صبحي حديدي
التفصيل الأكثر دموية في الأسبوع الأخير من عمر الانتفاضة السورية، التي دخلت شهرها الحادي عشر، هو إمعان النظام في استخدام آلة العنف، القتل والقصف والتدمير، في حمص ومناطق وادي بردى وجبل الزاوية بصفة خاصة؛ وتنفيذ سلسلة من العمليات القذرة التي تستهدف شحن المشاعر الطائفية، ومحاولة افتعال مواجهات أهلية ـ أهلية. أكثر من 400 شهيد خلال أقلّ من أسبوع، بينهم عدد كبير من الأطفال، ضمن منهجية خبيثة تسعى إلى 'تطبيع' أرقام الضحايا، بحيث يصبح مألوفاً، او حتى روتينياً، سقوط مئة ضحية كلّ يوم؛ في ناظر السوريين، بغية كسر الإرادة، وزرع الذعر، واستيلاد اليأس، وفي ناظر العالم خارج سورية أيضاً، لكي يزداد انسداد آفاق ما يُسمّى بـ'الحلول السياسية'.
وليس خافياً أنّ استثارة مواجهات أهلية ـ أهلية ذات طابع طائفي، بين السنّة والعلويين خاصة، وفي ساحات ساخنة مثل حمص تحديداً، كانت منذ البدء بنداً مركزياً في 'سلّة' إجراءات الحلّ الأمني، لأنها يمكن أن تخدم في تفرقة الصفّ الوطني، وتشتيت جهود الحراك الشعبي، وتصليب التفاف أبناء الطائفة العلوية حول النظام (مقابل تشدّد مواز، منتظَر، في صفوف السنّة؛ وتخوّف، صامت أو معلَن، في صفوف الأقليات الدينية والمذهبية والإثنية).
ولقد أُسندت هندسة عمليات الاستثارة تلك إلى مجموعة من الخلايا الخاصة، التي تتبع إدارياً إلى بعض أجهزة النظام الأمنية (مخابرات القوى الجوية، أكثر من سواها)، ولكنها في الواقع لا تأتمر على نحو هرمي داخل الجهاز ذاته، إذْ هي أقرب إلى الخلايا السوداء السرّية، التي ترتبط بخيوط مكتومة مع قيادات أمنية فردية؛ منتقاة على أسس طائفية صرفة، غنيّ عن القول.
في المقابل، ثمة تفصيل طارىء بالغ الدلالة، أمني وعسكري وسيكولوجي أيضاً، يسجّل ارتساماً جديداً أوضح لانسداد الآفاق أمام الحلّ الأمني، الذي لم يتوقف النظام عن اعتماده منذ 15 آذار (مارس) الماضي، ويعلّق عليه الآمال جميعها في منجاة النظام، أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تراث 'الحركة التصحيحية'، وما سنّته من تقاليد استبداد ونهب وفساد وحكم عائلي وراثي. هذا التفصيل هو اللجوء، للمرّة الأولى على هذا النطاق، إلى استخدام وحدات الحرس الجمهوري في تنفيذ عمليات عسكرية مباشرة، في الغوطة وريف دمشق المحاذي، وداخل العاصمة ذاتها. وإذا كانت الخطوة منطقية من حيث المبدأ، لجهة الولاء المطلق التي تتصف به تلك الوحدات تجاه حلقة الحكم الأضيق؛ فإنّ نشر الحرس الجمهوري خارج مواقعه التقليدية يعكس ثلاثة صنوف من الاضطرار.
إنه، بادىء ذي بدء، استنفار لاحتياط عسكري ـ أمني أخير، توفّره الدكتاتوريات عادة للمعارك الفاصلة، والختامية، من حول القصور والمتاريس والملاجىء الرئاسية؛ وحرس النظام السوري لا يشذّ عن هذا الدور، خاصة في أعقاب حلّ التشكيلات العسكرية الخاصة التي كانت تتولى وظيفة احتياطي النظام (وحدات 'سرايا الدفاع'، أيام رفعت الأسد، في المثال الأبرز). وهو، ثانياً، مؤشر جدّي على أنّ الفرقة الرابعة، التي يقودها ماهر الأسد فعلياً، لم تعد قادرة على أداء مقدار الحدّ الأدنى من المهام التي توكل إليها عادة؛ وذلك رغم أنها تعادل ثلاث فرق في واقع الأمر، وعدّتها لا تتفوّق على جميع فيالق الجيش السوري، من حيث صنوف الأسلحة والاختصاصات القتالية، فحسب؛ بل تخرق أعرافها، في التركيب الطائفي والمناطقي لضباطها وصفّ ضباطها وأفرادها، وفي تسلسلها القيادي، وتدابيرها اللوجستية، كلّ قانون عسكري عرفه التاريخ. وأخيراً، يمكن لنشر الحرس الجمهوري أن يشي بما أخذ يعتمل داخل الفرقة الرابعة ذاتها من مشكلات خطيرة، قد لا تبلغ مستوى الانشقاق في الطور الراهن، ولكنها لم تعد بعيدة عن مستوى التشقق الداخلي.
على الجبهة 'السياسية' ـ كما يستطيب البعض القول، وكأنّ السياسة، أو ما يسمّونه 'التوسطات السياسية'، ما تزال حيّة تسعى! ـ لم يعد في وسع النظام أن يلعب في مضمار أوسع من ثقب إبرة، فعلياً وليس مجازاً. كان في الماضي يتشدق بالحديث عن 'الحوار الوطني'، فوجد أذناً صاغية هنا، وقلباً واجفاً هناك، ولساناً أو قلماً أو صوتاً يلهج بالخشية على سورية من الأخطار الثلاثة الرهيبة: الحرب الأهلية، عسكرة الانتفاضة، والتدخل العسكري الأجنبي. الآن بات النظام هو أوّل مَنْ أخرس هذه الفئات (التي يتسع موشورها لجماعة 'هيئة التنسيق'، وخاصة جناحها الخارجي، و'تيار بناء الدولة'، وشتى صنوف الطهوريين من شهود الزور أو مدمني الصمت أو الحالمين بموقع وسيط ثالث بين النار والرماد!)؛ وسدّ عليها دروب الحوار، سواء مع ممثلي النظام أنفسهم (محمد ناصيف، بثينة شعبان، فاروق الشرع...)، أو عبر وسطاء وحلفاء وأصدقاء (من السفارة الروسية في دمشق، إلى محمد حسنين هيكل، مروراً بالأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي).
مدهش، على سبيل المثال، أن تعلن 'هيئة التنسيق' أنها ليست ذاهبة إلى موسكو للحوار مع النظام، وأن يعجز السفير الروسي في دمشق، ثمّ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (فما بالكم بالمخضرم يفغيني بريماكوف، نفسه)، عن إقناع أيّ من قياداتها الداخلية بالانخراط في المشروع الروسي (وكأنّ النظام وافق، أصلاً، على محاورة 'المعارضة'، في أيّ شبر على البسيطة). وستكون صفعة باردة على خدّ معاوني رئيس الوزراء الروسي، فلاديمير بوتين، إذا انتهت المبادرة الروسية إلى استضافة أمثال قدري جميل وعمار بكداش وصفوان قدسي، بوصفهم فرسان 'المعارضة' السورية؛ وأمثال هيثم سطايحي ومنير الحمش وابراهيم دراجي، بوصفهم ممثلي السلطة!
المعلومات، وقراءة ما بين السطور في الصحافة الروسية المستقلة، تشير إلى أنّ الكيل قد طفح بمستشاري الكرملين المعنيين بملفات النظام السوري، خاصة وأنّ أسابيع الانتخابات الرئاسية الروسية تعد بأخطار شتى قد تكون تلك الملفات أحد منابع تغذيتها. ذلك لأنّ استخدام حقّ النقض مرّة ثانية كان أشبه بطلقة نار في القدم، فكيف إذا ارتفعت يد المندوب الروسي في مجلس الأمن، لتعلن الـ'فيتو' الثالث... في أيّ وقت قريب؟ معروف، من جانب آخر، أنّ الحبال التي يسير عليها بوتين، في معالجة الشأن السوري، رفيعة وزلقة ورجراجة: إذا كانت تدنيه، قليلاً، من أصوات القوميين الروس، والأبارتشيك العجائز، الحالمين بالعودة إلى موقع القوّة العظمى ما قبل الـ'بيريسترويكا'؛ فإنّ الحبال ذاتها يمكن أن تسقطه أرضاً في أية لحظة، حيث تنهشه براثن الخصوم من كلّ حدب وصوب.
ليس أقلّ إدهاشاً (رغم أنّ جميع المآلات المنطقية كانت تفضي إليه) خسران النظام لموقف قوى كبرى في مجموعة الدول النامية، مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، سمعت من النظام وعوداً عن وقف العنف والشروع الجدّي في 'الإصلاح'، فامتنعت عن التصويت في المرّة الأولى؛ لكنها، هذه المرّة، أبت أن تُلدغ من جحر الوعود ذاتها، فصوّتت لصالح القرار. وكان وزير خارجية النظام، وليد المعلّم، قد هدد بنسيان وجود أوروبا على الخريطة، والتوجه شرقاً إلى شعوب أخرى صديقة، فانتهى به الأمر إلى ثلاث دول حصرياً، أو تكاد: إيران، روسيا، والصين. وإذا جاز أنّ هذا الحصاد الدبلوماسي هزيل أصلاً، لا سيما إذا وضع المرء بعين الاعتبار ما تعانيه إيران ذاتها من ضائقة مع الغرب، فإنّ اعتماد النظام على هذه المؤونة لن يقيم أوده طويلاً، بافتراض أنها تتولى وظيفة كهذه في الأساس.
يُضاف إلى هذا أنّ موقع سورية الجيو ـ سياسي الحساس (الذي يرى فيه رأس النظام نقطة قوّة تكفيه شرّ السقوط)، هو في الآن ذاته وبال عليه إذا تبدى كسلاح ذي حدّين، وهو هكذا فعلياً. ومن هنا أتى تلويح الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بتشكيل مجموعة عمل دولية، هدفها كسر الجمود الذي يصنعه إصرار روسيا والصين على تعطيل قرارات مجلس الأمن الدولي، والتوجه إلى الجمعية العمومية. ومن هنا تأتي المبادرة التركية إلى عقد مؤتمر دولي حول سورية، والتي تستهدف أوّلاً إخراج أنقرة من الثلاجة التي وضع الأتراك أنفسهم فيها بصدد الموقف من النظام (بانتظار أشغال الجامعة العربية، على الأقلّ)؛ وكذلك نفخ الحياة في التأييد العربي الشعبي لسياسة تركيا إزاء قضايا المنطقة عموماً، والقضية الفلسطينية خصوصاً، والتي بدا أنّ أسابيع الصمت التركي الأخيرة أخذت تُلحق به الأذى.
وليس مستبعداً أن تكون المبادرتان، الفرنسية والتركية، بمثابة ملاقاة آسيوية ـ أوروبية (والبعض لن يتردد في القول: شرقية ـ غربية، أو حتى إسلامية ـ مسيحية) للموقف الدراماتيكي المفاجىء الذي اتخذه وزراء مجلس التعاون الخليجي، وقضى بسحب السفراء من دمشق. ذلك لأنّ حريق التصارع على سورية، وما كان الأسد يهدد به العالم قبل أسابيع، انتهى أغلب الظنّ إلى هذه الخلاصة، الأشبه بمعادلة حسابية في الربح والخسارة: كان 'استقرار' النظام السوري هو ضمانة تجميد أخطار موقع سورية الجيو ـ سياسي، ومعضلاتها الأخرى، الإثنية والدينية والسياسية؛ ولكنّ التغيير، ورحيل آل الأسد تحديداً، صار اليوم هو الضمانة، لأنّ بقاء النظام بات مصدر النيران، وليس الإطفائي لها.
منطقي، كذلك، أن يُحسم الرأي في طهران لصالح الدفاع عن النظام السوري، بعد أن انقسم الموقف بين مزاج براغماتي يقول بمعالجة الأضرار، والانحناء أمام العاصفة، والهروب إلى أمام، لأنّ النظام ساقط لا محالة؛ ومزاج رافضي، ناري وصراعي ومتشدد، يرى أنّ الدفاع عن الأسد هو دفاع مباشر، وليس بالنيابة، عن القوس التي تطمح طهران إلى استكمال صناعته وشغله، وبخاصة بعد الانسحاب العسكري الأمريكي من العراق، والذي لا يضمّ العراق وسورية لبنان وفلسطين فحسب، بل يتوجب أن يمرّ أيضاً بالخليج العربي، لينغلق عند مضيق هرمز. وخطبة حسن نصر الله الأخيرة، وإعلانه أن 'حزب الله' تلقى ويتلقى كل أشكال الدعم من طهران، ثمّ تأكيده بأنّ لا شيء يحدث في حمص؛ بالإضافة إلى تصريحات الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، حول تحركات عناصر 'الحرس الثوري' بين سورية ولبنان... هي مؤشرات على ميل المرشد الأعلى علي خامنئي إلى مساندة الأسد.
حتى انتهاء الرمق الأخير، بالطبع، حيث الأوراق آخذة في احتراق سريع.
' كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
المصدر: صحيفة القدس العربي
تعليقات