عباس بيضون
محمد شحرور عَلَمٌ على الإصلاح الديني في الإسلام. انه يذهب أبعد من أي من دعاة هذا الإصلاح، ونحو بناء متماسك وجذري. هذا الرجل المتبسّط في الكلام الانيس العفوي يتكلم ويشرح كمحاضر ومعلم ويتلو شواهده غيباً عن ظهر قلب. كان لنا معه هذا الحوار
س: هل نستطيع أن نصفك بأنك صاحب قراءة جديدة ومعاصرة للإسلام؟ وهل تقبل هذا التوصيف؟
ج: قراءة جديدة ومعاصرة للإسلام المتمثل في التنزيل الحكيم حصراً، هذه ما دعوت إليها في كل كتبي، وهي على سبيل التعداد: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، الدولة والمجتمع قراءة معاصرة، الإسلام والإيمان قراءة معاصرة، نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي (فقه المرأة)، تجفيف منابع الإرهاب، وآخر كتاب لي القصص في جزءيه الأول والثاني أيضاً هما قراءة معاصرة في القصص القرآني. وحتى الآن أصدرت سبعة كتب باللغة العربية وكتاباً واحداً باللغة الانكليزية في خمسمئة صفحة بعنوان «القرآن والأخلاق والعقل النقدي».والآن تحت الطبع كتاب بعنوان (السنة الرسولية والسنة النبوية) سيصدر عن دار الساقي في بيروت قريباً.
س: ماذا تفهم من كلمة معاصرة؟
ج: أفهمها على قاعدة فرضية أن الرسول (ص) توفي البارحة. وخلّف لنا هذا الكتاب الذي ندعوه بشكله المكتوب (المصحف الشريف)، وقال هذا الكتاب لأهل الأرض وكل الناس ولباقي الزمان، وأن الكتاب خاتم وعالمي وفيه رحمة للعالمين، وهذه المصطلحات الثلاثة يجمع عليها المسلمون بأن الإسلام هو دين عالمي لكل أهل الأرض وأبدي حتى قيام الساعة، وهذا معنى خاتَم وفيه رحمة. (وماأرسلناك إلا رحمة للعالمين)، (قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)، هذه العالمية ، (ماكان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) وهذه الخاتمية، والمطلوب الآن من كل أتباع الرسالة المحمدية تقديم هذه الصفات الثلاث للناس حيث أن مانقرأه ومانسمعه لايحمل هذه الصفات.
س:ألا يتصل هذا بعلوم معاصرة، مثلاً علم اللغة، علم الاجتماع، علم التاريخ، هل يعني هذا أنك تستفيد على نحو ما من كتابات معاصرة ومن كشوفات معاصرة؟
ج: أنا وقفت على ارضية القرن العشرين عندما بدأت بدراساتي عام 1967، والآن أقف على أرضية القرن الحادي والعشرين، مقيماً قطيعة معرفية مع التراث. فالتراث اعتمد على نظم معرفية وأدوات معرفية قديمة وهي غير صالحة الآن، بينما عندنا حالياً نظم معرفية جديدة وأدوات معرفية جديدة غيرها. مثال ذلك استبدال العمليات الحسابية الأربع القديمة بتطبيق نظريات الرياضيات الحديثة والتحليل الرياضي على آيات المواريث. فتطبيق تلك العمليات الحسابية الأربع فقط على الآيات نتجت لديهم نتائج معينة، بينما انا طبقت نظريات الرياضيات الحديثة والتحليل الرياضي والهندسة التحليلية، بالإضافة للعمليات الحسابية، وهذه كلها كانت غير معروفة زمن التنزيل، وعلى أن الله كامل المعرفة، وهو وضعها لكل أهل الأرض، أي لقارئ متغير، وهنا نجد ان الفرضية التي تنادي بثبات النص وحركة المحتوى. هي قاعدة أساسية. وهنا يكمن الإعجاز في القرآن. النص هو نفسه لايتغير بينما محتواه يتحرك، لأن القارئ متغير، والمؤلف هنا حي لايموت وكامل المعرفة، وهو الله سبحانه وتعالى وضع النص على هذا الشكل لكي يبقى على قيد الحياة مع الزمن ، لأن النص حي كصاحب النص وهذا معنى القدسية، النص المقدس يعني أنه حي باقٍ.
السؤال هو: لماذا؟ لأن رب العالمين أعطى النص، والنص مصوغ ليتحرك وبشكل يكون فيه القارئ متغيراً. وفي هذه النقطة قال الرسول كلمة مهمة «بلغوا عني ولو آية، ربَّ سامع أوعى من مبلّغ»، فنحن سامعو القرنين العشرين والحادي والعشرين أوعى من مُبَلّغي القرنين السابع أو الثامن. على الأقل هكذا يجب أن تكون الأمور.
س: الحديث الذي رويته أسمعه لأول مرة ويبدو لي مهماً جداً. وهذا يعني أن الكتاب رسالة، المتلقي فيها جزء أساس منها لأنه هو يضع المعاني باحثاً عن المصداقية بين النص والواقع، أي أن العلاقة بين النص والقارئ هو الأرضية المعرفية والنظام المعرفي للقارئ.
ج: المتلقي الأول هو عقل الصحابة، والأرضية المعرفية والتشريعية عندهم بسيطة جداً ومحدودة. ففهموا ما تلقوه، حسب أرضيتهم هم. خاصة أن التشريع الإسلامي تشريع حدودي لا حدي. أي أنه متقدم جداً على أرضيتهم الاجتماعية والمعرفية.
فهم الدين بنظم قرائه العقل الفقهي قياسي لا يبدع
س: هل نفهم أن الدين هو على نحو ما هي قراءتنا للدين؟ أي أن النص صامت وينطق به الرجال؟
ج: نفهم الدين من خلال نظم معرفية وضعناها وثبتنا عليها زماناً ولم نغيرها. ففي القرنين الأول والثاني الهجريين وُضعت أسس الفقه واللغة وما زالت سارية المفعول إلى اليوم، وفي اللغة تم تبني الترادف وخاصة في التنزيل الحكيم، وفي الفقه تم تبني مبدأ القياس ، فالفقه ربّى العقل العربي الجمعي على أنه عقل قياسي. والعقل القياسي غير قادر على الإبداع. العقل القياسي هو عقل فقهي بالأساس ولاحقاً صار عقلاً جمعياً. أي أننا تأثرنا بالشافعي وابن حنبل اكثر من ابن رشد وابن خلدون. وهكذا نجد أن ابن الهيثم وابن خلدون وابن رشد لم يشاركوا في صياغة العقل العربي الجمعي، ولا علاقة لهم به. من صاغ العقل العربي الجمعي هم الأئمة الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وجعفر الصادق وبقية الأئمة سنة وشيعة. فالعقل العربي مازال يفكر قياسياً حتى الآن والقياس في العقل العربي الإسلامي يريد دائماً نسخة اصلية ليقيس عليها. النسخة الأصلية هي أحد الإشكالات التي رفضتها لأن النسخة الأصلية هي نص التنزيل فقط. وأريد أن أورد مثالاً واضحاً هنا: فاليسار العربي الشيوعي كانت نسخته الأصلية هي الإتحاد السوفياتي، كذلك العقل السلفي كانت نسخته الأصلية هي صدر الإسلام، أي هكذا فعل زيد، وهكذا فعل عمرو.
س:لكن القياس طريقة منطقية.
ج: صحيح، لكن تحتاج إلى نسخة اصلية لتقيس عليها في كل حال. صانعو العقل العربي الجمعي الذين ذكرتهم اتخذوا من القرن السابع نسخة أصلية للقياس عليها في كل شيء. وأخذوا يقيسون عليها، من دون تعديل. لذلك نقول إن هذا العقل لا يُبدع أيضاً. وبالمختصر العقل القياسي عاجز عن إنتاج المعرفة، فما رأيك إلى جانب أنه قياسي هو عقل ترادفي؟ هذا على صعيد الفقه.
ثانياً على صعيد اللغة، ولأسباب كثيرة منها سياسية، رسخوا اطروحة الترادف. كقولهم إن اللغة العربية غنية بالمترادفات، علماً أن الشعر لا يعيبه الترادف، وكذلك لا يعيبه الكذب، ولا يعيبه الخيال. ولكن هذه الثلاثة (الترادف، الكذب والخيال) تعيب القرآن إذا وجدت فيه. ونرى نتيجة العقل القياسي الترادفي في نتاج الجامعات العربية في الدول العربية حيث إنتاج المعرفة فيها يكاد يساوي الصفر. والمشكلة ليست فقط مشكلة تمويل مادي.
ومغالط المقارنة هي: أولاً لا يجوز قياس الشعر على القرآن. ثانياً فرضوا أن القرآن مليء بالمترادفات، الكتاب أي القرآن، والذِكر اي الكتاب، والذِكر أي القرآن، وهكذا دواليك. في هذه الحال يبدو كأن طبيباً ألمانياً عندما يكتب مقالة في مجلة يكون أكثر دقة من الله سبحانه وتعالى. أخدوعة الترادف أعمت عيوننا ونحن نقرأ المصحف. مثلاً «القرآن هدىً للناس والكتاب هدىً للمتقين». هل معقول أن يكون القرآن هو الكتاب أم لا؟ والمتقون هم ناس ولكن ليس كل الناس متقين؟ إذا هو يقصد هنا مسألتين مختلفتين وليست مسألة واحدة نفسها. من هنا انطلقت في إلغاء فرضية الترادف، لأن من خلق هذا الكون بهذه الدقة يستحيل أن يكون كتابه أقل دقة، أو أنه بالدقة نفسها، أي لا يحتمل زيادة ولا نقصاناً. مثلاً في محارم النكاح هناك نقطة منهجية مهمة جداً بقوله «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ» و«حلائل أبنائكم الذين من أصلابكم». هذا يعني بالضرورة أن هناك أبناء أيضاً ليسوا من أصلابنا، إذا لم تكن هذه الضرورة قائمة في الواقع يكون هذا القول مجرد حشو ولا سبب له. فهو ميّز بين أبناء هم من اصلابنا وبين أبناء ليسوا من أصلابنا. إذا فهو يؤشر بالضرورة إلى إمكان التبني. أي أن إذا تزوج المتبنى امرأة وطلقها فزواج أبيه منها حلال وهذا ما فعله الرسول (ص) بطلاق زينب من زيد وزواجه منها. لكن إذا كان هذا الابن من صلب والده فلا يجوز زواج والده من زوجة ابنه المطلّقة.
هنا تمييز واضح بين نوعين من الأبناء البيولوجيين، الذين هم من أصلاب والديهم عن الأبناء الذين من غير أصلابهم، كذلك ميز بين الأمهات والوالدات، والفارق بينها ان الوالدات هن الأمهات البيولوجيات صاحبات البويضة التي تلقح من الزوج الوالد صاحب الحيوان المنوي، لتكوين نطفة فجنين. ومجيء الدورة للوالدة هي الولادة بينما خروج الجنين من رحم الأم «لما وضعتها قالت ربي إني وضعتها»، هو الوضع وليس الولادة.فالإنسان له والد واحد، قد يكون هو الأب وقد لايكون. وله والدة واحدة قد تكون هي الأم وقد لاتكون، وهناك الأم المرضعة والأم الحاضنة للجنين والأم المربية وأم المؤمنين، ولكي نفهم أن الأم لها معنى غير الوالدة نقول أن السيدة خديجة هي أم المؤمنين وليست والدة المؤمنين.
التبني حلال في الإسلام
س:هل يعني هذا أن التبني حلال، حسب النص؟
ج: نعم، التبني حلال. لكن لماذا ألغى التبني لزيد؟ لأن زيد ترك زوجته وتزوجها الرسول، أولاً حتى لو أن تبني زيد صحيح فزيد لم يخطئ. لقوله «وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم..» وزيد ليس من صلبه. ثانياً زيد يعرف أباه، لقوله «ردّوهم إلى آبائهم»، فشخص معروف أبوه من هو لا يتبنى. فقال «إلى آبائهم» وليس إلى والديهم. الأب والأم مفهومان إنسانيان، بينما الوالد والوالدة مفهومان بيولوجيان. فلا يمكن رد اللقيط إلى والده أو والدته، بينما في حال تبنيه فله أم وأب ويرد إلى أبيه. والإرث للأبناء والآباء. وكذلك الإنساب لاتضيع، فالنسب للأب وليس للوالد.
س: يبدو لأول وهلة أنك تعترض على ما يبدو قاعدة إسلامية.
ج: المصحف أجاز التبني نصاً. وأيّدت ما ذهبتُ إليه بآية من المصحف نفسه، ميزت بين أبناء من أصلاب والديهم وبين أبناء ليسوا من أصلاب هؤلاء. فلو لم يكن جائزاً وجود أبناء من غير أصلاب لكانت كلمة أصلاب زائدة يجب حذفها...
س: هل تواضع الناس على أعراف ينفيها النص القرآني، مثلاً غير التبني؟
ج: نعم، التعددية الزوجية، التي سُمح بها فقط في حالة أمِّ الأيتام ومن أجل العدل معهم فقط. كما في الآية (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ) النساء3 ، فإذا كانت امراة ولديها أيتام فقدوا أباهم، كيف يمكن رعايتهم؟ أوجد طريقة الزواج من أمهم لتحقيق رابط رعاية وأبوة بين الرجل الزوج واليتيم لتتم رعايته. واشترط العدل بين أبنائها اليتامى وبين أبنائه من والدة اخرى، «فإن خفتم الا تعدلوا فواحدة» والعدل هنا بين الأولاد وليس بين الزوجات. ويستدل على صحة اشتراط التعددية الزوجية بالأيتام انها وردت في مجال شرح الأيتام. وفي سورة النساء اجاز الزواج من ام الأيتام بلا مهر «وأن تقوموا لليتامى بالقسط»، أي رعايتهم أهم من تأدية مهر الزواج.
المسألة الثالثة غير التبني والتعددية الزوجية هي الإسلام والإيمان. فالصوم والصلاة من اركان الإيمان وليسا من اركان الإسلام. كل من آمن بالله واليوم الآخر فقد دخل الإسلام. فالبوذي مسلم واليهودي مسلم والمسيحي مسلم وغيرهم ما دام تحقق فيه ركنا الإسلام وهما الإيمان بالله واليوم الآخر. أما اتباع الرسالة المحمدية فهم المسلمون المؤمنون. «إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً». وأركان الإيمان هي التي تميزنا عن بقية المسلمين بأننا أتباع الرسالة المحمدية.
س: هل يمكن أن يكون المسيحي والبوذي مسلمَين فعلاً؟!
ج: طبعاً وأنا كتبتها في كتبي، وهي ليست من عندي بل من القرآن، شئت أنا أو شئتَ أنت ام لا. لأن كل من آمن بالله واليوم الآخر فقد دخل الإسلام، ألم تسمع قول فرعون (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يونس90.
س: هل هكذا يمكن فهم الآية «إن الدين عند الله الإسلام»؟
: بالضبط. بل كيف سيقبل الله ديناً هو أصلاً غير موجود فيه؟
وهو لا يتكلم عن موسى أو عيسى او غيرهما بل يتكلم الله عن نفسه؟ و«قال موسى: (يا قوم إن آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين)، هكذا يذكر الإسلام. و(قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون). هكذا نحن مسلمون ومؤمنون أيضاً. وكل ما يميزنا عن بقية أهل الأرض بأننا أتباع محمد؛ هذا من الإيمان. مثلاً الصلوات الخمس، مَن غيرنا يصلي صلوات خمساً يومياً؟ صوم رمضان، لا يصوم غيرنا في رمضان. هذا من الايمان. الإسلام دين الكثرة في الأرض وأركانه هي القيم والتشريع الحدودي. والوصايا من أركان الإسلام. وأتت لموسى وعيسى ومحمد ويؤمن بها كل أهل الأرض. والفارق أن الوصايا في الرسالة المحمدية ارتفعت إلى درجة المحرمات، والرسالة المحمدية ختمت المحرمات وهي بهذا الرسالة الخاتم.
كل خطباء الجمعة في العالم الإسلامي، السنة والشيعة معاً، في آخر الخطبة يدعون، ماذا يقولون: اللهم أغفر للمسلمين والمسلمات وللمؤمنين والمؤمنات.. هل خطر لنا لماذا سبّقوا المسلمين على المؤمنين وفصلوا بينهم، فما هو الفرق بينهم؟
س: الإسلام سابق على الإيمان المحمدي، فهل هناك فرق واضح بينهما؟
ج: هناك فرق واضح جداً وأعطيك مثالاً أيضاً. (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ(52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ(53) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ..) 53 القصص، ماذا تعني إنا كنا من قبل مسلمين؟ وأيضاً قوله «أولئك يؤتون أجرهم مرتين: مرة على الإسلام ومرة على الإيمان». و«يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته»، أي يعطيكم عيارين من رحمته. هذا كله من المصحف وموجود فيه. المسألة الأساسية أن المصحف مفاتيح فهمه توجد داخله وليست خارجه.
س: لكن انت تعتمد على التحليل اللغوي هنا؟
ج: هل لديك طريقة ثانية؟ هناك تحليل آخر هو التحليل الرياضي العددي، حيث لايوجد علم في الأرض إلا ويعبر عنه في نص لغوي أو عدد أو معادلة رياضية أو رسم تشكيلي، وأنا استعملت الطريقتين اللغوية والرياضية. وفي التحليل اللغوي اعتمدت على المصداقية. عندما اخذت آية المواريث وطبقت عليها الرياضيات (التحليل الرياضي)، وجدت ان كل الأخطاء التي حفلت بها المواريث القديمة انتهت. فكانت قسمة الحصص لاتغلق حسب القواعد الحسابية الأربع فإما تزيد وإما تنقص، بينما بالرياضيات الحديثة تغلق القسمة تماماً. مثلاً في ميراث قيمته مئة دولار يمكن قسمتها حسب حساب الآية فينتج 86، أو 114. وهذا يسمى الرد والعول في المواريث. فأستغرب هل معقول أن تنسب هذه الآية لله ولا تقفل قسمتها بدقة؟ وكانت مقبولة ولو لم تقفل. هذا ما نقصده بالقراءة المعاصرة.
هكذا أحدثت قطيعة معرفية مع التراث. ألغيت القياس وفرضية الترادف تماماً. الحشو في المصحف غير موجود. العبث غير موجود. لا كلام للتسلية فيه بتاتاً. أي كل شيء فيه جدّي ومحكَم. وفصلت بين مفهوم القرآن ومفهوم الكتاب. القرآن هو النبوة وهو الغيبيات، بينما الكتاب هو القرآن بعد إضافة الرسالة له. لذا قال تعالى (ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين[ الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون). فالغيبيات هدى للناس، فإذا أضيف إليها (يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) تصبح هدى للمتقين.
س: وانت تتكلم خطر لي المنهج التفكيكي المعروف في قراءة النص. هنا نص تعاد قراءته ويعاد تفكيكه مجدداً عما كان سائداًً...
ج: صحيح. بدأت البحث على هذا المنوال منذ العام 1967 وما زلت فيه حتى الآن. ورأسمالي فيه المنطق، الأرضية المعرفية، المصداقية وعدم الترادف. وهنا أميز نفسي عن علوم التراث . فالتراث استعمل المنطق الصوري ووقع في الوهم، ففي المنطق الصوري المهم عدم التناقض بين المقدمات والنتائج بغض النظر عن المقدمات أكانت حقيقية أم وهمية، صادقة أم كاذبة. أما أنا فأضفت شرط المصداقية. واستعملت الاستنتاج والاستقراء لأن كلاهما يمكن تطبيقه على التنزيل.
س: وما الأرضية المعرفية التي تعتمد عليها؟
ج: أنا مهندس وأحمل درجة الدكتوراه في الهندسة، وملمّ بالرياضيات والمنطق والفلسفة. وهي تشكل أرضية متينة متماسكة للنظر المنهجي. كذلك الفكر الرياضي متين لدي. وطبعاً أتقن اللغة الانكليزية وأكتب بها. إلى جانب اللغة الروسية.
س: ما علاقة الدين بالسلطة انطلاقاً من الإسلام؟
ج: أولاً، عندما أقول لا ماء في البيت، لا اطلب منك الشرب او عدمه. لكن هذا خبر عن عدم وجود ماء في البيت, هو تقرير حالة لايوجد فيه أمر أو نهي.
وعندما قال تعالى (لا إكراه في الدين). لم يطلب منك موقفاً أن تُكره أحداً ام لا، بل قال : إن بنداً اسمه (الإكراه) غير موجود في مفردات الدين إطلاقاً، بل هي الطوعية البحتة.
ومفهوم السلطة يرتكز مبرره على احتكار أداة الإكراه والردع ومبرر استعمالها. فإذا اعتمدت أي سلطة شرعيتها على الدين فهي سلطة مستبدة بالضرورة، حيث الإكراه ليس من مفردات الدين بل هو من مفردات الدولة. وهنا من يملك سلطة الإكراه (وهو السلطة التنفيذيةالتي تملك أداة الإكراه) عليه ألا يعتمد على أن يكون مصدر شرعيته الدين. لأن الدين لا يقر بالإكراه بل ينفيه مطلقاً. أي أن القاعدة الشرعية (الطاعة لذي الشوكة أو لذي الغلبة) هي قاعدة تشرعن الاستبداد والطغيان بامتياز.
إذاً الشرعية في السلطة لا تؤخذ من الدين. والسلطة من مفردات الدولة .
س: لكن أليس ممكناً أن يكون الدين اساس ومبادئ للشرعية؟
ج: في الدين هناك مراتب ذكرها المصحف. ففي الدولة يوجد دستور هو العقد الاجتماعي، ومفهوم العقد موجود في التنزيل الحكيم، وهو دائماً بين طرفين وهو هنا بين الدولة والشعب. لكن هناك ما هو أعلى منه في الدين وهو الميثاق والعهد.
ميثاق الإسلام هو ان تؤمن بالله واليوم الآخر وبالوالدين إحسانا ولا تقتل نفساً ولا تأكل مال يتيم. هذا كله من الإسلام. كل سلوك أخلاقي إيجابي يحمل الطابع الإنساني يقوم به اتباع الرسالة المحمدية وغيرهم هو من الإسلام، وهذا معنى كونه ديناً عالمياً ودين الفطرة. لكن كل ما يقوم به أتباع الرسالة المحمدية فقط هو من الإيمان. وبالمناسبة هذا المعنى الواضح للإيمان والإسلام ليس واضحاً لرجال الدين. ففي الإسلام ثلاثة فروع هي القيم والشرائع والشعائر. والخاتمية في الدين الإسلامي انه ختم المحرمات. كل ما هو محرم ومكتوب في كتب الفقه وغير وارد في التنزيل الحكيم يُرمى لأنه بلا قيمة. لأن المحرمات هي 14 محرماً في المصحف. وفقط هذه المحرمات من ميثاق الإسلام. ليست موضوع استفتاء او تصويت مطلقاً في كل مجتمعات الأرض. هل يرضى المجتمع الألماني الاستفتاء على شهادة الزور. هي حرام مطلقاً. إن كانت ممكنة وجائزة ام غير ممكنة وغير جائزة؟ فهي مفاهيم شاملة وعامة ومشتركة (Common) لأنها مفاهيم إنسانية بحتة. تحريمها ليس ناتجاً عن برلمان أو أي سلطة مؤسسية اجتماعية اخرى. هناك تجاوز لهذه المحرمات في بعض البرلمانات بقوننة بعضها مثل الزواج المثلي. اللواط موجود في كل المجتمعات ربما، لكن الزواج المثلي قننته بعض البرلمانات بقوانين داخل تلك الدول. هذا خطأ وتجاوز لحدود الله. المفروض بدولة تؤمن بثقافة إسلامية ألا تقونن هذا المحرّم أو غيره من محرمات التنزيل الحكيم. لأن هذا محرم فلا يقونن وليس موضوعاً لقانون.
النظرية التشريعية في الإسلام قائمة على مفهوم الحدود، أي أن الشريعة الإسلامية صالحة لأهل الأرض، لأنها شريعة حدودية، تقدّم حدود التشريع وليس عينه. مثلاً الإعدام هو الحد الأعلى لعقوبة القتل. قالقاتل أقصى حكم ينفذ فيه هو القتل نفسه. لكن من يحدد تطبيق حد العقوبة الأعلى منها أم الأقل هو البرلمان الذي يراوح تشريعه بين حدود عليا ومنخفضة مثلاً. وهذا النوع من التشريع الإسلامي كل اهل الأرض تقلده.
كل شعوب الأرض شرائعها حدودية بين حد أعلى أوحد أدنى أو الإثنين معاً. والأمر كذلك في التشريع الإسلامي بين حدين أعلى أو أدنى أو الإثنين. فإذا تمّت مطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام كحد أعلى للقتل، فلماذا لا تلغى؟ ما دام الإعدام هو الحد الأعلى فأي عقوبة أخرى ستكون ضمن ذلك الحد وربما أقل منه. والبرلمان الآن هو الوحيد صاحب الحق في تحديد العقوبة هل حد أعلى أم أقل ، كلاهما مقبول إسلامياً . وكذلك السجن المؤبد هو حد أعلى لعقوبة السارق (والسارق هو من امتهن السرقة) والإصلاح والعفو وارد.
وبما ان لا إكراه في الدين، والتشريع أحد مُركّبات الدين، هذا يعني من يشرع لايحق له أن يملك سلطة الإكراه. وهكذا تبلور لنا فصل السلطات. سلطة الإكراه والتنفيذ وسلطة التشريع منفصلتان.أي من يملك سلطة التشريع لايملك سلطة الإكراه إطلاقاً، ومن يملك سلطة الإكراه لايحق له التشريع إطلاقاً بينما في بعض البلدان مندمجتان في شخص واحد هو الحاكم. هذا الدمج هو مأساة. وهكذا تبدو أهمية فصل السلطات. فصل السلطات في الإسلام ليس واضحاً حتى الآن للحركات الإسلامية السياسية لأنه غير مؤسس فقهياً. بينما السلطة القضائية هي الأخطر لأنها تستمد التشريع من السلطة التشريعية وتأمر السلطة التنفيذية بتنفيذ أحكامها. لذا فاستقلالية هذه السلطة من أهم أركان أي دولة.
س: هل يعني أنه يمكن أن يكون الدين مصدر تشريع؟
ج: لا. الحدود هي مصدر التشريع وليس الدين. أي حدود التشريع هي عدم تجاوز حدود الله. مثلاً عقوبة الإعدام هي القتل. إذا قتل احدهم شخصاً فممكن تطبيق الحد الأعلى عليه بقتله كما قتل. لكن لا يجوز قتل شخصين عقوبةً على قتل شخص واحد. هتلر وستالين مثلاً تجاوزا الحد الأعلى للقتل.
س: هناك من يقول إن الدين الإسلامي هو مصدر التشريع...
ج: إن من يقول أن الدين الإسلامي مصدر التشريع ، فهو إن كان يقصد أن التشريع في الدولة حدودي بشكل عام، وأن المحرمات الواردة في التنزيل الحكيم حصراً ميثاق غير خاضع للتصويت فهذا يصلح لكل دول العالم. أما إن كان يقصد الفقه الإسلامي فهو لايصلح ويجرنا إلى مأساة، لأنه المنظومة الحقوقية للدولة العربية منذ الف سنة. فلايصلح بالاستناد إليه لهذا العصر.
ما قاله الأئمة حينذاك من ابي حنيفة إلى الشافعي إلى غيرهما لا يصلح لزمننا هذا أبداً. لا بد من وجود قواعد تلائم عصرنا وفق حدود التشريع، وهي واضحة. في الإرث إما أن تتمشى على حدود الإرث وإما تنظم وصية. القاعدة واضحة. وهنا تخيير وليس جبراً, مفهوم نظرية الحدود في التشريع الإسلامي مرن جداً، وننصح أن توجد حدود لكل امر وشأن. وإمكان التغيير متوفر. المحظور الوحيد في كل التشريع ألا تقرب المحرمات الأربع عشرة. ومعظم الأئمة زادوا عليها وتجاوزوها. والأهم ان الحرام لم يحصر فيها فقط. مثلاً لحم الخنزير من المحرمات. ولكن لا توجد دولة شرعت اكل لحم الخنزير في قوانينها ولا منعته. إذاً يجب عدم الاقتراب من المحرمات. أما الشعائر كالصلاة والصوم، فالسلطة ليس من حقها النظر والخوض فيها نهائياً. وماعدا ذلك فالتشريع مفتوح تماماً للناس.
هكذا يكون حسب النظرية التشريعية الحدودية في الإسلام أن القانون هو تنظيم الحلال. تريد السفر هذا حلال واستيراد سيارة كذلك ما دام موضوع التشريع حلالاً فهو ممكن بوضع الضوابط القانونية له. هكذا هنا قانون السفر وقانون الاستيراد والتجارة وغيره قانون البناء ما دام بناء البيوت ليس حراماً. وما فعله رسول الله في حياته انه نظم الحلال لمجتمعه من خلال الأمر والنهي، ولم يحرم إطلاقاً. أي أن الأمور التي نهى عنها رسول الله كان ينظمها لمجتمعه، ولم يمارس التحريم إطلاقاً، ومارس هذه الأمور من مقام النبوة وليس من مقام الرسالة. أي أن الرسول كان معصوماً في مقام الرسالة التي تحمل الطابع الأبدي في حياته وبعد مماته. وكان مجتهداً لمجتمعه حسب الظروف من مقام النبوة في حياته.
المصحف وحده حرَّم
س: لم يحرم الرسول أبداً؟
ج: لا لم يحرم الرسول أبداً، المصحف وحده حرم. وهذا ما نسمّيه الخاتمية، المصحف ختم المحرمات به، فالحرام شمولي وأبدي، أما النهي فهو ظرفي. بينما العالمية في القيم والحدود. أما الرحمة ففي شريعة حمورابي في بابل 36 حكم إعدام، وفي شريعة موسى 16 ، أما في شريعة محمد فواحد كحد أعلى، وهذا الواحد مازال ساري المفعول في كثير من دول العالم، وتم في بعض الدول تخفيضه بعقوبة أدنى وهي السجن، وهذا أيضاً صحيح.
س: إذاً أين الدولة في الإسلام؟ هل توجد دولة إسلامية؟
ج: عندما نقول الدولة تعني مدنية فقط، كيف تكون الدولة في الإسلام إسلامية؟ الإسلام دين عالمي فكيف يكون دين دولة او دولة دين وهناك 193 دولة في العالم حالياً؟ والإسلام دين عالمي أي حدود عامة للتشريع وقيم تواضعت عليها شعوب العالم وتستعملها فكيف يكون دولة؟ تصور موناكو دولة والصين دولة فكيف نقول دولة إسلامية والإسلام دين لكل أهل الأرض لأن الدولة تحمل طابع المحلية؟ قال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ». سئلت عن فطرة اهل الأرض؟ فقلت خذوا أية قوانين في اية امة فتجد أنها في 99,99 صحيحة، من هنا الفطرة التي فطر الله الناس عليها وليس فيها تجاوز لشيء محرم، فلم يحلل بالقانون محرّم، إلا في بند قوننة الزواج المثلي في بعض الدول، فالقوانين تقوم بتنظيم الحلال. ولاتقونن المحرمات، وكل أهل الأرض تَبَنَّت نظرية الحدود في التشريع.
صندوق الاقتراع هو الطريق الوحيد إلى السلطة
س: ما تقديرك للإسلام السياسي؟
ج: سؤال مهم جداً، بخاصة حالياً، والحقيقة أني أرى بعد 40 سنة من درس الإسلام السياسي أنه اقتنع الآن بأن الطريق الوحيد إلى السلطة هو صندوق الاقتراع. وهذا قلته في حديث لي لـ«نيويورك تايمز». لكني إلى الآن أنا غير واثق تماماً من قناعتهم فعلياً بأن ديكتاتورية الأكثرية غير صحيحة، ولا يجوز أن تكون مسوّغاً للحكم. وهذه الديكتاتورية يمكن أيضاً أن تتحقق في الواقع عن طريق صندوق الاقتراع. وإذا كانت هناك رغبة في أن يتم التصويت على أي نقطة وفكرة غير قابلة للتصويت عليها، نكون أمام مشكلة بالفعل. وحيث يعتمد الدستور مبدأ الاحتكام إلى الاقتراع، ولكن في الديموقراطية هناك قواعد هي فوق الدستور، ولا يصح التصويت عليها في أي حال، أي مسلمة لقيام النظام العام في بلد ما. وهذا ما يطرحونه في مصر حالياً. وإذا أقر الإسلام السياسي وجود قواعد لا يصوّت عليها سيكون مقبولاً إذا اعتبرت المحرمات الـ 14 لا يصوت عليها أيضاً مثل تحريم: قتل النفس، أكل مال اليتيم، عدم البر بالوالدين... لكن هناك مبادئ حقوقية مدنية وأساسية مثل المحرمات ويجب اعتبارها فوق التصويت أيضاً، مثل: حقوق الأقليات الدينية والعرقية والسياسية في الوجود وممارسة النشاط، وحق التعبير بأنواعه،... هذه أيضاً لايصوت عليها. وهذه يجب إقرارها. وهي تمثل الإشكالية حالياً التي تواجه الإسلام السياسي بضرورة التفريق بين الديموقراطية وديكتاتورية الأكثرية. ويجب أن يُعلن هذا التفريق صراحة.
أرجو ان تكون الحركات الإسلامية في تونس ومصر وغيرها قد تخطت عوائق الديموقراطية كما قلت وتتجه إلى اعتبار المبادئ الحقوقية الأساسية للفرد والجماعات هي مبادئ لا يصوت عليها وهي مسلمات فوق الدستور، التي نستطيع تصنيفها ضمن قواعد الميثاق الذي يعلو على الدستور.
إذا تمكن الإسلام السياسي من بلورة مبادئ حقوقية لا يصوت عليها للميثاق السامي على الدستور وآلياته وتطبيقها ومراعاة إجرائه يكون خطى خطوة ديموقراطية جبارة.
قناعتي هي أن حزب العدالة والتنمية التركي بلغ هذا المستوى من الديموقراطية وهي أنه لو خسر الانتخابات فلن ينتكس على النتائج ويصر على البقاء في الحكم تحت ذرائع مختلفة ، وأرجو أن لاأكون مخطئاً.
وعلى الحركات الإسلامية السياسية أن تعلم تماماً بأنه ليس من مهمة الدولة إرسال الناس إلى الجنة بالقوة، أو منع الناس من الدخول إلى النار بالقوة. مهمتها هي تصريف أمور الحياة الدنيا.
س: الديموقراطية التركية أصيلة...
ج: صحيح. لكن نحن نهتم الآن بتونس ومصر وغيرهما حيث الأنظمة فيهما سارت على آليات ديموقراطية حقيقية، وليست فيهما ديكتاتورية.. أي أن هناك مبادئ يجب رفعها عن التصويت عليها. الآن موقف حركات الإسلام السياسي مازال فيه غموض. وبعض الحركات الإسلامية ترفض وجود مبادئ حقوقية تعلو على الدستور. ولكن عليها أن تزيل هذا الغموض.
س: أخيراً ما موقفك من العلمانية والعلمنة؟
ج: مشكلتنا ليست في العلمنة والعلمانية. الدولة السوفياتية كانت علمانية بامتياز ولكنها دولة مستبدة غارقة في الطغيان ومعاداة الأديان كلها. مشكلتنا هي في استيعاب الديموقراطية وتداول السلطة. إذا كانت العلمانية هي تطبيق هذين المبدأين وضمنهما فهي «على رؤوسنا»، والباقي كالشعائر والقيم لا علاقة لهما بالتشريع وأن الدولة لاتتدخل إطلاقاً في الشعائر لأي ملّة موجودة ولو كان عدد أفرادها قليل. والحقوق التي لايصوت عليها وهي الحقوق الفكرية والسياسية وحرية الكلمة بمختلف أنواعها مصانة للأقليات وللأكثرية على حد سواء، هذه قواعد النظام الرشيد برأيي، فلا فرق عندي إذا سمّيته العلمانية أو الإسلامية.
المشكلة في النظام العلماني ليست في أنه ما إذا كان مع الدين أو ضده، بل هل العلمانية مستبدة أم غير مستبدة؟ فإن كانت غير مستبدة فهي بالضرورة ليست ضد الدين. فالاستبداد والطغيان يتجاوزان كثير من القيم الأخلاقية والإنسانية بالضرورة حتى ولو كان باسم الدين، وهو رأس مشاكلنا وعلينا التخلص منه تحت أي شعار كان ديني أم علماني. وآن لنا أن نرسخ مفهوم الدولة والمواطن عوضاً عن دولة الراعي والرعية. وهذا المفهوم للدولة لامكان لمفهوم أهل الذمة.
س: لكنك قلت إن أي سلطة تعتمد الإكراه لا مسوغاً إسلامياً له...
ج: امتلاك أدوات الإكراه هو أحد مركبات السلطة وهي السلطة التنفيذية، وهذه السلطة لايمكن أن تأخذ شرعيتها من الدين، أو من أي طرف إلا من خلال عقد اجتماعي مع الناس التي ستمارس السلطة عليهم، وهنا إن أساس الأسس في أي دولة هو فصل السلطات. التشريع لايملك أداة الإكراه، وأداة الإكراه لاتملك التشريع، والقضاء هو صلة الوصل بين الاثنين.
وهنا علي أن أنوه أن الرسول الأعظم مارس السلطة من مقام النبوة، وكان قائداً عسكرياً من مقام النبوة أيضاً، وأسّس الدولة من مقام النبوة، وأمر ونهى في مجتمعه من مقام النبوة، وكلها في حياته وكان مجتهداً فيها ولاتحمل الطابع الأبدي، وهي بالنسبة لنا للإستئناس فقط، وهي تاريخ وليست ديناً. أما القيم والأخــلاق والشعائر فقد مارسها من مقــام الرسالة ولايوجد فيها إكراه وكان معصوماً فيها. وقد شــرحت هذا في كتاب لي قيد الطبع الآن بعنوان (السنة الرسولية والسنة النبوية).
المصدر:
تعليقات