تقول منظمة " ميموريال " الروسية لحقوق الإنسان في تقرير أصدرته عن عمليات التطهير الستالينية في العقدين الثالث والرابع من القرن الماضي بأن الإطلاع على الأرشيف وحقائق تلك المجازر التي ارتكبتها السلطات الروسية في عهد ستالين بات أصبع من السابق في عهد فلاديمير بوتين اليوم .
واصدرت المنظمة في شهر الأوكتوبر الماضي لائحة بأسماء 6،2 مليون شخص كانوا ضحايا عمليات التطهير الستالينية، لتوزيعها في المدارس والمؤسسات العامة، كما اعلنت بأن القاعدة المعلوماتية لدى المنظمة تشكل حتى اليوم 20 الى 25% من الرقم الاجمالي للضحايا. وهذه هي نتيجة عمل شارك فيه مئات الاشخاص في كثير من المناطق منذ زهاء عشرين عاما". واضاف ان المنظمة طبعت خمسة الاف نسخة من قاعدة المعلومات.
وكان ما يقارب ال 5،12 مليون شخص ضحايا عمليات التطهير الستالينية الكبيرة التي بدأت في 1937 مع المحاكمات الكبرى ضد قادة الحزب الشيوعي وجنرالات الجيش الاحمر . وقد صادق النظام الستاليني في تلك المحاكمات التي سميت " محاكم " الترويكا " على أحكام إعدام بحق 436 ألف شخص في ذلك العام وحده (1937).
واحيت منظمات غير حكومية واقارب الضحايا في آب/اغسطس ذكرى عمليات التطهير الكبرى، فنظمت احتفالات في ذكرى 70 عاما على بدء تطبيق التوجيه الذي شكل بداية عمليات القمع الكثيفة. الا ان وسائل الاعلام الروسية ابدت اهتماما محدودا بهذه المناسبة، واعربت منظمة ميموريال الروسية لحقوق الانسان عن اسفها لبعض التحفظ الذي ابدته السلطات عن الاحتفال بهذا الحدث.
وفي السابق ( نهاية ثمانينات القن الماضي تحديداً ) ، حاول بعض الأفراد والجماعات على العمل من أجل جمع مثل تلك المعلومات، إنما محاولتهم بحسب الكاتبة " ماشا ليبمان " ظلت غير منسقة إلى حد كبير ويمكن الحصول على مقتطفات من المعلومات التي تمكنت تلك الجماعات والأفراد من تجميعها هنا وهناك، بل وفي أماكن غير متوقعة على الإطلاق أحياناً مثل المقابر التي تم فيها دفن ضحايا المذابح الجماعية في الحقبة الستالينية.
اليوم ، يتفق الكتاب والناشطون الروس في مجال حقوق الإنسان وتخليد ذكرى ضحايا العهد الستاليني بأن الحكومة الروسية لا تعارض كشف تلك الجرائم فحسب ، بل لا تحبذ التفكير فيها أساساً . ذاك ان الماضي ذاك إنما يتمثل في سلسلة من الإنتصارات المتوالية والتطورات الوطنية الإيجابية ؛ تالياً انه ماض بطولي لبلد يقول عنه رئيس قناة "زفيزدا " العسكرية الروسية : هو الأفضل في العالم وماضينا هو الأكثر بطولياً ومستقبلنا بين أيدينا .
وقناة " زفيزدا " ، هي حديثة العهد والتأسيس (2005) قررت وزارة الدفاع الروسية إنشائها كقناة تلفزيونية عسكرية وطنية، تركز برامجها على تراث الجيش من خلال إنتهاج سياسية إعلامية وثقافية تعيد للإفتخار بالوطن وتنمية الروح الوطنية رونقها ، كما تعطي صورة إيجابية عن الجيش لدى الروس، خصوصاً الأجيال الناشئة. ولم ينس رئيس القناة " العسكري " التنويه إلى أنه لا يريد رسم البلد بالأسود وتقديم برامج سلبية عنه. تالياً ووفق هذه التراث العسكري ، فإن تلك المحاكمات الستالينية المفبركة التي طالما منعت السلطات الروسية من الكشف عن الوثائق المتعلقة بها اليوم ، لم تكن سوداء أو لا يتسع لها الماضي ذاته .
نشرت صحافية روسية في أوائل تسعينات القرن الماضي بعضاً من الرسائل التي كان يرسلها مكسيم غوركي الى الكاتب الفرنسي رومان رولان عن روسيا العشرينات. كان غوركي يشتكي لصديقه في تلك الرسائل من الأجواء البوليسية التي كانت تعم البلاد بعدما بسط ستالين سيطرته على كل نواحي الحياة واصبح رجل القرار الأول في السياسة والقتل وعسكرة الثقافة ايضاً. ولم يكن صاحب رواية "الأُم" بالتالي إلاّ جسداً بشاربيه الكثّين لذلك الإسم اللامع بين جماهير "الأدب البروليتاري"، وكان أيضاً متألماً داخلياً من كل تلك الأجواء التي طالما كتب عنها روايات ومسرحيات تحولت من الرومانسية الثورية الى نهايات الحلم. ولو نشرت تلك الرسائل قبل عام 1937 لشملته محاكمات " الترويكا " وأصبح بالتالي خائناً طبقياً ووطنياً في تاريخ روسيا .
ان التكتم على الوثائق التي تتعلق بتلك المذابح البشرية وإخفائها تحت عناوين الإفتخار بالماضي والتراث الوطني ، أو غض النظر عن الجرائم تلك وعدم التفريق بين القتلى وبين من أعدموهم كما تفعل الكنيسة الآرثوذوكسية الروسية ، ما هو إلاّ طريقة أُخرى في إقصاء الحقيقة ودفن رغبة ذوي الضحايا بالتقصي عنها تحت ملوحات إنتصاريات الأمس ، وفيها بطبيعة الحال جميع تلك المجازر التي ارتكبها ستالين !
تعليقات