سحر مندور (كاتبة وروائية لبنانية)
يبدأ السكتش الساخر برجل مستدير الزوايا، يدهن كريماً مطرّياً على ساعديه، يحلق الشعر عن جسمه، يسرح شعره الأشقر المصفف كما «سيدات المجتمع»، يضع المكياج على وجهه، على أنغام «لا في آن روز» لإديث بياف، وقد تم تحوير كلماتها «كوميدياً»، وكتبت على الشاشة لمزيد من المنفعة وكي لا تخطئها أذن.. ويبدأ الرجل بالغناء:
«بحبّو أنا وبحسّو غير / بيحسسني بقيمة حياتي / بيلعبلي دايماً بشعراتي / وبتمنالو عطول.. الخير / quand il me prend dans ses bras / بيشهّيني الهبرة / je vois la vie en moze / يخرب بيته شو أمّور / وبالإيز ميز شو شطّور / أنا يسلملي طزطوزو / هو وحده عزيزي / والفيشة لبريزي / وأنا غيرو ما بعوزو / foufou pour moi / moi pour foufou dans la vie / قلي ياها حلفلي ياها وحياتك زوزو».
ثم تُعاد الكلمات، هذه المرة على خلفية البحر الرومنسي، بعدما كانت أولاً فوق السرير المدلل.
قبل الخوض في المعنى الاجتماعي، لا بد من بحث فرضية «النكتة البريئة» في ذلك السكتش: أين مسببات الضحك في ذلك؟ اختصار المثليين بـ«فوفو وزوزو»، أم مجرد فكرة وجود علاقة جنسية بين رجلين؟ أم ان الضحك المتوقع من السكتش الذي عرضته «أم تي في» يجب أن يأتي هيستيرياً، كضحك المقاتل في حرب «العرق الصافي»؟ وهي حرب تخوضها قناة «أم تي في»، كوميدياً، ضد الفئات التالية: العمال والعاملات الأجانب، اللاجئون الفلسطينيون، المثليون، المرأة المعنّفة، ...
كأنها عملية «تطهير»، كتلك التي خاضها أدولف هتلر، حالماً بعرق آريّ صافٍ، خال من ألوان الحياة، تستعيده الشاشة العائدة حديثاً من المنع، لترسم معالم مواطن، يرطن بثلاث لغات في الجملة الواحدة، يأتي وقعها كجرعة قطرٍ على الريق، وتتحرر ضمنها ملابس المذيعة بينما تلقي بكفّها على وجنة سيدة أخرى، في سكتش آخر، لأنها تستأهل «العنف الأسري».
استسهال السخرية من المثليين، كفئة لا تتمتع بمرجعية محلية تحميها، يظهر على مختلف الشاشات اللبنانية. وتلك جريمة، ما دام القتل والمنع يطال تلك الفئة من الناس، أكان المعتدون عليهم أفراداً من عائلاتهم أم «الدولة»، أو الخارجين عنها. وفي التحريض عليهم، وفي تجريدهم من مقوّمات الإنسانية، ما يصب مباشرة، وعن سبق الإصرار والترصد، في سياق الاشتراك بعملية قتل معنوية ورمزية وفعلية. ولا أحد يحاسب القنوات التلفزيونية على ذلك، أو سواه من مسببات العنف. ولكن، يوماً ما، سيأتي رأس المال ويأمرهم بوقف تلك الموجة، لسبب ما، ربما لمثلية ابن أو ابنة أحد أصحاب المال والسلطة، فتنطفئ النكتة على الأسنان الدامية.
العاملات الأجنبيات
أما العاملات الأجنبيات والعمال الأجانب، الخاضعون لنظام كفالة يهين واضعه لا الخاضع له، فقد بلغ التحريض ضدهم على قناة «أم تي في» أكثر من سواها، حدّ المشاركة في جريمة أيضاً، بدءاً من نشرة أخبار تخبر عن عمّال هم في الحقيقة عاهرات ولصوص وقتلة «أجانب»، يسممون الهواء النقي الذي يتنفسه أبناء العرق النقي. وللحفاظ على العرق، يجب تبرير كل ممارساته الشاذة، والهمجية، كواجبات مفروضة على «اللبناني»: إنهم فاسدون، ولذلك نقتلهم. إنهم وسخون، ولذلك نحرقهم. إنهم لصوص، ولذلك نسرقهم. وما لا تقوله نشرة الأخبار، يستكمله البرنامج الكوميدي ذاته، الذي يضع ممثلين في مكتب استقدام عاملات، علماً أن وجود مكتب كهذا، بحدّ ذاته، هو مشكلة في مجتمع لطالما ثار ضد نظام الكفالة في الخليج، وآلية حجب جواز السفر عن حامله. الممثلان يهرّجان بطريقة غير مفهومة، مصدرين ضجيجاً هستيرياً، ليخبرا عن «الخادمة»، وفلتانها ووساختها وقرفها وأمراضها النفسية وأخلاقها غير الحميدة، في مواجهة كمالهما، ورقيهما!
الفلسطينيون
أما الفلسطينيون فأتى استهدافهم على «أم تي في»، عبر البرنامج الساخر ذاته، الذي يبدو وكأنه رأس حربة التحريض على المختلف عن عرقٍ مريض بـ«أناه»، في سياق يعود بالمرء إلى العام 1975. ليس التحريض ضد لاجئ فلسطيني موجود حالياً في المخيم، بظروف تهين لبنان واللبناني (أيضاً وأيضاً) قبل اللاجئ.. وإنما هو تحريض ضد «فلسطيني 1975»، ملبّساً رداء الثورة المسلحة، متمتعاً بتمويلها، شارياً العقارات، شاغراً الوظائف، مانعاً بشير الجميّل من بناء لبنان الحديث! ما يستوجب من العرق الصافي مكافحته، إهانته، والسخرية من فلسطين كأرض محتلة، واستعادة الخريطة للبحث عن طريق القدس.. كأنها غيبوبة، وقعت فيها المحطة، تداخل أزمنة، حالة هذيان ما، أو ربما هو الجهل بالحاضر، مع ترداد بعض العداوات الضرورية لتدعيم الذات وشحذ غضبها ضد محيطها.
المرأة
ومن الفلسطيني إلى المرأة، علماً أن المرأة هي العنوان الأسهل لفضح ظلال الذقون التكفيرية، ولو اختبأت خلف تنورة حمراء قصيرة، أو ثلاث لغات في جملة واحدة، أو شنب صغير كذاك الذي ارتداه الفوهرر. هي ذاتها. اضربها لأنها تستأهل الضرب، قالتها النكتة في البرنامج الفكاهي التبشيري بـ«لبنان الجديد»، ذاته. اضربها، ولا تخشَ شيئاً على نفسك، القانون سيحميك، والشاشة ستلمّع صورتك.
مختلف المحطات التلفزيونية اللبنانية تتشارك مع «أم تي في» بعضاً أو كثيراً من آلية بث العنف في المجتمع هذه، ومعظمها تلجأ إلى الكوميديا كوسيلة لترويج ما لا يمكن قوله في حوار جدي، أو ريبورتاج، كـ«طزطوزه» المذكورة أعلاه مثلاً. الكوميديا هي حبة السكر التي تساعد اللسان على تقبّل «الدواء». اجترع الفكرة، ولا تسائلها أو تسعى لمحاكمتها، لأنها الكوميديا! كم أنت ثقيل الدم، وأحياناً متخلف، لأنك لا تبلع الكوميديا الحادة كشفرة، ولا تضحك لمفاهيم عفنة كذقون التكفيريين.
وهي شاشات تتشارك أيضاً في كونها مملوكة من رجال مال وأعمال وسياسة، «كوّنوا أنفسهم» بفضل الوضع القائم، ولا يريدون لمعادلاته أن تهتز، وهم جاهزون لمحاربة أي فكرة تغيير آتية، مهما بدت بسيطة، لأنها قد تشق الباب على تيار جارف من الهواء.
يحاربون التغيير، لأنه يستهدفهم. وهم يفعلونها في الدولة، إذ يمسكون بكل مفاصلها، ويقررون أي طرق يفتحونها أمام الناس إلى الدولة، مدغدغين غرائزهم بما يخدم مصالحهم، وهي معادلة يعرفها الجميع في لبنان، يعرفونها بينما يخضعون لها، ولا يفكرون بمساءلتها، لأنها حاكمة ومتحكمة، بهم وعليهم. وما امتناع مجلس النواب، أي السلطة التشريعية، عن الإتيان بأي جديد حقوقي على مستوى الحياة المدنية إلا خير دليل على ذلك.
أما دور الشاشات في تلك الحلقات المحكمة فتأتي في مواجهة حملات تجرأ المجتمع المدني عليها، وأنشطتها في هذه الأيام هي تلك التي تطال كل العناوين المذكورة أعلاه، بدقة وتفرّغ: المرأة، العاملات الأجنبيات، الحقوق المدنية للاجئين الفلسطينيين، ... حملات لاقت صدى في المجتمع، لأنها تمدّه بصورة أكثر عدالة عن نفسه، فكان لا بد من محاربتها. والنكتة، الضحكة، التسفيه، هي أنجع الأدوات.
اللغات الثلاث التي تنطق بها المذيعة ذات الشعر الراقص في قناة «أم تي في»، وسواها، لا تصنع للعين صورة حديثة، وإنما تغريها بالجريمة، تستدرجها للاستمرار في ارتكابها، كإدمان يحفظ استمرار الوضع القائم. والنكتة، وتلك الضحكة المقرقعة على طبول عنيفة تحرّض ولا تضحك، فهي لا تهدف إلى التخفيف عن روح المواطن، وإنما إلى إشعال وقود الكراهية فيه تجاه آخرين ترسم صورتهم له المحطة، هم الأعداء، إكرههم، أنت ممتاز كما أنت، لا تتغير، فلا نتغير، ونحتفل بالذبيحة مع كل ضحكة..
تقول الجملة التي تداولها الفايسبوكيون، مؤخراً، على حيطان الرأي الخاصة بهم، إن «الاندماج تماماً في مجتمع مريض ليس دليل عافية». والاحتفال اليومي بالعرق الصافي على «أم تي في» وسواها، ما هو إلا تسمين للحمام، قبل ذبحه، ليكون وليمة على طاولة آخرٍ، مثلما كان الآخر وليمة على طاولته هو، يوم ضحك كثيراً لأن زوزو يحب فوفو.
المصدر :
تعليقات