التخطي إلى المحتوى الرئيسي

جيش القمصان السود... في العراق أيضاً


الجمعة, 24 يونيو 2011
بغداد - خالد سليمان
لم تكن الحشود «الضخمة» التي استعرضها الزعيم الشيعي المتشدد مقتدى الصدر اواسط الشهر الماضي، والتي تشكلت من عناصر ميليشيا «جيش المهدي»، وقدر عددها بـ30 ألف عنصر، لم تكن رسالة للحكومة العراقية فقط، بل بداية أزمة سياسية وأمنية سيشهدها العراق، سواء تم تمديد فترة بقاء القوات الأميركية أو لم يتم. هذا ما يؤكده سياسيون عراقيون في الخفاء، من دون نسيان ما نسبوه لأنفسهم من كلام منمق عن الوطن، وما يحمله من الرومانسية السياسية في العلن.

لا يمكن الحديث اليوم عن تمديد بقاء القوات الأميركية في العراق أو رحيلها من دون العودة الى تلك الحشود، التي ان نمَّتْ عن شيء، فإنما تنم عما يمكن تسميته بـ «طاقة عنفية إجرائية»، وقد تحدد هوية المشهد السياسي العراقي القادم بما تحمله من ملامح القسوة. وسنوات 2006 و2007 و2008 هي خير دليل عما ارتكبه جيش المهدي من أعمال عنف وقسوة في العاصمة بغداد، كما لا يمكن فصل الحشود ذاتها عن معلومات تظهر هشاشة المؤسسة العسكرية وفقاً لمسؤولين عراقيين وأميركيين، ذاك ان هذا الجيش الذي يتباهى به قواده ويصفون أفراده بـ «القنابل الموقوتة»، لا يختلف عن ذلك الجيش الذي أسسه البعثيون عام ١٩٦٤ وتم تجنيد عناصره من طلاب سقطوا في اجتياز المراحل الابتدائية والمتوسطة في المدارس.
من المفيد هنا ربط هذه «القنابل» بالقنابل «الستينية» التي وعد صدام بتدمير إسرائيل والإمبريالية العالمية بها. لقد قام البعثيون بقيادة صدام حسين، بتأسيس «المكتب العسكري» عام ١٩٦٤ وجهاز «الحنين» قبله بعام واحد. وقد أحدثوا تغييرات جوهرية في بنية الدولة ومؤسساتها من خلال هاتين المؤسستين، وأصبحت بمقتضاهما للـ «المخابرات» اليد الطولى، إذ أخضعت الجيش لقبضتها، فمنذ تأسيس «المكتب العسكري» التابع للقيادة القطرية لحزب «البعث»، والبديل للمؤسسة العسكرية، بدأ العمل الجاد على إدخال أكبر عدد من البعثيين غير الحاصلين على شهادات عسكرية إلى تشكيلات الضباط في الجيش. وفي الفترة الممتدة من تموز 1969 إلى تموز 1970، أُدخل حوالي 2000 من خريجي الثانويات، بعد تزكيتهم من المنظمات الحزبية أو من المخابرات، في دورات سريعة حصلوا بعدها على ما يسمى «نائب ضابط موس» بإشارة حمراء على الكتف.
تالياً، احتل هؤلاء المواقع الإدارية بين الجنرالات الكبار والجنود، واتبع المكتب العسكري قاعدة تقوم على وضع الضباط البعثيين في الموقع الذي تخلو القيادة فيه بعد انتهاء مدة خدمة الضباط غير البعثيين. وكلما احيل ضابط كبير إلى التقاعد حل محله بعثي لم يشترط ان يكون قد مر بفترة التدرج العسكرية التقليدية. في الوقت نفسه، اقتصر القبول في الكلية العسكرية على البعثيين وحدهم. وكانت النتيجة ان ضباط الثمانينات كانوا بعثيين بالكامل.
على هذا النحو، ظهرت في الثمانينات أسماء قيادات بارزة في الجيش العراقي اقتصر تحصيلها الدراسي على المرحلة الابتدائية، إذ إن جيل الضباط الذي صنعه «المكتب العسكري»، سقطت غالبيته في اجتياز المرحلة المتوسطة والوصول إلى الإعدادية. وكانت النتيجة كارثية على جميع المستويات، حيث تولى فيها الجيش إدارة القسوة في العراق بعدما جُرّد من جميع ضوابطه لصالح المخابرات.
قصارى الكلام، لا تختلف حشود جيش المهدي عن حشود جيش البعث في نهاية الستينات وبدايات السبعينات، ولا ترتبط ببقاء القوات الأميركية في البلاد كما يقال، بل ترتبط بأحوال مجتمع يرتطم بوحل متيبس ومتشقق، إثر تاريخ كامل (نصف قرن) من وصم المؤسسة العسكرية بالإذلال والتخلف والأمية.
ولا تتعلق هذه الصفات بميليشيا جيش المهدي وحده، بل هي صفات تتميز بها المؤسسة العسكرية الحالية أيضاً، فهناك معلومات من داخل عمليات إعادة الإعمار وتدريب الجنود العراقيين، تشير إلى حالات مستعصية في صفوف الجيش العراقي الجديد، وهي الأمية بنسبة ١٥ في المئة، وعدم تمتع ٢٤ في المئة من أفراده بالقابلية والمستوى المطلوب لأداء الخدمة العسكرية. أما المشكلة الثالثة، فهي الوضع الصحي السيء لعدد كبير من الجنود. أما المشاكل التي يعترف بها المسؤولون العراقيون، فهي تكمن في عدم القدرة الدفاعية الجوية والبرية لهذا «الجيش الجديد» وفي النقص الكبير الذي يعاني منه في التسلح والمهنية والخبرة.
وما يستوجب الإشارة، هو ان النظام العسكري الجديد وما يرافقه من فقر صحي وأمية وعدم خبرة وعدم تسلح، هو الأوفر حظاً من حيث النفقات مقارنة بالنظام التعليمي والصحي في العراق، إذ إن هناك لكل 50 – 60 طالباً، مدرساً او معلماً واحداً، بينما هناك عسكري أو رجل شرطة لكل 30 مواطن. ويشكل هذا المعدل العالي اكثر من ربع العمالة في الدولة، ويرتفع الرقم اذا اضيف له ما هو موجود في إقليم كردستان بطبيعة الحال. وقد كشف عن هذه المعلومات نائب رئيس الجمهورية عادل عبد المهدي لمجلة (الإسبوعية) قبل عامين من الآن حيث قال نصاً: «لدينا طبيب واحد لكل 1500 مواطن، هذا العدد ضعيف جداً، وهذه إحصاءات اذا راجعتموها فستجدون اليوم ان نصيب المؤسسة العسكرية تزايد».
في حوار أجرته معه قناة «العربية»، أشار برهم صالح رئيس حكومة إقليم كردستان، إلى ان موعد رحيل القوات الأميركية من العراق نهاية هذا العام يستدعي التأني «والتوافق الوطني»، وليس الشعارات التي تطغى على المشهد السياسي العراقي اليوم، التي تزيد الطين بلة إذا استمرت، بحسب تعبيره، ذاك ان القوات العراقية برأيه، ووفق معلومات القادة العسكريين، ليست قادرة على حماية البلاد وحدودها ومجالها الجوي.
والمعضلة العراقية الراهنة تكمن في هذه النقطة، أي الشعارات، ومنها صناعة الوطن والمواطنين وفق مقاسات الأمية والتجاهل في آن معاً، فجميع تلك المعلومات التي تفيد بأن القوات العراقية ليست قادرة على حماية البلاد من الأخطار الخارجية والداخلية، لا تغذي سياسة الواقع الغائبة في العراق، ولا تحل محل «وطنية» زائفة تدفع بلدان المنطقة ضريبتها منذ «الثورات الاستقلالية» ضد الكولونيالية الغربية. وتالياً، هناك بين ما أسسه البعثيون في نهاية الستينات وما خلّفوه من الحطام والركام، وبين حشود «القمصان السود»، قدر هائل من التصدع «المحلي» المتمثل بالأُمية والفقر والهامشية المجتمعية. ولا يتعلق هذا التصدع بالمؤسسة العسكرية فحسب، بل انه ملمح من ملامح المجتمع العراقي اليوم، وهو بمجمله مشكلة غاية في التعقيد، ذاك انها وليدة قديم لم يمت بعد، وجديد لم يولد بعد.
قصارى القول، هناك عسكريّ أو شرطي جاهل غير مؤهل صحياً، أو «قنبلة موقوتة» لكل 30 مواطن، بينما هناك طبيب واحد لكل 1500 مواطن، ومعلم واحد لكل 60 تلميذ. إننا إذاً أمام مشهد تتشكل معطياته وعناصره من تراث «المكتب العسكري» الذي كان يعتمد تزكية حزبية لصناعة رجل أمن أو ضابط عسكري، ومن سياسة أمنية تميزت إنجازاتها بعسكرة الفقر والأُمية. والمجتمع لا يزال مساحة مفتوحة للتجاهل والتوريط والشعارات.
المصدر: صحيفة الحياة اللندنية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هەر دەوڵەتێکی کوردی لەم دۆخەدا لە دایکبێت، وەک ئەوەی باشوری سودان دەبێت*

خالد سلێمان سیاسەتی ڕاستەوخۆ، ناڕاستەوخۆی شانشینی سعودی، قەتەر، تورکیا بەرامبەر عیراق و سوریا، لە حەڵەتی پاشەکشەی یەکجارەکی پرۆژەی دەسەڵاتێکی ئیسلامی ( ئیخوان، بەرەی نوسرە، ئەحراری شام، سوپای ئیسلام .. هتد ) ، کار بۆ دامەزراندنی کیانێکی سوننەی سەربازی دەکات، کە دور نیە، بەعسیەکانی ناو داعش، تۆوی ئەو کیانە بن . یانی داعشیش بەشێک دەبێت لە نەخشە سعودی - قەتەری - تورکیەکە .  ئێستا هەوڵی هەرسێ جەمسەرەکە لەوەدا کۆدەبێتەوە، چۆن لە ڕێگەی پارتی دیموکراتی کوردستان و پارتە کوردیەکانی ناو ئیئتلافی ئۆپۆزسیۆنی سوریاوە، کوردیش بەشێک بێت لەو کیانە سوننییە . لەوانەیە ئەمە باشترین دەروازە بێت بۆ تەماشاکردنی دیمەنی هەرێمی کوردستان، کە لە ڕوی سیاسی و ئابوری و کۆمەڵایەتییەوە لە خراپترین ئاستیدایە، بگرە لەبەردەم داڕوخانێکدایە کەس مەزەندەی دەرەنجامەکانی ناکات . بەڵام ئەوەی لەناو دیمەنێکی سیاسی، سۆسیۆ - ئابوری خراپی وەک ئەوەی ئەمڕۆماندا، هەژمونی خۆی هەیەو ڕای

ئاین لەمیتۆدەکانی پەروەردەی کوردستاندا ‌

خالد سلێمان‌ 15/5/2015 ساڵی ٢٠١٢ لەبەر ڕازی نەبونی مەسیحیەکان و کاکەییەکان لەسەر ئەو بەشانەی لە کتێبی “ئاین ناسی” لە میتۆدی خوێندندا، ئەو دوو چاپتەرەی بۆ ئەوان  لە کتێبەکەدا دانرابون لە سەر خواستی خۆیان  لابران. ئەمە هەنگاوی یەکەمی ئەو قەیرانەی پەروەردەیە کە تا ئەم ساتە لە کوردستاندا بەردەوامە. مەسیحییەکان پێیان وابو کە چیرۆکی لە دایکبونی مەسیح بەشێوەیەکی ناڕاست نوسرابو، بۆیە داوای لابردنیان کرد. ئەوەی پەیوەست بو بە کاکەییەکانەوە، بوون بەدوو بەشەوە، بەشێکیان پێیان وایە ئەوان موسڵمانن و نابێت وەک ئاینێکی جیا تەماشا بکرێن، بەشێکی تریان پێیان وایە کە ئاینەکەیان جیایەو ئەوەی لە میتۆدەکەدا نوسراوە ڕاستە. ئەم جیاوازیەش لای ئەوان بوە هۆی لابردنی ئەو بەشەی لە کتێبەکەدا لەسەر کاکەیی نوسرابو. کتێبی ئاینناسی لە قۆناغەکانی  (١٠، ١١، ١٢)ی خوێندندا لە پێناو ئەوەدا بوو کە خوێندکارانی کوردستان جگە لە ئاینی ئیسلام ئاینەکانی تریش بناسن، بەڵام پرۆژەکە لەسەرەتادا - بەتایبەتی لە کتێبی قۆناغی ١٢دا- توشی دوو گرفت بوو، یەکەمیان ئەوەبو کە وانەکانی خوێندن لەسەر مەسیحی و ئێزدی و کاکەیی و ئاینەک...

أزمة المياه تهدّد الشرق الأوسط.. والعراق على الخط الأحمر

خالد سليمان  يشير مدير المعهد العلمي للبيئة في جامعة جنيف مارتن بينيستون إلى ذوبان شبه كلي لثلوج جبال الألب نهاية القرن الحالي، حيث لا يبقى سوى القليل منه في الأعالي. يعود سبب ذوبان هذه الثلوج التي تغذي أنهار (راين، دانوب، بو، رون) ويعتمدها ١٦٠ مليون نسمة في غالبية أنحاء أوروبا للزراعة والنقل والطاقة والغذاء، إلى التغيير المناخي وارتفاع درجات حرارة الأرض، ناهيك عن الازدياد السكاني حيث تشير الإحصائيات المتوقعة إلى وصول نسبة سكان المعمورة إلى ١٠ ملايين نهاية هذا القرن.  كانت هذه الصورة بداية لمؤتمر دولي بعنوان “السلام الأزرق” حول دور المياه في السلام والتنمية المستدامة في الشرق الأوسط نظمه Stratigic Foresight Group وجامعة جنيف بالتعاون مع وكالة سويسرا للتنمة والتعاون الاسبوع الثاني من شهر أكتوبر ٢٠١٥.