خالد سليمان(السفير اللبنانية)
قبل بدء مباريات كأس العالم لكرة القدم بأيام معدودة نشرت اليومية الفرنسية (لوموند) تقريراً عن سوق أجهزة التلفزيون في فرنسا. وفي خبر بعنوان «صفقات لمباريات كأس العالم لكرة القدم» أشارت اليومية الفرنسية إلى ان أصحاب
الشركات المصنعة للتلفزيون يفركون أياديهم، وذلك بسبب طفرة في مبيعات شاشات التلفزة المسطحة. وبحسب بيرنارد هيغر الرئيس التنفيذي للاتحاد العام للصناعات الالكترونية السمعية والبصرية، كان من المتوقع أن يباع حوالي ٢٥٠ ألفا من أجهزة التلفزيون العالية الدقة وذات الشاشات المسطحة. كل ذلك من أجل مشاهدة مباريات كأس العالم التي تستمر لشهر واحد.قبل بدء مباريات كأس العالم لكرة القدم بأيام معدودة نشرت اليومية الفرنسية (لوموند) تقريراً عن سوق أجهزة التلفزيون في فرنسا. وفي خبر بعنوان «صفقات لمباريات كأس العالم لكرة القدم» أشارت اليومية الفرنسية إلى ان أصحاب
هناك وراء هذا الخبر صفقات أخرى تعقدها القنوات التلفزيونية العالمية مع الإتحاد الدولي لكرة القدم لشراء المباريات وبثها لجمهور لاهث على ما يصنع له لحظات مقتضبة من الفرح والتوتر والصراخ، والحزن على الخاسرين ضمناً. تالياً، انه خبر يختصر آليات صناعة مجتمع مؤقت ومستهلك للاستعراض المتعدد الأبعاد والملامح. ففي هذا الشهر الصيفي المتعولم إذ تغزو صور لاعبي كرة القدم وأعلام بلادهم نفوس وأجساد الملايين من البشر، يستلب الفرح الإستعراضي المقتضب قوة الفرد الروحية في أي مكان يوجد فيه ويعكس تمثيله بالشكل الذي يجب أن يكون.
ان الصور الاستعراضية المتمثلة باعلانات السلع الإستهلاكية والأجساد البشرية - الأنثوية تحديداً - في مباريات كأس العالم ليست مجموعة من الصور فحسب، بل هي علاقة اقتصادية اجتماعية تتوسط فيها الصور إذا اعتمدنا رؤية المفكر الفرنسي «جي ديبور». وبما ان الاستعراض يضع البشر داخل مقاسات تتبع كلياً الإخضاع الإقتصادي، فلا يمكن الحديث تالياً خارج اقتصاد مستبد ووفيّ لصناعة الظواهر، إنما خائن بقدر «الخيانة الزوجية» لمستهلكي الظاهرة ذاتها. فعندما تعد العارضة والممثلة والمغنية الأرجنتينية «لوسيانا سالازار» الجمهور الأرجنتيني بالتعري الكامل في حال فوز منتخب بلادها في مباريات جنوب أفريقيا لكرة القدم، إنما تريد بالدرجة الأولى الإعلان عن نفسها وإنتاج معان إضافية لعالمها الإيروتيكي.
بيد ان الإعلان من هذا النوع رغم طابعه الجنسي المحض يدخل ضمن ذلك الهيجان الداخلي الذي تخلقه كرة القدم في بسيكولوجيا الحشود. وهو في ذات الوقت تعبير عما يمكن تسميته بحرب الكوة الصغيرة لمجلات جنسية مثل «بلاي بوي» على هيمنة نجوم الكرة على الإستعراض. أي ان الإستعراض يستقل بذاته ويتوسط العلاقات من خلال الصور أو الإعلان عنها كما فعلت لوسيانا سالازار.
معنى اللعبة
وفي السياق، يمكن القول بأن مجتمع كرة القدم يشكل روح الإستعراض، أو الفرجة وما فيها من المتعة والفرح والغضب والعنف والسطوة الإقتصادية، ذاك انه يخضع لزمن تقع معانيه خارج اللعبة والملعب، كما ان الوعي بإقتضاب الزمن ذاته في الفرجة الكُلية، يعد من ضرورات تلك الكوة الصغيرة التي تخفيها حرب الكرة الكبيرة. لقد كتب الكاتب الأوروغوي أدواردو غاليانو اجمل النصوص عن كرة القدم وتلك الهيجانات الداخلية التي تخلقها في نفوس المتفرجين ومجتمع الكرة، وترجم الفلسفة الكانتية حول معنى الحرب والمحاربين إلى فكرة رياضية جميلة مفادها؛ ان معنى الرياضة ـ كرة القدم خصوصاً ـ لا ينتجه اللاعبون ، بل الذين يتفرجون عليهم . و«كانت»، كان يقول ان معنى الحرب لا ينتجه المحاربون ، بل الذين يتفرجون على المحاربين.
وما يميز هذا المجتمع هو الإقبال على ما يستلزم الهيجان الداخلي المعبئ بالجمال والعنف من جانب، والتماهي مع طقوس ديكتاتورية تصنعها الصورة من جانب آخر. ففي الشوارع والمقاهي والبيوت كما في مدرجات ساحات اللعب تعود رغبة الصراخ والعري اللذين كانا يمثلان شكلاً من أشكال الألعاب الرياضية في الروما القديمة إلى الجمهور، إنما وفقاً لمقاسات حديثة تفرضها شركات الدعاية والإنتاج.
والحال هذه، تحل الرسومات بالوشم على الوجوه والمناطق الجنسية على الجسد محل العري الكامل، فيما يلوح الجلوس على المقاعد في المدرجات أو أمام شاشات التلفزة المسطحة إلى قلق قد يفلت في أية لحظة ويتحول إلى تراجيديا رياضية. فالرياضة حرب أيضاً ولا تشكل حالة حضارية بالنسبة لـ(فابيان أولّيه) مدير المجلة الفرنسية «كيل سبور»، بل انها شكل من أشكال العنف إنما أقل وضوحاً من عنف قنبلة مثلاً. ويعتبر فابيان أولّيه في حوار أجرته معه صحيفة (لوموند) المشهد الرياضي العنفي كلسعات دبابيس كثيرة في محل ضربات سيف كبيرة. تالياً، الرياضة تفاقم الضغط القومي برأيه وتثير المشاعر الوطنية ابتذالاً وسخفاً وروعةً.
في لوحة للفنان الفرنسي من أصل تشيكي فلاديمير فيليكوفيج رسمها عام ١٩٩٨ بعنوان «فوتبول»، نقف أمام مشهد كرة قدم صاخب حيث اللهيب والدم يحيطان الساحة الخضراء الخالية من اللاعبين والكرة في الجانب الأيسر من اللوحة، فيما تملأ الجانب الأيمن أجساد بشرية متخابطة، يشير فيها اللون الأحمر النادر إلى سحق البعض من الأجساد. أما الكرة الواقعة في أسفل اللوحة، فهي الأخرى حمراء وترمز أغلب الظن إلى ذروة اشتباك تلا نهاية اللعبة.
اختصاراً، هناك آثار حدث تراجيدي أفرغ الملعب من اللاعبين بعدما أشعل حرباً على المدرجات. هذا ما يمكن ملاحظته في لوحة تجسد الفكرة «الكانتية» التي سبقت الإشارة إليها، ذاك ان خلو الملعب من اللاعبين والكرة، ليس إلاّ تجسيداً لذلك المعنى الذي ينتجه المتفرجون على اللعبة، فيما يغيب عنه اللاعبون الأساسيون، أو أبطال المجتمع المختار ان جاز القول.
وبما اننا أمام ظاهرة حلت محل الثورات والأفكار والملاحم والفنون، نستعير مصطلح «الداروينية الإجتماعية» ثمناً ومثالاً، فسعر لاعب كرة القدم في العالم اليوم هو الأعلى، والتماهي معه ومع صوره التي تتعدى حضوره المادي هو المثال الأعلى في نفوس الجمهور.
إذاً، لا يمكن الحديث عن أفراد مجتمع الكرة كأفراد عاديين، بل كنماذج بشرية تصنع الحياة للآخرين. ذاك ان كل انتصار أو فوز في المباريات هو نوع من إيجاد القيم لبلاد فريق الرابح وهويتها وحضورها في العالم. ولذلك تحديداً، يتماهى الجمهور مع إنسانه المفضل الذي خلق في نظره لساحة اللعب، إذ يؤسس له تمثلات وهمية غايتها الأساسية هي الاستعراض.
وهذا العنف الذي نراه في لوحة فيليكوفيج، إنما هو شيء نابض من الإستعراض والمجتمع الإستعراضي، ولا يمكن تالياً، تصور عنف كرة القدم خارج العنف والفرجة المجتمعيين. ولكن الكاتب الأوروغوي إدواردو غاليانو يذهب أبعد من ذلك إذ يقارن بين لاعب كرة القدم وبين الروبوت ويسأل: «ماذا يفضل صناع كرة القدم وأصحابها وتكنوقراطها و بيروقراطيوها وآيديولوجيوها من الأحلام؟ ان لاعب كرة القدم في هذا الحلم المشابه للواقع يقلد الروبوتات».
تعليقات