خالد سليمان
الثلاثاء ١١ سبتمبر ٢٠١٢
تفيد مؤشرات خفية ومعلنة في العراق بوجود نواة دولة دينية تشرف على تأسيسها هيئات أمنية ودينية وعسكرية خاضعة لسيطرة مكتب رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي من جانب، وقوى سياسية متطرفة مثل الحركة الصدرية وحزب الدعوة وجناح من داخل المجلس الأعلى الإسلامي في العراق. يمكن قراءة معطيات هذا التوجه ووقائعه من خلال أحداث يومية تتجسد في ضرب الأقليات الدينية ومنع مناسباتها ونواديها الاجتماعية والثقافية في العاصمة بغداد والمدن الأخرى التي تتميز بالتنوع الديني والإتني والثقافي، كما يمكن ملاحظته في إجراءات واعتداءات يومية ضد النساء وملاحقتهن في الأماكن العامة والعمل بسبب الملابس وأسلوب حياتهن. وهناك خلف كل ذلك محاولات حثيثة لتغيير قانون المحكمة الاتحادية لمصلحة رؤية الأحزاب الدينية للدولة والمجتمع، وذلك من خلال منح رجال الدين الشيعة حق النقض في ما خص قرارات المحكمة الاتحادية.
جاء في الدستور العراقي المادة (92): «تتكون المحكمة الاتحادية العليا من عدد من القضاة وخبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون، يحدد عددهم وتنظم طريقة اختيارهم وأسلوب عمل المحكمة بقانون يسن بأغلبية أعضاء مجلس النواب». كــما جاء في المادة الرابعة من الفقرة (ب - ٢) من قانون المحـــكمة الاتحــادية: «يرشح ديوانا الوقف الإسلاميان أربعة مرشحين من بين خبراء الفقه الإسلامي، يتم اختيار اثنين منهم من قبل مجلس الوزراء ويعينان بمرسوم جمهوري بعد موافقة مجلس النواب بالأغلبية المطلقة». أي أن القانون لا ينـــظر إلى الخبراء بصفتهم جزءاً من هيئة المحكمة، إنما بصفتهم مستشارين ويتمثل دورهم بتقديم اﻟﻤﺸورة من دون المـــشاركة ﻓﻲ اتخاذ اﻟﻘرارات. ولأن هذا الدور لا يناسب الأحزاب الدينية، تم تقديم مشروع يعيد صياغة بنية المحكمة وإخضاعها لسلطة رجال الدين.
الهدف من المشروع الجديد الذي أُدرج في جدول أعمال مجلس النواب العراقي والذي تحاول الأحزاب الشيعية حصول الموافقة عليه، هو تغيير صفة خبراء الفقه الإسلامي الاستشارية إلى سلطة تمنح الفقهاء حق نقض أي قرار لا يناسب رؤيتهم للدولة والمجتمع. قصارى القول إن عدم موافقة عضوين من الفقهاء على قرارات المحكمة يعني نقضها حتى وإن حصل على 10 أصوات في المقابل، إنها «سلطة الفقيه» كما يقول القانوني العراقي يحيى كبيسي!
أما في الواقع اليومي المعاش، فهناك ممارسات سياسية لا تترك مجالاً للشك أمام المراقبين بأن نخباً شيعية في العراق تعمل بجدٍّ على تأسيس دولة يرسم معالمها رجال الدين من دون العودة إلى الدستور والقانون. وكان الإجراء الأبرز في هذا السياق مداهمة النوادي الاجتماعية من قبل قوات مسلحة تابعة لمكتب رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي يرأسها فاروق الأعرجي. وكان نادي المشرق الذي يقع وسط بغداد (تأسس عام 1944) والذي تملكه مجموعة من المسيحيين وكانت ترتاده شرائح وانتماءات متعددة، واحداً من تلك النوادي التي تمت مداهمتها وتخريب محتوياتها وأثاثها بإمرة اللواء الأعرجي.
وتشير معلومات نشرتها صحيفة (الاتحاد) الصادرة في بغداد إلى امتعاض رجال دين يتقدمهم المرجع محمود شاهرودي من وجود النوادي الاجتماعية في بغداد، فجاءت مداهمتها وإغلاقها استجابة لتوجيهاتهم. وجاء في خبر نشرته الصحيفة في عددها الصادر بتاريخ 9/ 9/ 2012 «إن رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي التقى علماء دين بارزين في إيران على هامش قمة عدم الانحياز يتقدمهم شاهرودي حيث أبدوا امتعاضهم من انتشار النوادي الليلية في بغداد ومدن أخرى، حينها أيد حزب المجلس الأعلى الإسلامي في العراق على لسان صدر الدين القبانجي إجراءات القوات الأمنية في شأن هذه النوادي واعتبرها موقفاً ينطلق من الدستور العراقي.
بموازاة كل ذلك انتشرت لافتات موقعة باسم أهالي مدينة الكاظمية في العاصمة نهاية الشهر الماضي وبداية الشهر الجاري ترحب بالقرار الحكومي القاضي بمنع النساء غير المحجبات من دخول المدينة. ونشرت صحيفة (المدى) في عددها الصادر في 27/ 8/ 2012 خبراً مفاده أن أحد القادة الأمنيين كان قد حضر مجلس عزاء بمدينة الكاظمية وأثناء تجواله فيها شاهد امرأة غير محجبة فطلب منع دخول غير المحجبات إلى عموم المدينة وأسواقها، كما طالب باستحداث شرطة أطلق عليها اسم شرطة الآداب لمتابعة الظواهر السلبية في المدينة بين النساء والرجال. وهناك معلومات أخرى لم تنشرها الصحافة المحلية تشير إلى مقتل ابن أحد قادة الأجهزة الأمنية المقربين إلى نوري المالكي في نادٍ ليلي ما أدى إلى مداهمة النوادي الاجتماعية الأخرى واتخاذ قرار إغلاقها.
إن تطبيق الإجراءات التي تلبي رغبات رجال الدين البارزين في العراق وتستجيب لتوجيهاتهم، ينم عما يمكن تسميته بـ «تشيــيع الدولـــة» ونزع صــفة المدنية عنها - هذا إن بقي من المدنية في البلاد شيء يذكر - من خلال إطلاق يد قوى متطرفة ضد الأقليات الدينــية والإتنية والنساء والحريات الفردية. إنما الأخطر بين كل هذه الإجراءات الأمنية التي تعيد إلى الأذهان سلوك أجهزة أمن نظام صدام حسين، هو تمرير مشروع قانون المحكمة الاتحادية الجديد إن تم، ذاك أنه يعبد الطريق أمام ولاية فقيه جديدة في بغداد.
تعليقات