خالد سليمان
توفر وسائل الإتصال الحديثة إمكانات هائلة في الإنتشار القياسي للثقافة الشعبية في فن الكتابة والغناء والسياسة ، وتنتج كتاباً وفنانين باتوا اليوم جزءاً من ظاهرة يمكن تسميتها بالظاهرة " الشعبانية " أو الشعبولا كما هي دارجة في اللهجة المصرية . ويلاحظ يوم بعد يوم ان " الشعبانية " التي اقتضاها الشارع والسياسة في العالم العربي في آن واحد ، وجه من وجوه الثقافة السياسية ، ذاك انها أظهرت للعيان قدرة "التلقين الشعبي " الذي طالما امتلكت فيه التفاعل " الجماهيري " .
لم تقتصر الظاهرة الشعبانية على الغناء الشعبي وموسيقى " الحارات الشعبية " ومفردات أبنائها ، بل شملت مجالات عديدة في الثقافة والإعلام وأصبح " للتعبير الشعبي " بالتالي قدرة الإتساع المتنوع في الحياة الثقافية والسياسية . وقد بدت في وجوهها الكثيرة بأنها كانت ظاهرة مستقلة بذاتها لها جمهورها ونجومها ، وتمتلك وسائل كثيرة في تخطي الصعوبات ، ذلك بالعودة إلى المكبوت السياسي وجعله رمزاً مباحاً للتفاعل الحيوي بين »الجماهير« و »أنا«ها السفلى .
يمكن القول بأن للشعبانية اصولاً يغلب فيها الراهن أكثر من أي وقت آخر . وفي ذلك أسباب تاريخية وإجتماعية عديدة وقد تقرّبنا الأسباب ذاتها من العالم الذي أسماه الباحث السوري الراحل بو علي ياسين بـ " ثالثوث المحرّم " المتمثل بالدين والسلطة والجنس . وفي سياق التطور التاريخي غير السوي بسبب غياب المحرّمات الثلاثة تلك ، بدا التلويح الشعبي لأي منها مجالاً لإظهار الغائب على المسرح السياسي والإجتماعي والفني .
كانت البيئة الفنية اللبنانية سبّاقة في صناعة الرمز الجنسي من خلال فتيات اخترقن المحرمات وظهرن على المسارح وشاشات التلفزة وفق تلك الحالة البسيكولوجية التي تحدث عنها سيغموند فرويد في نظرية التحليل النفسي . إنما الظاهرة اللبنانية هذه ، بقيت في إطار جماليتها الجنسية ، رغم محاولة تسييسها حتى من قبل أحزاب دينية . ولم تكن محاولات حزب الله في إستقطاب كل من الفنانة اللبنانية هيفاء وهبة ونانسي عجرم والتركيز عليهما في إعلامه سوى حلم إعطاء الرمز الجنسي على مقاتليه الذين لم تعد الصورة المُتخيلة لهم تؤدي الوظيفة النفسية لدى المتلقي بسبب تكرارها المُمل .
ولا تخرج جميع التعليقات والملاحظات التي يكتبها " الأنترنو " أو زوار مواقع الأنترنيت ومستخدمي نظام الهاتف الجو
ال »إيس إم إيس« عن الإطار الذي تحدده ذات الرمزية الجنسية على الشاشة الصغيرة والشبكة العنبكوتية . إنما الأغاني الشعبية السياسية والكتابات الأليكترونية وباقي النشاطات الثقافية والفنية والصحافية الأخرى فتحرّض مساحة غير قليلة من اللاوعي الشعبي الذي طالما ساعدته الظاهرة الشعبانية في تخطي الحالة الكمونية والخروج بالتالي إلى عالم محسوس متفاعل يمكن وصفه بالحداثة الرثة .
على هذا النحو ، يمكن الوصول إلى اصول هذه الحداثة الرثة التي تستقوي بها الثقافة السياسية الشعبية اليوم من خلال التقصي عن بعض من وجوه الحقيقة دون إعتماد تلك المقولات التاريخية »الرسمية « التي تتسم بالنظرة الميكانيكية في تحديد الأشياء . ذاك ان " الشعبية المجسدة في الشعبانية وتمثلاتها في الكتابة والسياسة والسلطة ، تسترعي الانتباه ليس وفق معطيات نفسية متعطشة للشتائم ، بل وفق »غالب « تاريخي في راهنيته ؛ اي انه إقتضاء لملامح المكبوت وإمكانات تفجيره في ذات اللحظة التي تستدعي العثور عمّن هو مناسب لصفة " الشاتم " .
ولو أخذنا بدايات الفنان الشعبي المصري " شعبان عبدالرحيم " والبيئة التي جعلت منها سيرة تفاعلية بين الفئات الشعبية وبعض من النخب الثقافية والرسمية ، نجد ان الحاجة إلى نجم جماعي ينشد ويغني ويشتم ويصرخ دافع أساسي في ظهور لاوعي مسطح ، مشابه ، مكترث في التمايز والرؤى المختلفة . يمكن القول تالياً بأن هذا الفنان الذي ولد من أب مكوَجي وأم فلاحة وفي بيئة شعبية لا تنطبق عليها التسميات الطبقية المعهودة في الأدبيات الإشتراكية ، كان حاجة إجتماعية و" جماهيرية " ليس على مستوى مصر فحسب بل على مستوى العالم العربي والإسلامي ، ودون ماضيه وسيرة بيئته المكانية والزمانية بطبيعة الحال .
وفي ذلك أسباب واضحة وقد تختصر غالبيتها في أغان مباشرة وفجة ضد إسرائيل وأمريكا أو أغان أُخرى مشابهة لأُغنيته عن الديكتاتور العراقي صدام حسين يوم بعد إعدامه في العاصمة العراقية بغداد عام 2007 ، أو أُغنيته المعنونة بـ " خلصنا الصبر كله" التي هاجم فيها الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية حيث كانت تجسيداً للمظاهرات الحاشدة التي أحرقت السفارة الدنماركية في العاصمة السورية دمشق . لقد تلقى الجمهور العربي تلك الإغاني الرثة في جميع البلدان العربية بحفاوة وتفاعل معها واصبح " شعبولا " رمزاً ونجماً ، تناولت سيرته غالبية القنوات الفضائية العربية والصحف ومواقع الأنترنيت . ووصلت شهرة ونجومية الفنان إلى البرلمان المصري إذ طالب النائب محمود خضر، أمام اجتماع مشترك للجنتي الصحة والزراعة بمجلس الشورى ، بسرعة الاستعانة بشعبان ، لتوصيل رسالة إعلامية للمواطنين البسطاء لمواجهة مرض أنفلونزا الطيور عام ٢٠٠٧ . وينم هذا عن الحاجة الماسة إلى ظاهرة " الفنان المزركش " حتى على المستوى الحكومي لمواجهة الصعوبات ، وهي بالتالي ظاهرة رسمية بموازاة شعبيتها .
يمكن القول بـأن الظاهرة الشعبانية " المُعَورَبة " ليست محصورة في موسيقى " الحارات الشعبية " ، بل انها تشمل مجالات أخرى ككتابة المقالات السياسية التي طالما وفرت لها شبكة الأنترنيت مساحات النشر والتفاعل . فهناك مواقع أليكترونية تعتمد سياسات نشر غير خاضعة للرقابة وتفتح ابوابها لجميع انواع الكتابة والتعليقات ، ومن كتاب لم يحلمو يوماً بإمتهان مهنة الكتابة . وينطبق على الكتابة الأليكترونية اليوم مصطلح " البلاهة " أو فن قول البلاهة ان جاز التعبير . ويذكر في هذا السياق بأن المفكر الأمريكي " هاري . ج . فرانكفورت " بروفيسور مادة الفلسفة في جامعة " يال " الأمريكية أول من درس ظاهرة البلاهة في الحياة اليومية في كتاب صدر عام 1984 بالعنوان ذاته " في فن قول البلاهة " . وقد قارب فرانكفورت بين البلاهة والخدعة كصنفين متشابهين رغم إختلافهما ، ذاك ان صفة هذه الثانية " الخدعة أو المخادعة " تتسم بالتمثيل المشوه ، والكذب في الأفكار والمعاملة ، كما انها تتسم بالإنحراف حتى في السلوك التفاخري . لذلك يحاول فرانفورت ربط البلاهة وفنون قولها بالمخادعة ، ففيهما يصبح التمثيل المشوه قوة للحضور .
ان البلاهة والمخادعة وبالشكل الذي تحدث عنهما كل من فرانكفورت في فن قول البلاهة وماكس بلاك في كتاب بعنوان " الغالب في المخادعة " هما صفتان رئيسيتان في الظاهرة " الشعبانية " في الفن والصحافة والإعلام العربي اليوم . ولم يعد هناك ما يمنع تحرير " البذاءة " من الشارع ووضعها بالتالي في سياقات الخطاب الفني والإعلامي . فعلى غرار أغنية " أنا بكره إسرائيل ، وبحب عمرو موسى " ، هناك مقالات وكتابات يومية في مواقع أليكترونية وفي صحف ورقية واسعتا الإنتشار تعتمدان ذات المغزى الشعباني ، إنما هي في الغالب كتابات خالية من فنون وجماليات الكتابة ومن الثقافة السياسية والتحليلية بطبيعة الحال . وما يدفع المرء لقراءة أبعاد هذه الظاهرة الملتصقة بفنون قول البذاءة ، هو تناغم نفسي بينها وبين " جماهيريات عارمة " والمزاج الشعبي اليومي إذ تحرّكهما الغرائز بدل السياسة وتمثلاتها في كل ما هو مجتمعي وثقافي وإقتصادي .
في البلاهة الثقافية والإعلامية ، والتي تبدو فيها المخادعة شكلاً آخر لتذليل القيم أمام الرثاثة ، شيء من الترويض المتبادل بين واقع مأزوم يبحث من يعيش فيه عن رموز المخيلة الشعبية ، وبين تيارات فنية لا تتورع عن إعلان طبيعتها وأصولها الملازمة للواقع المأزوم ذاته ، وفيه ، الحاجة إلى الرثاثة . يمكن الوصول على هذا النحو إلى محددات الثقافة السياسية في بلداننا وعلاقتها بالواقع المأزوم تاريخياً في سياق ذات البلاهة الفنية التي طالما وفرت إطار رخو وسهل للإختراق .
ان المحدد الرئيسي في قول البلاهة »والأهم في جميع الأحوال بين المحددات الأُخرى « هو إحضار الغائب على المسرح السياسي والإجتماعي وإعطائه إمكانات تحويل المكبوت إلى واقع يمكن تسميته "بالواقع المُسترد" من الثالوث المحرّم . ويرجع الفضل في ذلك إلى المساحات الأُفقية التي استوجبها العصر الأليكتروني . إنما السؤال الأساس في السياق ذاته ، فيتجسد في حالة نكوصية في الوعي بطفرات إجتماعية إسترجاعية ، اقتضاها نفس العصر الأليكتروني وقوته الهائلة في تذليل صعوبات عصر الإختراقات الكبرى في الثقافة والسياسة . فالثورة التقانية الثالثة المتمثلة بالرقميات قوّت إتجاهات العنف والإبتذال حول الهوية بقدر تمكينها الثقة بالرخاء الإقتصادي والثقافي في عالم ما بعد الحداثة . تالياً ، لم يعد للحديث عن الفكر الخلاّق ، وفيه الحداثة ومرتكزاتها العلمية والإقتصادية والثقافية والإنسانية العامة ، ذلك البريق الذي طالما دخل إليه " الكتاب والفنانون الشعبيون " الآنيون من باب المكبوت والبلاهة .
في أي مسح سريع للمواقع الأيكترونية الشعبية والأكثر إستقبالاً بين " الأنترنو " ، يستنتج بأن المقالات المباشرة والمكتوبة في سياق " الكلام اليومي " عن الجنس والسياسة ، هي الأكثر إستقبالاً من بين جميع الكتابات الأُخرى ، ذاك انها ببساطة تقول ما طرحه المصريون " الجمهور عايز كده " . هناك لاجيء عراقي يقيم ولايات المتحدة الأمريكية كما يذكر في كتابات يومية تنشرها له جريدة " إيلاف " الأليكترونية ، ينشر بشكل يومي " كلام يومي معتاد " بين العراقيين حين يناقشون ، وفيه قدر كاف من العنف والبذاءة والشعبية الرثة . إنما المثير في ذلك هو كل تلك التعليقات والشتائم التي تلي نشر " الكلام " ذاك ، مما دفع بالسيد " الكويتب " كما يقول العراقيون لإفراغ جعبته من الكلام كلما تعبئت من تعليقات وشتائم متابعيه ، ونشره بالسرعة القياسية .
في ذلك ، شيء ، لا يمكن وصفه " بكلام الناس" الذي طالما اشتهر به مقدمو برامج تلفزيونية عالمية تستقطب أسماء كبيرة في الثقافة والأدب والسياسة ، ذاك انه ممزوج بالرثاثة الشعبية وليس الحس الشعبي . ففي هذا الثاني » الحس الشعبي « إمكانات التذوق الجمالي والإستجابة التلقائية للذاكرة ، بينما في الرثاثة إقتضاء واقع مهزوم للمُخادعة والبلاهة معاً .
توفر وسائل الإتصال الحديثة إمكانات هائلة في الإنتشار القياسي للثقافة الشعبية في فن الكتابة والغناء والسياسة ، وتنتج كتاباً وفنانين باتوا اليوم جزءاً من ظاهرة يمكن تسميتها بالظاهرة " الشعبانية " أو الشعبولا كما هي دارجة في اللهجة المصرية . ويلاحظ يوم بعد يوم ان " الشعبانية " التي اقتضاها الشارع والسياسة في العالم العربي في آن واحد ، وجه من وجوه الثقافة السياسية ، ذاك انها أظهرت للعيان قدرة "التلقين الشعبي " الذي طالما امتلكت فيه التفاعل " الجماهيري " .
لم تقتصر الظاهرة الشعبانية على الغناء الشعبي وموسيقى " الحارات الشعبية " ومفردات أبنائها ، بل شملت مجالات عديدة في الثقافة والإعلام وأصبح " للتعبير الشعبي " بالتالي قدرة الإتساع المتنوع في الحياة الثقافية والسياسية . وقد بدت في وجوهها الكثيرة بأنها كانت ظاهرة مستقلة بذاتها لها جمهورها ونجومها ، وتمتلك وسائل كثيرة في تخطي الصعوبات ، ذلك بالعودة إلى المكبوت السياسي وجعله رمزاً مباحاً للتفاعل الحيوي بين »الجماهير« و »أنا«ها السفلى .
يمكن القول بأن للشعبانية اصولاً يغلب فيها الراهن أكثر من أي وقت آخر . وفي ذلك أسباب تاريخية وإجتماعية عديدة وقد تقرّبنا الأسباب ذاتها من العالم الذي أسماه الباحث السوري الراحل بو علي ياسين بـ " ثالثوث المحرّم " المتمثل بالدين والسلطة والجنس . وفي سياق التطور التاريخي غير السوي بسبب غياب المحرّمات الثلاثة تلك ، بدا التلويح الشعبي لأي منها مجالاً لإظهار الغائب على المسرح السياسي والإجتماعي والفني .
كانت البيئة الفنية اللبنانية سبّاقة في صناعة الرمز الجنسي من خلال فتيات اخترقن المحرمات وظهرن على المسارح وشاشات التلفزة وفق تلك الحالة البسيكولوجية التي تحدث عنها سيغموند فرويد في نظرية التحليل النفسي . إنما الظاهرة اللبنانية هذه ، بقيت في إطار جماليتها الجنسية ، رغم محاولة تسييسها حتى من قبل أحزاب دينية . ولم تكن محاولات حزب الله في إستقطاب كل من الفنانة اللبنانية هيفاء وهبة ونانسي عجرم والتركيز عليهما في إعلامه سوى حلم إعطاء الرمز الجنسي على مقاتليه الذين لم تعد الصورة المُتخيلة لهم تؤدي الوظيفة النفسية لدى المتلقي بسبب تكرارها المُمل .
ولا تخرج جميع التعليقات والملاحظات التي يكتبها " الأنترنو " أو زوار مواقع الأنترنيت ومستخدمي نظام الهاتف الجو
ال »إيس إم إيس« عن الإطار الذي تحدده ذات الرمزية الجنسية على الشاشة الصغيرة والشبكة العنبكوتية . إنما الأغاني الشعبية السياسية والكتابات الأليكترونية وباقي النشاطات الثقافية والفنية والصحافية الأخرى فتحرّض مساحة غير قليلة من اللاوعي الشعبي الذي طالما ساعدته الظاهرة الشعبانية في تخطي الحالة الكمونية والخروج بالتالي إلى عالم محسوس متفاعل يمكن وصفه بالحداثة الرثة .
على هذا النحو ، يمكن الوصول إلى اصول هذه الحداثة الرثة التي تستقوي بها الثقافة السياسية الشعبية اليوم من خلال التقصي عن بعض من وجوه الحقيقة دون إعتماد تلك المقولات التاريخية »الرسمية « التي تتسم بالنظرة الميكانيكية في تحديد الأشياء . ذاك ان " الشعبية المجسدة في الشعبانية وتمثلاتها في الكتابة والسياسة والسلطة ، تسترعي الانتباه ليس وفق معطيات نفسية متعطشة للشتائم ، بل وفق »غالب « تاريخي في راهنيته ؛ اي انه إقتضاء لملامح المكبوت وإمكانات تفجيره في ذات اللحظة التي تستدعي العثور عمّن هو مناسب لصفة " الشاتم " .
ولو أخذنا بدايات الفنان الشعبي المصري " شعبان عبدالرحيم " والبيئة التي جعلت منها سيرة تفاعلية بين الفئات الشعبية وبعض من النخب الثقافية والرسمية ، نجد ان الحاجة إلى نجم جماعي ينشد ويغني ويشتم ويصرخ دافع أساسي في ظهور لاوعي مسطح ، مشابه ، مكترث في التمايز والرؤى المختلفة . يمكن القول تالياً بأن هذا الفنان الذي ولد من أب مكوَجي وأم فلاحة وفي بيئة شعبية لا تنطبق عليها التسميات الطبقية المعهودة في الأدبيات الإشتراكية ، كان حاجة إجتماعية و" جماهيرية " ليس على مستوى مصر فحسب بل على مستوى العالم العربي والإسلامي ، ودون ماضيه وسيرة بيئته المكانية والزمانية بطبيعة الحال .
وفي ذلك أسباب واضحة وقد تختصر غالبيتها في أغان مباشرة وفجة ضد إسرائيل وأمريكا أو أغان أُخرى مشابهة لأُغنيته عن الديكتاتور العراقي صدام حسين يوم بعد إعدامه في العاصمة العراقية بغداد عام 2007 ، أو أُغنيته المعنونة بـ " خلصنا الصبر كله" التي هاجم فيها الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية حيث كانت تجسيداً للمظاهرات الحاشدة التي أحرقت السفارة الدنماركية في العاصمة السورية دمشق . لقد تلقى الجمهور العربي تلك الإغاني الرثة في جميع البلدان العربية بحفاوة وتفاعل معها واصبح " شعبولا " رمزاً ونجماً ، تناولت سيرته غالبية القنوات الفضائية العربية والصحف ومواقع الأنترنيت . ووصلت شهرة ونجومية الفنان إلى البرلمان المصري إذ طالب النائب محمود خضر، أمام اجتماع مشترك للجنتي الصحة والزراعة بمجلس الشورى ، بسرعة الاستعانة بشعبان ، لتوصيل رسالة إعلامية للمواطنين البسطاء لمواجهة مرض أنفلونزا الطيور عام ٢٠٠٧ . وينم هذا عن الحاجة الماسة إلى ظاهرة " الفنان المزركش " حتى على المستوى الحكومي لمواجهة الصعوبات ، وهي بالتالي ظاهرة رسمية بموازاة شعبيتها .
يمكن القول بـأن الظاهرة الشعبانية " المُعَورَبة " ليست محصورة في موسيقى " الحارات الشعبية " ، بل انها تشمل مجالات أخرى ككتابة المقالات السياسية التي طالما وفرت لها شبكة الأنترنيت مساحات النشر والتفاعل . فهناك مواقع أليكترونية تعتمد سياسات نشر غير خاضعة للرقابة وتفتح ابوابها لجميع انواع الكتابة والتعليقات ، ومن كتاب لم يحلمو يوماً بإمتهان مهنة الكتابة . وينطبق على الكتابة الأليكترونية اليوم مصطلح " البلاهة " أو فن قول البلاهة ان جاز التعبير . ويذكر في هذا السياق بأن المفكر الأمريكي " هاري . ج . فرانكفورت " بروفيسور مادة الفلسفة في جامعة " يال " الأمريكية أول من درس ظاهرة البلاهة في الحياة اليومية في كتاب صدر عام 1984 بالعنوان ذاته " في فن قول البلاهة " . وقد قارب فرانكفورت بين البلاهة والخدعة كصنفين متشابهين رغم إختلافهما ، ذاك ان صفة هذه الثانية " الخدعة أو المخادعة " تتسم بالتمثيل المشوه ، والكذب في الأفكار والمعاملة ، كما انها تتسم بالإنحراف حتى في السلوك التفاخري . لذلك يحاول فرانفورت ربط البلاهة وفنون قولها بالمخادعة ، ففيهما يصبح التمثيل المشوه قوة للحضور .
ان البلاهة والمخادعة وبالشكل الذي تحدث عنهما كل من فرانكفورت في فن قول البلاهة وماكس بلاك في كتاب بعنوان " الغالب في المخادعة " هما صفتان رئيسيتان في الظاهرة " الشعبانية " في الفن والصحافة والإعلام العربي اليوم . ولم يعد هناك ما يمنع تحرير " البذاءة " من الشارع ووضعها بالتالي في سياقات الخطاب الفني والإعلامي . فعلى غرار أغنية " أنا بكره إسرائيل ، وبحب عمرو موسى " ، هناك مقالات وكتابات يومية في مواقع أليكترونية وفي صحف ورقية واسعتا الإنتشار تعتمدان ذات المغزى الشعباني ، إنما هي في الغالب كتابات خالية من فنون وجماليات الكتابة ومن الثقافة السياسية والتحليلية بطبيعة الحال . وما يدفع المرء لقراءة أبعاد هذه الظاهرة الملتصقة بفنون قول البذاءة ، هو تناغم نفسي بينها وبين " جماهيريات عارمة " والمزاج الشعبي اليومي إذ تحرّكهما الغرائز بدل السياسة وتمثلاتها في كل ما هو مجتمعي وثقافي وإقتصادي .
في البلاهة الثقافية والإعلامية ، والتي تبدو فيها المخادعة شكلاً آخر لتذليل القيم أمام الرثاثة ، شيء من الترويض المتبادل بين واقع مأزوم يبحث من يعيش فيه عن رموز المخيلة الشعبية ، وبين تيارات فنية لا تتورع عن إعلان طبيعتها وأصولها الملازمة للواقع المأزوم ذاته ، وفيه ، الحاجة إلى الرثاثة . يمكن الوصول على هذا النحو إلى محددات الثقافة السياسية في بلداننا وعلاقتها بالواقع المأزوم تاريخياً في سياق ذات البلاهة الفنية التي طالما وفرت إطار رخو وسهل للإختراق .
ان المحدد الرئيسي في قول البلاهة »والأهم في جميع الأحوال بين المحددات الأُخرى « هو إحضار الغائب على المسرح السياسي والإجتماعي وإعطائه إمكانات تحويل المكبوت إلى واقع يمكن تسميته "بالواقع المُسترد" من الثالوث المحرّم . ويرجع الفضل في ذلك إلى المساحات الأُفقية التي استوجبها العصر الأليكتروني . إنما السؤال الأساس في السياق ذاته ، فيتجسد في حالة نكوصية في الوعي بطفرات إجتماعية إسترجاعية ، اقتضاها نفس العصر الأليكتروني وقوته الهائلة في تذليل صعوبات عصر الإختراقات الكبرى في الثقافة والسياسة . فالثورة التقانية الثالثة المتمثلة بالرقميات قوّت إتجاهات العنف والإبتذال حول الهوية بقدر تمكينها الثقة بالرخاء الإقتصادي والثقافي في عالم ما بعد الحداثة . تالياً ، لم يعد للحديث عن الفكر الخلاّق ، وفيه الحداثة ومرتكزاتها العلمية والإقتصادية والثقافية والإنسانية العامة ، ذلك البريق الذي طالما دخل إليه " الكتاب والفنانون الشعبيون " الآنيون من باب المكبوت والبلاهة .
في أي مسح سريع للمواقع الأيكترونية الشعبية والأكثر إستقبالاً بين " الأنترنو " ، يستنتج بأن المقالات المباشرة والمكتوبة في سياق " الكلام اليومي " عن الجنس والسياسة ، هي الأكثر إستقبالاً من بين جميع الكتابات الأُخرى ، ذاك انها ببساطة تقول ما طرحه المصريون " الجمهور عايز كده " . هناك لاجيء عراقي يقيم ولايات المتحدة الأمريكية كما يذكر في كتابات يومية تنشرها له جريدة " إيلاف " الأليكترونية ، ينشر بشكل يومي " كلام يومي معتاد " بين العراقيين حين يناقشون ، وفيه قدر كاف من العنف والبذاءة والشعبية الرثة . إنما المثير في ذلك هو كل تلك التعليقات والشتائم التي تلي نشر " الكلام " ذاك ، مما دفع بالسيد " الكويتب " كما يقول العراقيون لإفراغ جعبته من الكلام كلما تعبئت من تعليقات وشتائم متابعيه ، ونشره بالسرعة القياسية .
في ذلك ، شيء ، لا يمكن وصفه " بكلام الناس" الذي طالما اشتهر به مقدمو برامج تلفزيونية عالمية تستقطب أسماء كبيرة في الثقافة والأدب والسياسة ، ذاك انه ممزوج بالرثاثة الشعبية وليس الحس الشعبي . ففي هذا الثاني » الحس الشعبي « إمكانات التذوق الجمالي والإستجابة التلقائية للذاكرة ، بينما في الرثاثة إقتضاء واقع مهزوم للمُخادعة والبلاهة معاً .
تعليقات