زهير الجزائري
قبل ألأسدين كانت سوريا أول بلد أزوره في حياتي خارج العراق ، وبوجودهما كانت أول بلد أدخله هاربا من العراق بجواز عربي مزور يحمل اسم ناظم كمال ( تاجر أدوات احتياطية ). في هذا البلد وفي لبنان قضيت 13 عاما معضمها تحت حكم الأسد الأب، وشهر واحد منها حين وضع الإبن مرتبكا عجيزته على كرسي والده .
كانت زيارة سوريا ممنوعة على العراقيين كما منع السوريون من زيارة العراق رغم إن البعث الذي يحكم البلدين يضع ( الوحدة ) في قمة ثالوثه المقدس . العداوة العائلية بين القيادتين فرضت على الشعبين الأقرب لبعضهما ، ففي جواز أي مواطن من البلدين منعت زيارة بلدين : إسرائيل وسوريا او العراق .
مع ذلك كانت سوريا من البلدان القليلة التي تقبل لجوء العراقيين الهاربين من إرهاب نظامهم ، ولذلك تكونت أحياء عراقية ، جوامع عراقية ،مقاه وبارات عراقية. صارت دمشق جزءا من التكوين العراقي في المنفى ، فقد ولد لنا أبناء هناك وكبروا وتعلموا هناك و صارت السورية لهجتهم والأسد " ابوهم القائد "الذي يهتفون له كل صباح دراسي .
لا تفارقني مشاهد دمشق وأنا أكتب عن حياتي تحت حكم الأسدين . أحفظ ساحاتها واحدة واحدة ( المرجة والصالحية وسبع بحرات ومحي الدين والمالكي ... أحفظ تفاصيل الفنادق الرخيصة في المرجة التي كنت أتنقل بينها في بداية السبعينات والبيوت العشرة التي سكنت فيها أعزبا ومتزوجا وأحفظ الطرق المؤدية إليها كانني أطرق حجارتها الآن وأنا هنا في بيتي ببغداد .
خلال التجوال ألتقي الأسد حيثما ذهبت واتجهت منحن قليلا كأنه في صلاة ، منصتا بحزم، مبتسما بإجهاد ، مقلصا عينيه من فكرة خطرت بباله . وأنا أتصفح كل هذه الصور لطالما راودني نفس السؤال الذي طرحه الصحفي الديمقراطي غري أكرمان على الأسد عام 1997:
-هل تعرف سيادة الرئيس، في طريقي رأيت صورتك في كل مكان ، في كل الدكاكين ، في كل نوافذ الباصات في كل الأعمدة ...
وكنت أعرف أنه سيجيبني :
-أعرف ذلك، والأمر يزعجني بمقدار ما أزعجك. وقد ابديت احتجاجي مرات ، لكن الأمر لم ينفع . ووضعني الناس في موقف حرج . أحيانا أفكر بأن أتسلل في الليل وأنزع كل هذه الصور.
... لم يفعلها . لو حاول لكنت تركت قدح الميماس من يدي وخرجت لأعاونه في نزع الصور من جدران دمشق القديمة لأن صورته تصادر التاريخ المختفي في حجارتها . لكني غادرت هذه الرغبة دون رجعة حين صادفتني في واحدة من جولاتي المبكرة صورة للأسد في زقاق قديم وقد شطبت بسكين حاقد . غادرت الصورة مسرعا دون ان التفت كأنني أنا الفاعل وإن صوره التالية تلاحقني .
حافظ الأسد رغم ولعه بالصور والتماثيل لكنه كان بعيدا عن النزعة الاستعراضية التي تميز بها صدام . لم يركب عربة ذهبية ، ولم يطلق الرصاص من شرفة ولم يدخل البيوت ليفتش ثلاجات الناس ... تصرف كرئيس رصين وكيس وفي الحيز المرسوم . لم يتباهى بحنكة عسكرية في غرف العمليات فقد كان عسكريا ولم يحاول ان يكون شعبويا فقد عزل نفسه عن الناس مفضلا ملاقات الناس عبر الحزب .
لم أره وجها لوجه رغم أني عشت 13 عاما بين سوريا . بدلا من الأصل كنت أرى تمثاله في واحدة من أجمل ساحات دمشق ( عرنوس ) . عند هذه الساحة تتقاطع الشوارع المؤدية الى الطلياني والحمرا و ساحة الباكستان . وعندها يلتقي إثنين من أهم أسواق دمشق. ومع أن الأسد نادرا ما نزل الى الأرض واختلط بالناس ، إلا أنه أراد تمثاله واقفا على الأرض برسوخ وسط زحمة السوق ، أطول مرات من قامته الحقيقية ، يحيي الناس بيده اليمنى التي تتقدم قليلا أمام الوجه ولا ترتفع عاليا كما معظم القادة . المنكتون السوريون يهمسون حين يمرون بهذا التمثال :
- أنظر اليه ! يحاول أن يوقف سيارة تاكسي ولا أحد يقف له !
الفنان السوري الذي نحت هذا التمثال بمزيج من الحرج والخوف لم يجلس اماٌم الرئيس كموديل ، إنما تمعن طويلا بصوره ودرس حركات الأسد الأكثر دلالة عليه ، ومنها انحنائة ظهره وارتخاء يده وتسطح صماخه.
رجل من القصر يزور النحات في مشغله باستمرار ، متحرجا أكثر من النحات نفسه . يريد أن يقول ملاحظاته ، لكن لايعرف كيف يصوغها ، وفي ذهنه أن الرئيس نفسه سيعطي الموافقة النهائية : هل التمثال يشبهه أم لا ، وحتى لوكان يشبهه فهل يتطابق مع الصورة التي يريد أن يبدو بها ؟ التماثيل تختلف تماما عن الصور ، الصور عابرة كما أصحابها تتقادم مع الزمن والأنواء ، أما التماثيل فتتصل بالخلود في مواجهة المواطن العابر. التماثيل تريد أن تؤبد السلطة بوجه الزمن .
بين كل الصور التي واجهتني للأسد نادرا ما رايت الحماس في واحدة من صوره ، فقد راى الكثير من التغيرات، صانعا ، مشاركا أو شاهدا، ولذلك ماعاد هناك ما يثير حميته. مثل معظم الزعماء العرب من معاصريه الذين حكموا بلادهم لفترات طويلة جاء حافظ الأسد الى الحكم من قرية فقيرة تقع على مرتفع جبلي شاهق يطل على البحر. في هذه القرية (قرداحه) قضيت يومين في ضيافة عائلة علوية منغمرة في الثقافة كتابة ومسرحا . لم تكن العائلة محبة لحافظ الأسد، بل على العكس كنت أسمع منهم الكثير من النقد والنكات عنه. بيوت القرية القديمة بنيت من حجارة الجبل الراسخة . كل مافي القرية هرم : الأشجار والبيوت والناس . من مضيفي عرفت السبب : أكثر الشباب يؤخذون للخدمة في الجيش والحمايات الشخصية . مابقي في ذاكرتي من هذه القرية مقبرتها التي تقع في بقعة خالية في أعلى منطقة من الجبل تحت أشجار إبرية ضليلة . هناك ،كما أعتقد دفن حافظ الأسد جنب والده.
قبل ذلك عاشالأسد كل الإنقلابات والإنقلابات المضادة التي شكلت التاريخ المضطرب لسوريا الحديثة . كان في ال16 من عمره حين انضم لحزب البعث عام 1946 في فترة الإنقلابات العسكرية المتتالية . فالبعث كان الحزب السوري الوحيد الذي ايد انقلاب حسني الزعيم عام 1946 الذي حل الأحزاب جميعا ومنها الحزب الذي استبشر به ، وبعدها بستة أشهر أيدت قيادة البعث انقلاب سامي حناوي الذي أطاح بالإنقلاب الأول وقتل حسني الزعيم ، بعد شهرين و في 20 كانون الثاني أيد الانقلاب الثالث الذي قاده العقيد الشيشكلي الذي كان معاونا لرئيس الأركان العامة عند الحناوي. وفيما بعد منع الشيشكلي حزب البعث الذي أيده بعد أن اغلق جريدته في 26 كانون الثاني 1952.
منذ بداية حياته الحزبية ،وهو لم يصل العشرين بعد ،عاش الأسد الأب كل هذه الإنقلابات وصارت مهنته داخل الحزب. فقد شارك في الأنقلاب البعثي الذي أطاح بحكم القوتلي ووصل للسلطة عام 1963 في نفس العام الذي وصل فيه الجناح العراقي من الحزب الى الحكم بمجزرة دموية . كان قائدا للقوات الجوية وقياديا في الحزب خلال إنقلاب صلاح جديد عام 1966 الذي أطاح بالقيادة التاريخية ومنهم فيلسوف الحزب ميشيل عفلق واتهمهم باليمينية وبإغراق الحزب بالفكر الغيبي والتواطؤ مع عبد الناصر لحل الحزب. وقامت القيادة الجديدة باعتقال عدد من أعضاء القيادة القديمة وفر آخرون، ومنهم ميشيل عفلق، إلى المنفى.
بعد أقل من عام ومن موقعه كوزير دفاع دخل الأسد في صراع مع القائد العام للقوات المسلحة ورفيقه في القيادة صلاح جديد. مثل كل العسكريين الذين خدموا في القوات الجوية تعلم الأسد أن لايحلق بسرعة. عليه أن يتفحص اجزاء طائرته بدقة ويسأل المهندس والخدمات الأرضية عن التفاصيل قبل أن يصعد الى قمرة القيادة . هذا ما فعله في السياسة أيضا، فقبل أن ينقلب على رفاقه ضمن مساندة العسكريين العلويين واوسع الموالين له. كل القريبين من قيادات الحزب كانو يهمسون " حتى إنه لا يحتاج الإنقلاب،فقد سيطر على المرافق العسكرية الهامة ، وماهي قدرات الحزبيين المدنيين إذا تحركت الدبابات ؟ البعض كانو يقولون إن الإنقلاب حدث ، الجميع يعلم ذلك إلا المنقلب عليهم .مع ذلك استيقظ وزير الدفاع قبل الجميع صباح يوم 13 نوفمبر 1970 وأمر قواته بالتحرك، وتوجهت فوهات الدبابات الى مبنى القيادة القومية و مقر الإذاعة في البرامكة وسيطرت قواته على المدينة دون مقاومة، وشكل انقلابه واحدا من إنقلابات القرى على المدن في العالم العربي.
من مشاركته في الإنقلابات والإنقلابات على المنقلبين معه عرف الأسد الدرس تماما فسجن رفاقه في زنازين مجهولة لتنساهم الأجيال اللاحقة ، حيث مات صلاح جديد في السجن وأطلق سراح نور الين الأتاسي قبل وفاته بايام . خلال 23 عاما من السجن غيب الرفاق القدامى عن الحياة تماما ولم يعرف عنهم أقرب الناس اليهم. في دمشق يشير المتهامسون الى قمة قريبة من المدينة عليها سجن المزة الشهير ويتهامسون :
-في مكان ما هناك سجنوا واختفوا...
ويرد آخرون :
-معقول لحد الآن أحياء ولا يعرف عنهم أحد؟!
الأجيال الجديدة لاتعرف حتى أسمائهم وماذا كانو يفعلون ، فقد فطموا على قائد واحد ، وما من أحد قبله ولا بعده . وقد حفظوا عن ظهر قلب أن رئيسهم قاد "االثورة التصحيحية " لكنهم لا يعرفون ضد من ثار وماذا صحح ؟
كان الأسد وزيرا للدفاع حين حدثت نكسة حزيران عام 1967 فاحتلت إسرائيل جبل الشيخ وهضبة الجولان ، أي ما يعادل ثلث مساحة سوريا وأصبحت دمشق تحت مرمى المدفعية الإسرائيلية. هذه الهزيمة شكلت الجغرافيا النفسية للأسد ونهجه السياسي، فقد كان الإحتلال الأسرائيلي عقدة الزعامة التي أرادت أن تلعب دور البطولة . لم يصالح إسرائيل ولم يحاربها فعليا بعد أن جرب الهزيمة مرتين . خاض العديد من الحروب في المنطقة، ضد الأخوان المسلمين في حماه ، ضد الجيش الأردني في أيلول دفاعا عن الفلسطينيين، ضد الفلسطينيين في لبنان، ضد أعدائهم الكتائب ، ضد البعث العراقي ... لكنه كان في كل الأحوال يتهرب من مواجهة إسرائيل رغم أنها ضربت قواته في لبنان مرارا . وكما هو الأمر مع زعماء عرب آخرين كانت المواجهة المؤجلة مع إسرائيل الذريعة الدائمة لتاجيل الإجابة على سؤال :
- الديمقراطية ؟
كنت جارا لحافظ الأسد مرتين خلال ال13 عاما التي قضيتها في سوريا على مرحلتين. في بداية السبعينات كنت أمر بين الحارس الوحيد وباب الشقة التي يفترض أنها ماتزال بيت الأسد . لم يوقفني الحارس ولا مرة واحدة ليسأل عن هويتي في الليل المتأخر وانا أعود للقبو الذي اتشارك فيه مع صديقي الفنان قاسم حول . كنت اقارن بين حراسة القصر الجمهوري في بلادنا وحراسة الرئيس السوري، لكن فلسطينيا أجابني بسخرية:
-وتقول لنفسك صحفي قديم ؟! معقول بعد كل هذه التصفيات في الحزب ويسكن نفس بيته ومع حارس واحد ! هذا البيت للتمويه ، شو عرفك باي مطرح يسكن!
في النصف الثاني من الثمانينات سكنت قريبا من واحد من مداخل بيته ، في قبو تسكن فوقه ملكة الطرب في الثمانبنات مياده حناوي. لمرتين لاحظت أنهم فتشوا بيتي فلم يجدوا غير الكتب وزجاجة الخمرة .
على طول الطريق المؤدي الى بيته إصطف حراسة المتشابهون في طول قاماتهم وعرض أكتافهم وبدلاتهم الداكنة وطريقة وقوفهم باستعداد مشدد . الرشيشات مخباة تحت الجاكيت الرسمي واليد اليسرى ممسكة بجهاز لاسلكي . كنت أسير في الشارع كالمخمور الذي يحاول أن يضبط خطواته وأنا أتخيل صفين من العيون تترصد خطواتي بينما يدقق الجالسون في البرج في تفاصيل جسدي .
في البيت الواقع في نهاية هذا الشارع الشديد الإستقامة والوضوح يستقبل الأسد ضيوفه ولا يأتي إليهم. وقد سمعت من قائدين فلسطينيين إنه اعتاد أن يلتقي ضيوفه في ساعة لئيمة ، في الثالثة بعد الظهر، ولكن عليهم أن يتهيأوا في الثانية عشرة . وحتى لو أخذوا وجبة خفيفة فان الجوع سيقرصهم في موعد اللقاء فيقتل طاقتهم على الحوار والجدل وتكون له المبادرة والهيمنة في الحديث.
الجواهري كان استثناء في لقاءات الأسد ، فقد كان الأسد يزوره في بيته في الجسر الأبيض ، وعندما يزوره الجواهري في مقره ظهرا يستاذنه حالما تتجاوز الساعة الثانية ظهرا مقاطعا الحديث:
ذات يوم قرر الأسد أن يغادر هذا البيت دون أن يخبرني باعتباري جاره ، ولم أعرف أين ذهب . بعد أشهر، كنت في الطرق المتلوي باتجاه دمر حين فاجأني على حين غرة قصر كانه خرج بغتة بفعل سحر ساحر. قصربعيد وقريب على قمة تل غارق في سحابة ضباب. سألت سائق السيارة عن سر هذا القصر فمال علي هامسا " إنه قصر الرئيس الجديد ." ونحن ننزل مع الطريق المتلوي بقيت عيناي عالقتان بالقصر وموقعه الذي يطل على كل دمشق :" كيف تسري إرادته من هذا القصر المعزول إلى أجهزته المبثوثة في كل زوايا المدينة ؟ ماهي الشفرة التي تحرك هذه الأجهزة باتجاه الحياة او الموت ، الفرح أو الفزع ؟" . من شرف القصر يستطيع الرئيس المريض ، وهو يتناول قهوة الصباح ،أن يرى مبنى القيادة القومية ، مبنى الإذاعة والتلفزيون ، الموظفين الذاهبين الى دوائرهم من تحت صورته والطلاب الذين سيبداون يومهم الدراسي بالنشيد له. من هنا سيرى معتقليه في سجن المزة وهم يذوون في زنزاناتهم ، ويرى مخبريه وقد انتشروا في المدينة بحثا عن معارضيه حتى ولو في نياتهم ... ويراني وانا أغادر بيتي و أقطع المسافة القصيرة بين مدخل بيته القديم الى المكتبة التي تحمل اسمه ( مكتبة الأسد ) . وقبل صعود السلالم العريضة أرفع راسي قليلا لأرى الأسد من المرمر الأبيض جالسا على كرسيه باسترخاء ولكن يده اليمني ممسكة بمقبض الكرسي بقوة . وقد ولد لدي يقين يعاكس بيت الجواهري " باق وأعمار الطغاة قصار " ، فقد علمتني الحياة بين دكتاتورين بأن أعمار الطغاة طوال في شرقنا العربي , لا يفارقون كراسيهم إلا الى القبر، وعاشت تحتهم أجيال كان الطاغية بالنسبة لها قدرا . مع ذلك توفي الأسد وهو في ال69 من العمر بسرطان الدم الذي ياكل الإنسان من داخله كما تأكل السلطة صاحبها بأفعاله .
رأيت شبانا يبكون وهم ينظرون الى نعش الرجل الذي أكل اعمار آبائهم وعجبت : لم يبكون ؟ على الأب القائد ؟ على عمرهم الذي أهدر دون أفق؟ أم على مستقبل غامض حيث لم يترك الطاغية بديلا إلا وصفاه إعداما ، سجنا أو منفى ؟
حين غادر الأسد بيته القديم الى قمة التل غادرت القبو الذي يقع تحته لأسكن في الطابق الثالث من عمارة قرب مستشفى ابن النفيس بعيدا عنه وعن حراسه. لكن حراسه داهموني في بيتي وأنا أقرأ رواية الكولونيل لماركيز . وقفوا بباب بيتي بقناصات بريجنيف وبنواظير مقربه . إبتسموا لي لتهدئة مخاوفي من هول المفاجاة :
-نحن هنا في سطح العمارة منذأكثر من ساعة ونريد ماء.
منهم عرفت انهم أحتلوا كل سطوح العمارات المحيطة بملعب الفيحاء ومنها سطح عمارتنا التي تبعد اربع كيلومترات من المكان الذي سيلقي منه الأسد كلمته بمناسبة ذكرى الثورة التصحيحية .
لم أر الأسد أبدا مع إني رأيت في حياتي كثيرا من الأسود ، بعضها في أقفاص في حدائق الحيوان وبعضها طليق في الغابة وبعضها محنط في غرف رؤساء أحيلوا على التقاعد . ما أ قصده الرجل الذي لطول ماحكم سميت سوريا باسمه ( سوريا الأسد ) . وأقولها بصراحة لم يكن وجود الأسد هناك في هذا البلد يهمني كثيرا ، فقد كنت مشغولا بالأسد الآخر الجاثم على صدر بلادنا مثل أسد بابل " بين سيفين بلادا بين نهرين." كنت أخوض سجالا حاميا مع أديب سوري علوي : أي الأسدين أكثر ضراوة من الآخر ، السوري أم العراقي؟ الأديب السوري ، الذي رحل قبل أن يرحل الأسد مع إنه يصغره بعشرين عاما ، كان يعدد لي (منجزاته) الدموية واضعا في المقدمة مجزرة حماه عام 1982 ، مجزرة سجن تدمر ، حصار حلب ، مجزرة تل الزعتر . وكان (يتباهى ) بمجزرة حماة بأنها ألأكبر والأكثر دموية في كل الشرق الأوسط .
أرد عليه بتعداد " منجزات (أسدنا):الدجيل،حلبجة،الأنفال، مجازر النجف وكربلاء ... في النهاية ربحت الرهان لأني في النهاية لاجيء في بلاده . بقي صديقي العلوي يذكرني دائما بهزيمته ساخرا :
- تعرف كل يوم صباحا وعند حلاقة لحيتي أحمد ربي لأن رئيسنا حافظ الأسد وليس صدام حسين ؟
كنت اسمع عن سجون سرية في شوارع مغلقة وفي بيوت تحتها اقبية ومع ذلك أسير في شوارع دمشق محتضنا كتبي وكأن الأمر لايعنيني . في بداية الثمانينات قضيت ليلة واحدة ، أطول من عام في زنزانة انفرادية بواحد من هذه الأقبية . من خلاال ضوء مصفر رأيت أشباح أشخاص لم اتاكد أبدا من أشكالهم . كانو يعيشون على الأصوات ، لايعرفون اين هم بالتحديد ولا ما الذي تغير في الحياة خارجا . بطريقة بارعة أستنطقوني ليعرفوا هويتي ومتى رأيت الحياة السوية آخر مرة وماذا كانت نتائج دورة كاس آسيا التي انتهت قبل شهرين . بسرعة فائقة تناقلوا عبر الزنازين آخر المعلومات عن السجين الجديد وقدروا أنني سجين طاريء وراحو يسلموني رسائل صوتية لأهلهم . كانوا يتحدثون بصوت يشبه الحشرجة وآذانهم تتبع أصوات أقدام الحرس وصليل الحديد خوفا من أن يكتشف الحراس أنهم يتبادلون الأحاديث فيما بينهم. طوال الليل كنت أتتبع صوت صراخ رجل وازيز ماكنة . سألت وقد تعثرت بصوتي عن الصوت . فاجابني جاري بنفس الفحيح الجارح " هذه هي جولة التعذيب الرابعة لهذا اليوم. " لم أستطع النوم وانا أتهجس الم الرجل من صرخاته. خفتت الرخات تدريجيا من الوهن حتى سكت ونمت .
كل ساعتين يبدأ الحارس الجديد بطرق أبواب الزنازين طالبا جواب السجناء ليتأكد من أن أحدا لم ينتحر خلال نوبة الحارس السابق ويتحمل هو المسؤولية . بعد ذلك عاد الى منصة الرئاسة طالبا من الحاضرين ان يتحدثوا إذا كان عندهم ، نقد "شرط أن يكون بناء" لكنه لم يسمع غير الصمت .
آخر ما أتذكره عن الأسد الأب صورته وهو يصلي في الجامع الأموي. عجبت من نحوله وبياض وجهه ، كأن قوة ما ،ربما هي علقة السلطة امتصته من داخله ، وتحدب ظهره بثقل ما رآه وما فعله . زاغت عيناه قبل أن يسجد رافعا كفين مرتخيتين كانه رأى شبحا ما قبالته ... في نهاية الصلاة مسح وجهه وأمسك بيد الشيخ كفتارو وسارا على بلاط الجامع بخطوات بطيئة دونما كلمات .
الأبن وشبح الوالد
لم أعرف بشارولم أتعرف عليه عبر الإعلام خلال ال 13 عاما من حياتي في سوريا ولبنان ، لكن الولع بدمشق القديمة جمعنا معا حتى وإن لم نلتق في أزقتها ومقاهيها وباحات بيوتها. كنت أقطع تلك الأزقة الضيقة التي تبدأ من وراء سينما الحمراء وتنفتح بساحة المرجة ، ثم تنغلق ثانية من وراء الجامع الأموي وصولا الى باب توما حيث مر المسيح حاملا الجلجلة . تتساند البيوت بابوابها المنخفضة وتتقابل المشربيات فوق رأسي تقبل بعضها كانها اندفعت بلهفة ساكنيها . في الربيع تلاحقني رائحة الياسمين فادخل البيوت احيانا لأرى العرائش وقد كللت بحرات البيوت . كل مافي هذه الأزقة يذكرني ببغداد القديمة التي لن أراها بعد سنوات. قبل تسلمه للسلطة كان بشار يتبعني مقودا برائحة الياسمين عبر نفس الأزقة ويلتقي في مقاهيها الفنانين الذين كنت أعرفهم متجنبا صحبة العسكريين الذين عرفهم والده .
كان عمر الإبن بشار الأسد خمس سنوات حين استلم والده السلطة في سوريا. وعلى عكس اخوته باسل وماهر وشقيقته بشرى كان بشار قبل " تسلم الراية من والده " قليل الإهتمام بالسياسة . وحسب ادعائه " لم يزر مكتب والده إلا مرة واحدة ، ولم يتحدث معه في السياسة." لم يسأل الوالد أبدا ما الذي صحح في "ثورته التصحيحية" وما الذي حصل للمخطئين الذين (صححهم) الوالد ، إنما عرف مثل الكثير من أبناء جيله بأن مافعله الوالد هو عين الصواب وإن السلطة قدره .
على عكس ابن الرئيس العراقي لم يتجول بشار في الشوارع مع نمر مربوط بسلسلة ،ولم يظهر على التلفزيون مع سيكار او ببدلة طيار مقلمة . لم تكن لديه قبل صعوده للسلطة نزعة استعراضية ، فقد اختفى خلف صورة والده ولم يظهر للحياة العامة إلا في فترة لاحقة بصفته رئيسا للجمعية المعلوماتية التي فتحت للشباب السوري عالم الإنترنيت وتحكمت به . لم أعرفه إلا بعد حين دخل بشار مكتب والده للمرة الثانية ليجلس على نفس الكرسي الذي طالما خاف منه وتجنبه.
حين رأيت صورته لأول مرة بحثت عناصر الشبه مع والده في طول القامة (190سنتمتر)، وتسطح الصماخ وبروز الأذنين ، وأستغربت من تهدل يديه . لكن وعلى خلاف عناصر الشبه هناك اختلاف في الزمن والثقافة :
- ولد الإبن في مدينة دمشق ونشأ فيها على خلاف والده الذي جاء من قرية.
- صعد في فترة سقطت فيها أنظمة الحزب الواحد في أوربا الشرقية و اثرت على عدد من الأنظمة لعربية التي حاولت أن تسابق الزمن ببدء تجارب برلمانية قامت على تعدد الأحزاب ، بما في ذلك أحزاب المعارضة التي خرجت من أوكارها الى رحابة البرلمان .
-على خلاف البداية العسكرية للوالد بدأ الإبن مدنيا حيث درس الطب في ( جامعة دمشق) وتخرج طبيبا.
-لم يكن الإبن حتى قبيل تسلمه السلطة بعثيا ولم يحضر اجتماعات حزبية ، بل وحتى لم يكن ناشطا في المنظمات ( المدنية ) التابعة للحزب .
-لم يعرف الإنقلابات والإنقلابات المضادة التي عاشها أو شارك فيها والده ، بل عرف السلطة قدر والده وكل من حوله مجرد أتباع.
-على خلاف ذلك عرف بشار التجربة الديمقراطية من خلال دراسته في لندن وزواجه من إنكليزية سورية الأصل.
أول إشارة الى السلطة تلقاها حين كان في الثامنة والعشرين من عمره خلال دراستة التطبيقية في Western Eye Hospital, part of St. Mary's Hospital في لندن. ففي لحظة ما بعد الساعة السابعة من مساء يوم 27 كانون ثاني 1994 رن التلفون في شقته بلندن وتلقى خبر مقتل شقيقه باسل في حادث أصطدام سيارته في طريق المطار الغارق في الضباب . المتحدث الذي أبلغه بالخبر الفاجع نقل له أمر الوالد "إحضر فورا!"
الضباب الذي كان وراء مقتل الأبن خيم على الوالد. لم ير بشار والده بمثل ذاك الهزال والضعف ، مطرقا يستقبل المعزين ويودعهم وكأنه لايراهم ويتمتم باقل ما يمكن من الكلمات وهو يغص بصوته . لم يفقد الأب إبنا فقط ، إنما فقد قبل ذلك وريثا لسلطته . لكن الوالد استجمع كل حرصه على السلطة ليرفع راسه ويهمس لبشار كي يعد نفسه .
بعد مقتل باسل وقبيل وفاته عام 2000 بدأ الأب يستنسخ الأبن الثاني بشار على صورته وهو يعده خليفة له .أدخله الحزب قبل أن يبلغ العشرين من عمره ، وأدخله عام 1994 أكاديمية حمص العسكرية ليحصل لاحقا على رتبة رائد يستلم نسخا من التقارير الأمنية الحساسة التي ترفع للوالد. ولكي يصبح مألوفا للناس افتتح , كمستشار لوالده ، مكتبا خاصا لمتابعة شكاوى المواطنين وقاد أول حملة ضد الفساد .
وكانت لبنان هي الساحة والحقل لتعليم الإبن على السياسة بالملموس .. ففي لبنان الخارجة من حرب أهلية الى أخرى على حافتها لا تمتلك القوى الفاعلة الأفكار وحدها ، إنما السلاح والمسلحين . وهناك تمتلك كل الدول الإقليمية سفاراتها المعلنة والسرية على شكل مخابرات وقوى داخلية مؤيدة لها تستخدم كوانم الصوت لتصفية المعارضين أو السيارات المفخخة . في لبنان تعلم الإبن كيف يتعامل مع الطواريء كقاعدة ، وكيف يقتل القتيل ويسير في جنازته.
حين استلم الإبن ملف لبنان وجد أمامه قياديان سوريان أحدهما يحرك السياسة من فوق ، هو الكادر القديم عبد الحليم خدام ، الذي يغلب قوى ضد أخرى ليبقي سوريا في الميدان حكما وحاكما ، والثاني ( علي دوبه ) الذي يحرك الأمن من تحت من خلال تمويل قوى خفية تنفذ المعارك والإغتيالات . على طريقة والده بدأ الإبن ينقلب على الكبار فيزيحهم واحدا بعد آخر وقد بدأ بانتزاع ملف لبنان من عبد الحليم خدام ، وتخلص من رئيس المخابرات العسكرية علي دوبا ، ثم من رئيس أركان الجيش حكمة الشهابي بحجة تقدمه في السن، ومن رئيس أركان سلاح الطيران محمد خولي. وعمليا طبقت شعارات الإصلاح بالتخلّص من كل من كل من أبدى تحفّظا على صعوده المبرمج ، وفي الوقت ذاته عمل على جمع "حرسٍ خاص" حوله انطلاقاً من ثلاثة معايير: الوفاء لآل الأسد، والانتماء إلى الطائفة العلوية، والدعم غير المشروط لطموحاته.
حين رحل الوالد عام 2000 حل في الشارع فزع غريب من احتمالات الصراع بين الحرس القديم في الحزب ، بينهم وبين الحرس في الجيش ، بين الإثنين والعائلة ، بين الأبناء والعم رفعت الأسد الذي كان يستعد للعودة موقضا سرايا الدفاع المخيفة . لم يدم الأمر طويلا ، فقد رتبت الأمور قبل رحيل الأب وبحضوره الشبحي المهيمن بحيث استلم الإبن منذ البداية قيادة الحزب والجيش.
لم ينقلب الإبن كما الإب على أحد إنما انقلب على الدستور الذي يشترط أن يكون الحد الأدنى لعمر الرئيس 40 عاما حين صوت مجلس الشعب في جلسة الرعب على تغيير الدستور ، ثم صوت الشعب بتلك النسبة المالوفة لدى كل الدكتاتوريين العرب (97.2% ، وبذلك دشن بشار وهو في ال34 من عمره أول تجربة وراثة في الأنظمة الجمهورية العربية وفتح الباب لصعود جمال مبارك في مصر وسيف الإسلام القذافي في ليبيا وقصي صدام حسين في العراق .
في بداية رئاسته كنت أحاول أن أجد تاريخا جديدا لسوريا أكثر انفتاحا بمجي ْ الإبن وأسال المثقفين الذين أعرفهم ( ممدوح عدوان علي الجندي نزيه أبو عفش) عما إذا لمسوا بعض التغيرات بعد مجيء الإبن .
كانت أجوبتهم تتراوح بين الإستبشار والتحفظ:
- طبعا ، فخطاب الأبن أبعد من خطاب الحزب الواحد .
- يعرف تغير الزمن بعد والده ولذلك يركز على الديمقراطية .
- يكفي أنه أزاح الكثير من صور وتماثيل والده .
- مشكلته تكمن بالحرس القديم الذي يحيطة .
- يريد أن يغير بدون تغيير .
أراد الإبن في أول الأمر أن يبدو مختلفا عن والده . ففي أول خطاب القاه بعد توليه الرئاسة سمع السوريون المتعطشون للحرية مفردات جديدة عن " قوى الشباب المبدعة ." والحداثة والإصلاح . من المنصة نظر الى وجوه الحاضرين من الحرس القديم ، جمع كلماته بصعوبة وبدأ أول حديث عن الديمقراطية ك " أداة لتطوير الحياة في سوريا نحو الأحسن." قالها عابرا بتحفظ وارتباك ليجس نبض الحاضرين . لم يدرك إن هذه الكلمات المتحفظة ستفتح باب السجن الكبير للحراك الديمقرطي مع انطلاق "ربيع" دمشق على يد ٩٩ مثقفا سوريًّا تحوّلوا بسرعة إلى ألف، وطالبوا الرئيس الجديد برفع حالة الطوارئ وتحرير المعتقلين السياسيين وإحلال تعددية سياسية وفكرية واحترام الحريات العامة. وقد ساهم في هذا "الربيع" النائب رياض سيف الذي أيقظ بجمعيته "أصدقاء المجتمع المدني" تقليد المنتديات الثقافية العريق في سوريا، و"الكتلة البرلمانية المستقلة" (عشرين نائبا) التي طالبت باستقلالية العدالة وبالتشريع لأحزاب سياسية جديدة، والصحافة السورية، بما فيها صحفية "تشرين" الرسمية التي فتحت صفحاتها لمفكرين معارضين مثل ميشال كيلو وعارف دليلة، وطالب رئيس تحريرها محمود سلام بالتعددية السياسية والاقتصادية والثقافية .
وفي خطوة للخلاص من شبح الوالد أصدر أمرا بتقليص صور والده التي تلاحقه كما لاحقتني وأنا أتجول في شوارع دمشق القديمة .
كان البعثيون ينكرون باصرار وجود سجناء سياسيين . لكن الإبن وهو يدير لوالده مكتبا لشكاوى المواطنين يلتقي بين فترة وأخرى نساء نحيلات مضهن السهر قلقا على مصير مصير الأبناء ، يتوسلنه ليعرفن ما الذي حدث لأبنائهن الذين اختفوا منذ سنوات. كان يسمع التوسلات ويهز رأسه بصمت ويودعهن بوعود مبهمة. عند تسلمه السلطة بدأ باطلاق سراح مئات المساجين السياسيين الذين خرجوا من زنازينهم وهم غير واثقين من فضاء الحرية الذي بدا أقرب الى الوهم بعد ترسخت جدران الزنزانة في اعماقهم .
|
على الصور والتماثيل ، إنما التقاليد التي ترسخت خلال 37 عاما من حكم البعث ومنها 30 عاما من حكم الأب، فقد بقي الحزب مسيطرا على الحياة السياسية والبرلمان بصفته الدستورية " الحزب القائد " ، الدولة الأمنية التي علمت المواطن بأن المخبر الحقيقي والمخبر المفترض موجودان في كل مكان ومن الممكن أن يكون أحدهما إبنه أو جاره ، أي إنهما موجودان فيه ، العالم السري الذي يحيط ناسا يعرفون ان سوريا صارت بلدا نفطيا ، ولكن مامن أحد يعرف كم هي مداخيل النفط وأين تذهب، الفساد الذي يشمل أعلى المراتب وأدناها والذي سماه صادق جلال العظم ساخرا ( إعادة توزيع الدخل) .
وقد وجد الإبن نفسه محاطا ببطانة الوالد من الحرس القديم الذين ينظرون له كشاب غر وحالم ، ولذلك لابد مع قليل من المماشاة من إعادته في النهاية الى الطريق الصواب ، أي طريق الوالد.
صور الوالد بقيت كما هي مع قليل من الخطوات الرمزية لأن أحدا لم يجرؤ على أن يمزق صورة الأب الذي انغرس في تلافيف السلطة التي صنعها وصنع نفسه فيها . خارج صوره كان الأب مغروسا في لاوعي أجيال تربت على تقاليد عبادة القائد فكانت تهتف باسمه مع بداية اليوم الدراسي، في التدريبات العسكرية ، في المسيرات ... جهاز التملق القديم قلب المعادلة فصار ينشر صور الإبن الى جانب صور الوالد . لم يعترض الإبن حين رأى صورته مكبرة على واحد من جدرن وأمامه عبارة " سوريا الله يحميها ." ولم يعترض حين صارت الهتافات " بالروح بالدم تفديك يا أسد "، فهي تعنيه بمقدار ما تعني والدة .
االأب بنى الأجهزة بشكل متواز بحيث يراقب كل جهاز الجهاز الآخر وهو يراقب المواطنين فينطبق عليها وصف الجاحظ لصاحب السلطان " كراكب الأسد ، يخيف الناس به وهو أشدهم خوفا منه." كانت هذه الأجهزة تغذيه كل يوم بالمخاوف من الأخطار الحقيقة والمختلقة ، لذلك استدرك في خطاباته التالية عن الديمقراطية " مطلوبة ، لكنها تحتاج الى وقت ،ولا يمكن تقديمها جرعة واحدة ." كانت هذه الأجهزة تشكل سلطة داخل السلطة وتتغذى من جوعها لمزيد من السلطة . لم تتقلص هذه الأجهزة ولم تتوقف عند وعود الديمقراطية ، فبعد أقل من عام تكشفت صرخ الأب في غيبته بصوت الإبن " كفى !"
وجاء رد نظام الأسد الجديد القديم على هذه التحركات على النحو التالي: فرض قوانين على المنتديات مشابهة لتلك التي تتحكم في حق التجمع في الأماكن العامة، ورفع حصانة النائبين سيف ومأمون الحمصي والحكم عليهما بالسجن خمس سنوات، في حين حُكم على عارف دليلة بالسجن عشر سنوات وأقيل محمود سلام من منصبه الإعلامي. عادت الاعتقالات والى سجون أكثر حداثة من سجن المزة القديم .
وأنا أسير في شوارع بغداد اليوم بعد بعد 22 عاما من فراق دمشق ينبهني هاتفي النقال كل ساعة الى خبر من دمشق : ستة قتلى اليوم برصاص الأمن السوري معظمهم بحمص ، عشرة قتلى عند جامع الحنابله ، استهداف المتظاهرين بالقنابل ، 15 قتيلا وعشرات الجرحى بقصف عنيف على عين لازور في إدلب ، 70 قتيلا على الأقل بينهم 15 طفلا ، 96 قتيلا بسوريا اليوم ...تتصاعد الأرقام :105 قتلى بسوريا اليوم بيتهم 52 بمجزرة حمص . تتالى العناوين كما الرصاص. الاختصار يحيلني للمنفذ وليس للضحية ، كما هي البرقيات الصادرة من غرف العمليات . لكنها تترك لخيالي ان يعطي للأرقام التفاصيل وانا أدرك أن وراء كل قتيل حكاية ام وأبناء وصورة على جدار . اتابع أخبار الموت واسال نفسي منحيا منطق السلطة : كيف يمكن لهذا الشاب الذي تعلم في أفضل الجامعات والذي يجيد الفرنسية والإنكليزية أن يتمرن على الموت ويراه مجرد أرقام . أقول لنفسي بأن آلاف الجثث مرت به بالتأكيد خلال تجواله طبيبا مناوبا في مستشفى تشرين العسكري . لم يسأل ابدا كيف ماتوا ، لأن أحدا لن يجرؤ ويقول له ذات يوم عن واحدا منهم مات " في سجون والدك " ... كنت أعرف أن من يصنع الموت يحتاج لأن يكسر التردد ويبدأ الخطوة الأولى ، وكان التمرين الأول في لبنان في ذلك التفجير المروع الذي اودى بحياة الحريري ، وبعده مباشرة انتحر المدبر والمسؤول الأمني عن ملف لبنان ( غازي كنعان ) بالتعبير السوري الساخر " بطلقتين في الرأس !!!""
في التلفزيون تريني الصور المهتزة التي التقطها آخر الأحياء الذين تبقوا في حي بابا عمرو بحمص الدبابات تتقدم نحو ازقة مررت بها ذات يوم ، واسمع اناسا يهتفون بعد كل قذيفة " الله أكبر ! " وبعدها صراخ طفل . من الجانب الآخر أرى المشهد من كاميرا " المنتصر " وقد بثها التفزيون الرسمي. تتحرك الكاميرا كأنها تبحث عن كائن حي ، لكن على امتداد الأزقة فراغ موحش يدل على أشباح الغائبين . أين دكاكين الخضروات وأين البائع وهو يقلبها امام المشتري ، اين بائع العرقسوس ورنين طاساته ، رائحة التوابل غابت خلف رائحة الموت الخانقة ، اين المقاهي التي تفوح منها رائحة اليانسون ؟ حتى القطط والكلاب السائبة فرت من هذا الكابوس . لا شيء سوى الدمار وخيال المنتتصر الذي يصور المشهد.
في نفس اليوم رأيت بشار الأسد بأناقته الكاملة يبتسم للكاميرا وهو يضع في الصندوق ورقة التصويت على الدستور الجديد " نعم 97%" وخلفه بخطوتين زوجته أسما . لم أفهم التناقض بين ابتسامتها الميتة وبين الحيرة في عينيها . كانا ينظران باتجاهين مختلفين . لقد رأى المشاهد التي رايتها لحي بابا عمرو ، لكن هل حلم بما حلمت تلك الليلة . فقد رأيت في الكابوس نفسي أتجول في ذات الأزقة ، ارتجف من البرد في عظامي ، تائها لا أجد من أساله : أهناك من مخرج ؟
المصدر: جريدة العالم
تعليقات