التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الفقهاء وحق النقض


يحيى الكبيسي

أعادت مناقشة قانون المحكمة الاتحادية العليا فتح باب النقاش حول الدستور  العراقي الذي شبهته في كتاب نشر في العام 2006  بصندوق باندورا في  الميثولوجيا اليونانية! فالدستور العراقي في المادة 92/ثانيا نص على أن  "تتكون المحكمة الاتحادية العليا، من عددٍ من القضاة، وخبراء  في الفقه  الإسلامي، وفقهاء القانون، يُحدد عددهم، وتنظم طريقة اختيارهم، وعمل المحكمة، بقانونٍ يُسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب". ومن ثم لم يكن الأمر اجتهادا من النواب هذه المرة. وإذا كانت المادة الدستورية قد اشترطت أن يكون "خبراء الفقه الإسلامي"، وفقهاء القانون جزءا من المحكمة نفسها، فإنها تركت الباب واسعا أمام مجلس النواب  لتحديد عددهم، وآلية اختيارهم. ولم تتحدث المادة الدستورية مطلقا عن "آلية عمل منفصلة" لهؤلاء الخبراء والفقهاء، وإنما كان النص صريحا بأن يحدد القانون آلية عمل المحكمة ككل. وقد وجدنا مشروع القانون المقدم من رئيس الجمهورية، وهو المشروع الذي تمت مناقشة مسودته، صريحا في الالتزام بهذا التفسير، عندما تحدث عن آلية عمل المحكمة ككل ولم يفرد مادة أو صلاحية منفردة للخبراء والفقهاء المتقدمين.

لقد نص مشروع القانون المقدم من رئيس الجمهورية في المادة 2 على أن تتشكل المحكمة من هيئة قضائية مكونة من 9 قضاة (المادة 2/أولا)، وهيئة استشارية تتكون من أربعة مستشارين، اثنان خبراء في الفقه الإسلامي، واثنان من فقهاء القانون (المادة 2/ثانيا/أ و ب). وقد حددت المادة 13 من مشروع القانون عمل هؤلاء الخبراء بالقول: "يسهم المستشارون في مداولات المحكمة دون المشاركة في إصدار أحكامها وقراراتها".
أي أن مشروع القانون لم ينظر إلى الخبراء بوصفهم جزءا من هيئة المحكمة، وإنما نظر إليهم بوصفهم "مستشارون" يسهمون في مداولات المحكمة ويقف دورهم على تقديم اﻟﻤﺸورة من دون المشاركة ﻓﻲ ﻋﻤﻟﻴﺔ  اتخاذ اﻟﻘرارات. وقد بدا واضحا أن هذا الدور لا يناسب بعض الكتل السياسية! لذا تم تقديم اقتراحات تعديل تعيد صياغة بنية المحكمة ككل من جهة، وتعيد تحديد دور الخبراء من جهة أخرى.
فقد تم اقتراح تعديل نص المادة 2 المتعلقة ببنية المحكمة، ونص التعديل على أن "تتكون المحكمة من 12 عضوا"، 4 من القضاة، و4 من خبراء الفقه الإسلامي، و4 من فقهاء القانون. وهذا التعديل يعني أن مجلس النواب أخذ بالتفسير الذي قلناه في بداية المقال من أن النص الدستوري اشترط أن  يكون الخبراء جزءا من هيئة المحكمة. ولكن التعديل تجاوز النص الدستوري عندما أعطى في المادة 14/ ثالثا ورابعا من التعديل لخبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون دورا فريدا داخل المحكمة، فالفقرة ثالثا اشترطت أنه "عند الحكم بعدم دستورية قانون لمخالفته لثوابت أحكام الإسلام موافقة أغلبية أعضاء المحكمة من خبراء الفقه الإسلامي"، والفقرة رابعا اشترطت ""عند الحكم بعدم دستورية قانون لمخالفته  مبادئ الديمقراطية والحقوق والحريات الأساسية موافقة أغلبية أعضاء المحكمة من خبراء الفقه الإسلامي"، بالاستناد إلى أحكام المادة 2 من الدستور. وهذه البنية الجديدة تعني أن عدم موافقة عضوين الخبراء يعني "نقض" القرار حتى وإن حصل على 10 أصوات في المقابل! 
ولكن بدا واضحا من مناقشات مجلس النواب، أن مقترحات التعديل هذه لم تحظ بقبول بعض الكتل السياسية، فكنا أمام جدل بين المطالبين بأن يكون حق النقض للخبراء بالإجماع، أي أن يتفق الخبراء الأربعة على نقض أي قانون حتى يعد النقض ساريا، وبين المطالبين بأن يقتصر النقض على خبراء الفقه الإسلامي دون فقهاء القانون. 
إن مراجعة وقائع جلسة مجلس النواب العراقي رقم 12 في 1/8/2012 تكشف عما يأتي:
أولا. أن ثمة اتفاقا بين العراقية والتحالف الكردستاني والتحالف الوطني على عد "فقهاء الشريعة" أعضاء أصليين في المحكمة، وعلى "منحهم حق الفيتو". كما قال النائب أمير الكناني نائب رئيس اللجنة القانونية!
ثانيا. أن الخلاف يتركز على الصيغة النهائية المتعلقة بمنح حق الاعتراض لخبراء الشريعة الإسلامية أو فقهاء القانون في حالة الطعن بالقوانين لمخالفتها ثوابت الشريعة الإسلامية أو الحقوق والحريات ، كما قال النائب خالد شواني رئيس اللجنة القانونية. 
والملاحظة الأهم أن الجلسة لم تتضمن أية إشارة إلى فقهاء القانون وصلاحياتهم. في مقابل الإصرار على دور فقهاء الفقه الإسلامي، تقول النائبة ندى السوداني عن دولة القانون "نحن نصر ونؤكد على ضرورة تضمين القانون لفقرة وجود صلاحيات كاملة لفقهاء الشريعة الإسلامية وفق ما نص الدستور، هذا الذي يجب توضيحه". وفي مقابل ذلك لم نجد أيا من "الليبراليين" أو "العلمانيين" يقول مثلا وبالثقة نفسها  "نحن نصر على ضرورة تضمين القانون فقرة وجود صلاحيات كاملة لفقهاء القانون في نقض أي قانون يتعارض مع الديمقراطية والحقوق والحريات الأساسية وفق ما نص الدستور، هذا الذي يجب توضيحه"!
من الملاحظات الأساسية التي وجدناها في نص مشروع القانون، ونصوص التعديلات المقترحة، ومناقشات مجلس النواب، هو عدم تحديد معنى مصطلح "ثوابت أحكام الإسلام" (وليس عن " أحكام الإسلام" المطلقة) ، الذي نص عليه الدستور، ، وهذا موضوع بحاجة إلى تحديد صارم ودقيق حتى لا يتم تأويل العبارة تأويلا مفرطا. يعرف د. علي محيي الدين القره داغي الثوابت بالقول: "إن كل حكم من أحكام الإسلام في جميع مجالات  الحياة إذا ثبت بدليل قطعي الثبوت والدلالة أو بإجماع الأمة إجماعاً صحيحاً قائماً  على الدليل وليس العُرف فهو من الثوابت التي يجب الالتزام بها، وعدم التهاون في  حقها، إلا ما هو من قبيل الضرورات التي تبيح المحظورات".
 فهل لي بمن يدلني على الثوابت التي يمكن   أن يجتمع عليها السنة والشيعة من الفقهاء؟ 
كما وجدنا خلطا واضحا بين النواب:  خبراء الفقه الإسلامي من جهة  وخبراء الشريعة الإسلامية من جهة (أقول خلطا حتى لا أستخدم مفردة أخرى  فهل يعقل مثلا أن لا يعرف النائب حسن السنيد الفرق بين المصطلحين عندما استخدم في جلسة مجلس النواب عبارة "فقهاء الشريعة" بدلا عن "خبراء الفقه"!)، ومحاولة البعض "تحريف" النص الدستوري للحديث عن "ثوابت ومبادئ الإسلام" مثلا كما جاء على لسان أحد أعضاء اللجنة القانونية في جلسة مجلس النواب المذكورة!
فالشريعة هي نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وهي عامة شاملة لكل الأحكام العقائدية والأخلاقية والعملية، أما الفقه فهو العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية، وهو ما يخرج الأحكام الاعتقادية والأخلاقية لأنها ليست عملية. الشريعة قطعية تعتمد الوحي الإلهي ولا يجوز مخالفتها، والفقه نسبي يعتمد على الفقيه وما يستنبطه ويقرره ويؤصله ويقعده من دلالات النصوص.
كتبت في حزيران 2006 إن الدستور العراقي أعاد إنتاج "سلطة الفقيه" عبر مادتين، الأولى المادة 41 الخاصة بالأحوال الشخصية، والثانية المادة 92 المتعلقة بتشكيل المحكمة الاتحادية. وقلنا حينها أن المسألة لا تتعلق بالدين أو الشرع، وإلا كان الأولى تبعا لهذه النظرة أن يعاد النظر في قانون العقوبات الذي يبطل حدودا وأحكاما لا اجتهاد فيها، وقلنا أيضا إنها إعادة لسلطة الفقيه على المسائل الخاصة بالمجتمع، وإدامة هذه العلاقة، ومن ثم بقاؤه فاعلا يتحرك بموازاة الدولة المدنية وليس ضمنها، إنها ولاية من نوع آخر.
وبعد كل ذلك، هل لأحدكم أن يقول لي في أي اتجاه نحن سائرون؟
ملاحظة: العنوان الأصلي لهذا المقال الذي نشر في صحيفة المدى هو (فيتو الفقيه وأشياء أخرى)
المصدر: www.almadapaper.net

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هەر دەوڵەتێکی کوردی لەم دۆخەدا لە دایکبێت، وەک ئەوەی باشوری سودان دەبێت*

خالد سلێمان سیاسەتی ڕاستەوخۆ، ناڕاستەوخۆی شانشینی سعودی، قەتەر، تورکیا بەرامبەر عیراق و سوریا، لە حەڵەتی پاشەکشەی یەکجارەکی پرۆژەی دەسەڵاتێکی ئیسلامی ( ئیخوان، بەرەی نوسرە، ئەحراری شام، سوپای ئیسلام .. هتد ) ، کار بۆ دامەزراندنی کیانێکی سوننەی سەربازی دەکات، کە دور نیە، بەعسیەکانی ناو داعش، تۆوی ئەو کیانە بن . یانی داعشیش بەشێک دەبێت لە نەخشە سعودی - قەتەری - تورکیەکە .  ئێستا هەوڵی هەرسێ جەمسەرەکە لەوەدا کۆدەبێتەوە، چۆن لە ڕێگەی پارتی دیموکراتی کوردستان و پارتە کوردیەکانی ناو ئیئتلافی ئۆپۆزسیۆنی سوریاوە، کوردیش بەشێک بێت لەو کیانە سوننییە . لەوانەیە ئەمە باشترین دەروازە بێت بۆ تەماشاکردنی دیمەنی هەرێمی کوردستان، کە لە ڕوی سیاسی و ئابوری و کۆمەڵایەتییەوە لە خراپترین ئاستیدایە، بگرە لەبەردەم داڕوخانێکدایە کەس مەزەندەی دەرەنجامەکانی ناکات . بەڵام ئەوەی لەناو دیمەنێکی سیاسی، سۆسیۆ - ئابوری خراپی وەک ئەوەی ئەمڕۆماندا، هەژمونی خۆی هەیەو ڕای

ئاین لەمیتۆدەکانی پەروەردەی کوردستاندا ‌

خالد سلێمان‌ 15/5/2015 ساڵی ٢٠١٢ لەبەر ڕازی نەبونی مەسیحیەکان و کاکەییەکان لەسەر ئەو بەشانەی لە کتێبی “ئاین ناسی” لە میتۆدی خوێندندا، ئەو دوو چاپتەرەی بۆ ئەوان  لە کتێبەکەدا دانرابون لە سەر خواستی خۆیان  لابران. ئەمە هەنگاوی یەکەمی ئەو قەیرانەی پەروەردەیە کە تا ئەم ساتە لە کوردستاندا بەردەوامە. مەسیحییەکان پێیان وابو کە چیرۆکی لە دایکبونی مەسیح بەشێوەیەکی ناڕاست نوسرابو، بۆیە داوای لابردنیان کرد. ئەوەی پەیوەست بو بە کاکەییەکانەوە، بوون بەدوو بەشەوە، بەشێکیان پێیان وایە ئەوان موسڵمانن و نابێت وەک ئاینێکی جیا تەماشا بکرێن، بەشێکی تریان پێیان وایە کە ئاینەکەیان جیایەو ئەوەی لە میتۆدەکەدا نوسراوە ڕاستە. ئەم جیاوازیەش لای ئەوان بوە هۆی لابردنی ئەو بەشەی لە کتێبەکەدا لەسەر کاکەیی نوسرابو. کتێبی ئاینناسی لە قۆناغەکانی  (١٠، ١١، ١٢)ی خوێندندا لە پێناو ئەوەدا بوو کە خوێندکارانی کوردستان جگە لە ئاینی ئیسلام ئاینەکانی تریش بناسن، بەڵام پرۆژەکە لەسەرەتادا - بەتایبەتی لە کتێبی قۆناغی ١٢دا- توشی دوو گرفت بوو، یەکەمیان ئەوەبو کە وانەکانی خوێندن لەسەر مەسیحی و ئێزدی و کاکەیی و ئاینەک...

أزمة المياه تهدّد الشرق الأوسط.. والعراق على الخط الأحمر

خالد سليمان  يشير مدير المعهد العلمي للبيئة في جامعة جنيف مارتن بينيستون إلى ذوبان شبه كلي لثلوج جبال الألب نهاية القرن الحالي، حيث لا يبقى سوى القليل منه في الأعالي. يعود سبب ذوبان هذه الثلوج التي تغذي أنهار (راين، دانوب، بو، رون) ويعتمدها ١٦٠ مليون نسمة في غالبية أنحاء أوروبا للزراعة والنقل والطاقة والغذاء، إلى التغيير المناخي وارتفاع درجات حرارة الأرض، ناهيك عن الازدياد السكاني حيث تشير الإحصائيات المتوقعة إلى وصول نسبة سكان المعمورة إلى ١٠ ملايين نهاية هذا القرن.  كانت هذه الصورة بداية لمؤتمر دولي بعنوان “السلام الأزرق” حول دور المياه في السلام والتنمية المستدامة في الشرق الأوسط نظمه Stratigic Foresight Group وجامعة جنيف بالتعاون مع وكالة سويسرا للتنمة والتعاون الاسبوع الثاني من شهر أكتوبر ٢٠١٥.