً ، بل هي تفكير في طبيعة قد تكون جرداء إن بقي الوباء على حاله . فالأشجار والبشر لا تكفي كي يبقى مكاننا جميلاً .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هەر دەوڵەتێکی کوردی لەم دۆخەدا لە دایکبێت، وەک ئەوەی باشوری سودان دەبێت*

خالد سلێمان سیاسەتی ڕاستەوخۆ، ناڕاستەوخۆی شانشینی سعودی، قەتەر، تورکیا بەرامبەر عیراق و سوریا، لە حەڵەتی پاشەکشەی یەکجارەکی پرۆژەی دەسەڵاتێکی ئیسلامی ( ئیخوان، بەرەی نوسرە، ئەحراری شام، سوپای ئیسلام .. هتد ) ، کار بۆ دامەزراندنی کیانێکی سوننەی سەربازی دەکات، کە دور نیە، بەعسیەکانی ناو داعش، تۆوی ئەو کیانە بن . یانی داعشیش بەشێک دەبێت لە نەخشە سعودی - قەتەری - تورکیەکە .  ئێستا هەوڵی هەرسێ جەمسەرەکە لەوەدا کۆدەبێتەوە، چۆن لە ڕێگەی پارتی دیموکراتی کوردستان و پارتە کوردیەکانی ناو ئیئتلافی ئۆپۆزسیۆنی سوریاوە، کوردیش بەشێک بێت لەو کیانە سوننییە . لەوانەیە ئەمە باشترین دەروازە بێت بۆ تەماشاکردنی دیمەنی هەرێمی کوردستان، کە لە ڕوی سیاسی و ئابوری و کۆمەڵایەتییەوە لە خراپترین ئاستیدایە، بگرە لەبەردەم داڕوخانێکدایە کەس مەزەندەی دەرەنجامەکانی ناکات . بەڵام ئەوەی لەناو دیمەنێکی سیاسی، سۆسیۆ - ئابوری خراپی وەک ئەوەی ئەمڕۆماندا، هەژمونی خۆی هەیەو ڕای

ئاین لەمیتۆدەکانی پەروەردەی کوردستاندا ‌

خالد سلێمان‌ 15/5/2015 ساڵی ٢٠١٢ لەبەر ڕازی نەبونی مەسیحیەکان و کاکەییەکان لەسەر ئەو بەشانەی لە کتێبی “ئاین ناسی” لە میتۆدی خوێندندا، ئەو دوو چاپتەرەی بۆ ئەوان  لە کتێبەکەدا دانرابون لە سەر خواستی خۆیان  لابران. ئەمە هەنگاوی یەکەمی ئەو قەیرانەی پەروەردەیە کە تا ئەم ساتە لە کوردستاندا بەردەوامە. مەسیحییەکان پێیان وابو کە چیرۆکی لە دایکبونی مەسیح بەشێوەیەکی ناڕاست نوسرابو، بۆیە داوای لابردنیان کرد. ئەوەی پەیوەست بو بە کاکەییەکانەوە، بوون بەدوو بەشەوە، بەشێکیان پێیان وایە ئەوان موسڵمانن و نابێت وەک ئاینێکی جیا تەماشا بکرێن، بەشێکی تریان پێیان وایە کە ئاینەکەیان جیایەو ئەوەی لە میتۆدەکەدا نوسراوە ڕاستە. ئەم جیاوازیەش لای ئەوان بوە هۆی لابردنی ئەو بەشەی لە کتێبەکەدا لەسەر کاکەیی نوسرابو. کتێبی ئاینناسی لە قۆناغەکانی  (١٠، ١١، ١٢)ی خوێندندا لە پێناو ئەوەدا بوو کە خوێندکارانی کوردستان جگە لە ئاینی ئیسلام ئاینەکانی تریش بناسن، بەڵام پرۆژەکە لەسەرەتادا - بەتایبەتی لە کتێبی قۆناغی ١٢دا- توشی دوو گرفت بوو، یەکەمیان ئەوەبو کە وانەکانی خوێندن لەسەر مەسیحی و ئێزدی و کاکەیی و ئاینەک...

أزمة المياه تهدّد الشرق الأوسط.. والعراق على الخط الأحمر

خالد سليمان  يشير مدير المعهد العلمي للبيئة في جامعة جنيف مارتن بينيستون إلى ذوبان شبه كلي لثلوج جبال الألب نهاية القرن الحالي، حيث لا يبقى سوى القليل منه في الأعالي. يعود سبب ذوبان هذه الثلوج التي تغذي أنهار (راين، دانوب، بو، رون) ويعتمدها ١٦٠ مليون نسمة في غالبية أنحاء أوروبا للزراعة والنقل والطاقة والغذاء، إلى التغيير المناخي وارتفاع درجات حرارة الأرض، ناهيك عن الازدياد السكاني حيث تشير الإحصائيات المتوقعة إلى وصول نسبة سكان المعمورة إلى ١٠ ملايين نهاية هذا القرن.  كانت هذه الصورة بداية لمؤتمر دولي بعنوان “السلام الأزرق” حول دور المياه في السلام والتنمية المستدامة في الشرق الأوسط نظمه Stratigic Foresight Group وجامعة جنيف بالتعاون مع وكالة سويسرا للتنمة والتعاون الاسبوع الثاني من شهر أكتوبر ٢٠١٥.