لسبب ما لم نتمكن من العثور على إجابة عن سؤال يتعلق بأسباب قرار والد فضل شاكر إرساله الى دار الأيتام الإسلامية لتلقي دروسه الأولى هناك. كما أننا أيضاً لم نجد جواباً عن سؤال آخر هو كيف تقبل دار الأيتام ضمّ طفل غير يتيم إلى دارها! ففضل انتسب إلى الدار في سن الخامسة، هو الذي ولد في العام 1969، في حي التعمير التحتاني المحاذي والمتداخل مع مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين. وهو الحي الذي يشهد اليوم مناوشات متواصلة بين وحدات الجيش اللبناني المتمركزة في شماله وجماعة جند الشام المتمركزة في جنوبه، والتي ينتمي إليها اليوم شقيقه الأكبر محمد.
لكن لا يبدو أن للعثور على إجابة عن سؤالنا قيمة "درامية" في عرضنا لسيرة الفنان الذي صار شيخاً مقاتلاً. فالعائلات في هذه المنطقة ترسل أبناءها إلى حيث ترسلهم لأسباب غير جوهرية. لمصادفة ما ربما. وفضل رابع إخوته الخمسة أُرسل وحده الى الميتم، ولسبب ما، أيضاً ليس مهماً، لم يلحق به إلى الميتم شقيقه الأصغر فادي.
تقيم العائلة في الطابق الأرضي من مبنى يقع في البلوك الثاني من مباني التعمير التحتاني المتاخمة لمخيم عين الحلوة والمتداخلة معه. تلك المباني التي أنشأتها الدولة اللبنانية للعائلات الصيداوية النازحة من المدينة القديمة التي تصدعت مبانيها على أثر زلزال العام 1956. مبان تشبه المدارس الرسمية أقامت فيها عائلات قليلة الانسجام القرابي، انكشفت سلالمها على العابرين، وطليت جميعها باللون الأصفر.
عبد الرحمن، والد فضل شاكر، عمل في تلك الحقبة سائق تاكسي على خط صيدا بيروت في شركة "الصاوي زنتوت". ويقول جاره أبو العبد:
"أبو محمد كان في مساء كل يوم بعد أن يعود من عمله، يركن سيارته على مدخل المنزل، يغسلها بحب وعناية، ويدخل بعدها الى بيته، يستحمّ، ويُرستق نفسه واضعاً الزيت على شعره، ثم يجلس على السطيحة لتناول العشاء ولشرب كأس وهو يسمع أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب، ويدعو كلّ من يمرّ في الشارع لمشاركته طعامه. كان صاحب كَيف، مثل كثر في صيدا قديماً قبل أن تُصاب المدينة بحالة من التراجع الاجتماعي بدأت تتكوّن ملامحها في فترة ما بعد الانسحاب الإسرائيلي".
وعبارة "صاحب كيف" لم تكن في حالة جيل أبو محمد في صيدا خروجاً عن مألوف المدينة، فها هو الحاج عمر الصيداوي الذي كان يعمل في حينها في الدامور وكثيراً ما كان يتوجه الى عمله عبر سيارات الصاوي زنتوت وأحياناً كثيرة في سيارة والد فضل شاكر، كان في طريق عودته الى صيدا يُعرّج على مطعم الشيخ على مدخل المدينة ليشرب كأساً ويستمع بجلسات "طرب أصيل" كان يُشارك في الغناء فيها والد الشيخ الفار أحمد الأسير.
في هذا الوقت كان فضل في دار الأيتام الإسلامية، وكان شقيقه الأكبر محمد الذي يكبره باثني عشر عاماً، في سنوات مراهقته الأولى، انتمى كما الكثير من فتية الأحياء الشعبية في صيدا الى التنظيم الشعبي الناصري بزعامة النائب الراحل معروف سعد. أما فضل فقد ظهر في حينها على تلفزيون لبنان عندما زارت الإعلامية مهى سلمى دار الأيتام وصورت حفلاً للأطفال شارك فيه فضل مغنياً مع فرقة الميتم، على ما يقول صديقه وجاره أحمد.
الأصل الفلسطيني للعائلة ملتبس في روايات أصدقاء فضل وجيرانه ومعارفه. فالقريبون منه ينفونه، والأبعد يؤكدونه. والالتباس يشمل أيضاً اسم العائلة، فيقول معارفه ومحبوه في فريقه الذي رافقه في رحلاته الموسيقية ان اسم العائلة هو "شمندر" وهي من أصل بيروتي قدمت الى صيدا في أواسط القرن الفائت، فيما يقول جيرانه ان اسم العائلة هو "شمندور" وهي فلسطينية تم تجنيسها كحال شريحة من فلسطينيي المدن الذين قدموا الى صيدا قبل النكبة. وهذا الالتباس أيضاً لا يبدو ان له قيمة في السيرة الصيداوية للرجل، ذاك ان صيدا هضمت فلسطينييها كما لم تهضمهم مدينة لبنانية أخرى. فاندرجوا في بؤرها وفي أحيائها، لا سيما منهم غير الجليليين (نسبة الى الجليل)، من أبناء المدن الذين ربطتهم بصيدا علاقات سبقت النكبة في العام 1948. لكن لنفي أو لتجاهل هذا الأصل قيمة من جهة أخرى، ذاك انه يؤشر الى أن صيدا هضمت هؤلاء إلا أنها أبقتهم في هامشها.
كان طبيعياً جداً إذاً أن ينتمي محمد، شقيق فضل الأكبر والذي سيكون له دور في النهاية المأسوية لسيرة الفنان، الى التنظيم الشعبي الناصري. لا بل إن والد فضل عبد الرحمن عمل، في فترات انقطاعه عن العمل في شركة الصاوي زنتوت، حارساً في المركز الرئيسي للتنظيم في منطقة البوابة الفوقا. وهو أمر أيضاً ليس مستغرباً، ففي ذاكرة الصيداويين صور لكهول فقراء ونعسون يحرسون مقار الأحزاب في المدينة.
لكن والد فضل، أبو محمد، كان يعود الى عمله الموسمي سائقاً عند الصاوي زنتوت. وفي العام 1979 قضى الرجل نحبه في حادث سير في منطقة الدامور، على الطريق بين صيدا وبيروت. هذا الحادث جعل من فضل يتيماً رسمياً يستحق عضوية دار الأيتام، وجعل من محمد، الشقيق الأكبر، معيل العائلة الوحيد.
لا تواريخ دقيقة حول انتقال محمد من العمل في محطة للوقود لإعالة العائلة الى مقاتل متفرغ في التنظيم يتبع فتوة محلية يدعى سعد الملاح. ويقول أحد رفاق السلاح الأُول: "كان محمد مع جماعة سعد الملّاح في تعمير عين الحلوة ضمن التنظيم. الى ان انشقّ الملّاح عن التنظيم وأصبح ميّالاً الى الجماعة الإسلامية، وكان يخطّط لتنفيذ انقلاب على مصطفى سعد عام 1981، حتى إنه وضع على "المحمولة" حينها لافتة سوداء مكتوب عليها "لا إله إلاّ الله". قُتل الملّاح في كمين نُصب له في ساحة النجمة قبيل الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982". ويبدو ان لهذا الحادث دوراً في ترك محمد التنظيم الناصري وظهور علامات الإيمان عليه. الى ان ظهر في العام 1985 مقاتلاً في معارك شرق صيدا مع الجماعة الإسلامية.
بقي فضل في دار الأيتام الإسلامية لغاية عمر الخامسة عشرة تقريباً. كان يغنّي في فرقة الميتم الموسيقية، وغنّى أيضاً مرات عديدة في حفلات أُقيمت في قاعة كان دار الإيتام يؤجرها للأعراس. ويروي صديقه في الحي أنه كان خلال هذه الحفلات "يهرّب طعاماً لباقي الأطفال في غُرف الميتم".
من الممكن تخيل أن محمد، الشقيق الأكبر صار أباً بديلاً بعد موت الأب. وارتسم بفعل ذلك مصير أكيد للعائلة من المرجح ان يكون قد اعترضه تغيير هائل ناجم عن الاحتلال الإسرائيلي للمدينة في العام 1982، وهو الأمر الذي أخر على ما يبدو مهمة الأب الجديد في أسلمة العائلة. فقد فقدت في سنتي الاحتلال الإسرائيلي (1982 – 1984) السلطات الأهلية قدرتها على سوق الأذواق واستبدالها. وفي هذا الوقت أو بعده بقليل كان فضل قد خرج من دار الأيتام، وألفى نفسه في حي التعمير الذي لم يكن قد غادره أصلاً. فدار الأيتام في صيدا تفصله عن التعمير التحتاني مساحة صغيرة تُسمى "التناكيات" وهي على الطرف الشمالي من المخيم ويقطنها أخلاط من بدو وعرب يعيشون في خيم مع مواشيهم.
عند خروجه من دار الأيتام، "استلمه بيت السمرا" في صيدا، ضمّوه الى فرقتهم الموسيقية، غيّروا له إسم عائلته فأصبح فضل شاكر. وآل السمرة على ما يسميهم أصدقاء فضل هم أربعة أشقاء كانوا يؤلفون فرقة تعزف وتغني في الأعراس.
تعرّف بعدها الى نصر النصر، وهو فلسطيني الجنسية وكان عازفاً على الأورغ ويسكن في مخيم "عين الحلوة". انتقل للعيش عنده، في غرفة خُصّصت للتمارين الموسيقية. "كانا يتمرّنان ويعزفان على الأورغ ليلاً ونهاراً، وأصبح يغنّي في أعراس المخيم. في الوقت الذي كانت فيه عائلته غارقة مع التنظيم الناصري والانشقاقات داخله، كان هو غارقاً في المغنى"، بحسب عبد الأمير، عازف الرقّ الذي رافق فضل شاكر لسنوات عديدة وعاش معه خلالها تفاصيل حياته.
أصبح يتنقّل من سطح الى سطح في المخيم، ويغنّي في أعراسه. "في كتير كثافة سكانية، والكل بيتزوّج، وكان يغنّي في ثلاثة أعراس في اليوم، في الرابعة بعد الظهر والسابعة والعاشرة" يقول عبد الأمير.
قد لا تبدو خطوة انتقال فضل للسكن في المخيم كبيرة، فالمسافة التي تفصل المخيم عن التعمير التحتاني لا تتجاوز عشرات الأمتار، وهي نفسها المسافة التي تفصل اليوم جنود الجيش اللبناني عن مقاتلي جند الشام، فيما يبدو منزل أهل فضل اليوم في المنطقة العازلة بين النفوذين، ولا يعدو طولها الأمتار القليلة. ولا يبدو ان مرحلة المخيم في حياة الفنان الشهير كانت قاحلة، ففيه راح ينتقل من سطح الى سطح على ما يقول عارفوه هناك، يحيي الأعراس الكثيرة. رفاق له قالوا إن شاكر لبناني الأصل، لكن الناس ظنوا أنه فلسطيني لأنه عاش في مخيم عين الحلوة واشتهر هناك.
كان ذلك في أواسط ثمانينات القرن الفائت، فضل كان يغني في الأعراس بقيادة عازف الأورغ المحلي نصر النصر، وشقيقه الأكبر محمد يُقاتل مع الجماعة الإسلامية، فيما افتتح شقيقه الأصغر فادي دكاناً صغيراً في التعمير التحتاني، وشقيقته الكبرى كانت تعمل في محل لتصفيف الشعر. هذه الوظائف، المتفاوتة وغير المنسجمة، ما كانت في التعمير التحتاني لتبدو نافرة في العائلة الواحدة، ذاك ان الأقدار في تلك الأحزمة تبدو أقوى من رغبة العائلة في مغالبتها.
تزوّج فضل من نادية الجنداوي، إبنة أخت أستاذه نصر النصر، في العام 1989 وكان عمره 20 عاماً. أقام زفافاً كبيراً في قاعة الـ"شايني ستار" في صيدا. واختياره هذه القاعة كان مؤشراً على تبدل في حال الشاب، ذاك ان العرس في هذه القاعة مثل خروجاً أول من التعمير التحتاني الى رحاب المدينة الأوسع. ثم إنه اختار منطقة الهلالية شرق صيدا لمنزله الزوجي الأول، وهو مؤشر ثان على انتقال فضل الشمندور الى مرتبة مختلفة. أنجب الزوجان ثلاثة أولاد هم ألحان (23 عاماً) ومحمد (20 عاماً) ورنا (11 عاماً).
أصبح إسمه يُتداول خارج المخيم وبات معروفاً في صيدا، فبدأ بإحياء حفلات وأعراس فيها، الى أن وصل "صيته" الى بيروت. انتقل للعيش هناك عام 1990. سكن بداية في منطقة "الرمل العالي" في برج البراجنة وبعدها قرب فندق "ماريوت" في الجناح. سافر كثيراً الى "أبيدجان" لإحياء حفلات، وفي العام 1996 تعرّف إلى مدير شركة "الخيول" للإنتاج الفني، فأصدر في حينها أول "سي دي" وأسّس فرقته الخاصة.
الانتقال الى بيروت
هذا الانتقال الى بيروت والذي توج صعوداً فنياً واجتماعياً، لم يمثل انفصالاً عن البيئة الاجتماعية والنفسية، وإن يكن قد أحدث اضطراباً داخلياً في إدراك فضل شاكر لنفسه ولبيئته. فهو على ما يقول عارفوه لم يتمكن من الاندماج الكامل مع وضعه الجديد، وبقي مرتبطاً بماضيه القريب، يعوض غيابه عنه بـ"الحنية"، على ما يقول قريبون منه، وبكرم تمثل بإغداقه تبرعات وأعطيات شملت محيطه الأوسع. أحاط نفسه بمقربين من صيدا، وحاول الإبقاء على نصر النصر عازفاً على الأورغ في فرقته إلى ان نشب خلاف بين الأخير وبين قائد الفرقة الموسيقية الذي اشترط عليه تعلم قراءة النوتات الموسيقية.
والحال أن صيدا والتعمير التحتاني وشقيقه محمد الذي كان انتقل من الجماعة الإسلامية الى جند الشام، لم يكفوا عن إقلاق الفنان الصاعد عبر تذكيره بأنهم ماضيه الذي لم يمضِ. وهم اذا لم يفعلوا ذلك، فعلوه عبر عجز فضل عن تجاوزهم. "الحنية" هنا تعني تماماً فعلاً تعويضياً عن شعور بالغياب والانقطاع. كما أن فضل نفسه شكل لهم هماً مشابهاً، فهو الفنان الناجح والصاعد والذي يعول عليه في نقل عائلته، كل عائلته، الى مستوى مختلف في العيش. يقتضي ذلك قبولاً بما هو ذاهب اليه، لكنه قبول لا يستوي مع قناعات محمد شقيقه الأكبر وصاحب التأثير الكبير عليه. فتكرر زوجة محمد، الشقيق الأكبر، وهي سيدة منقبة فقدت ابنها البكر عبد الرحمن في معركة مسجد بلال بن رباح في صيدا، أن فضل حنون على أهله، وهو غمرهم بأعطياته. لكنها أشارت الى أنها كانت قليلة الاختلاط بعائلته عندما كانت العائلة في بيروت، بسبب عيش عائلة فضل حياة مختلفة عن الحياة التي اختارها زوجها محمد لها ولأولادها.
"فضل ما كان يشرب طول عمره، بجامل الناس بشفّة من كأس. كان بصلّي وبقطّش. لمّا ما يلاقي اتجاه القبلة بالأوتيلات وقت السفر والحفلات في الخارج، ما كان يصلّي". هذا ما قاله موسيقي كان يعمل في فرقته. وهو ما يعكس تنازعاً لطالما تردد في الروايات عنه.
عندما يُقدم أصدقاء فضل شاكر الصيداويون على تحقيب حياته، يشيرون الى انتقاله للسكن من بئر حسن في بيروت الى منطقة مار تقلا في الحازمية بصفتها حقبة في حياة نجمهم. حصل ذلك في العام 1996، وارتبطت الخطوة بشركة الخيول للإنتاج الفني التي تبنته وارتأت ضرورة انتقاله للسكن في تلك المنطقة. وكانت هذه المرحلة وحتى العام 2005 مرحلة صعوده في سلم مراتب المغنين إلى أن وصل الى ذروته على ما يقول عضو فرقته الموسيقية سابقاً عبد الأمير رمضان.
عبد الأمير يروي والحزن يرتسم على ملامحه عن تعامل فضل شاكر "القديم" مع فرقته الموسيقية. "ما كان يتعامل كأن هوّي النجم في الفرقة. يكون كل الوقت عتلان همّ الكلّ. ما هوّي بقرّر شو الأكل يكون، يسأل كل واحد شو على باله ياكل. إذا نعس بالمطار في أوقات السفر المتواصل وضغط الشغل كان ينام على الأرض. شباب الفرقة العشرون بيعشقوه. كان يدفع فواتير الطبابة والعمليات للناس من حوله، ويعلّم أولادهم، ويوزّع مالاً على الفقراء والشحّاذين وعمّال التنظيفات. وكان عنده من نفسه، يعني ما كان يقبل ان يقبض من أمراء أو مشايخ إلاً إذا غنّى، وكان يرفض الإكراميات".
العودة الى صيدا
العام 2005 كان عاماً حاسماً في حياة فضل شاكر. فقد قرر فيه ان يترك منزله في مار تقلا، في الضاحية المسيحية لبيروت، ويعود للسكن في صيدا بعد 15 عاماً على مغادرتها. الأسباب التي يوردها مقربون منه تبدو غير كافية لحجم الخطوة. يقولون إن زوجته لم تنسجم في الإقامة خارج صيدا، وان المجتمع الفني الذي يجد النجم فيه نفسه في بيروت يحتاج إلى شخصية أخرى والى شروط غير متوافرة بنادية، التي أصبحت بعد وقت من عودتها الى مدينتها "الحاجة نادية". كما أشاروا إلى رغبة فضل في ابقاء أبنائه أثناء سفره المتواصل بالقرب من أشقائه وأقاربه في صيدا. لكن العام 2005 هو عام سياسي أيضاً بالنسبة لأبناء الطائفة السنية في لبنان. انه عام اغتيال رفيق الحريري، الذي حفل مقتله بكل الوقائع الخاصة والعامة في لبنان. ففضل الذي خصّ الحريري بأغنية بعد مقتله، كان مرتبطاً في حقبة الاغتيال بعقود عمل في أميركا التي غادر اليها ليكتشف هناك ان منتظريه في قاعات الغناء من اللبنانيين ألغوا حجوزاتهم وقبعوا في منازلهم حزناً وكرباً، فقطع رحلته وعاد الى لبنان.
السؤال الذي شغل اللبنانيين عشية التحول الذي أصاب نجمهم "الحنون" فضل شاكر والذي أفضى به لاحقاً الى الانقياد الى مشيخة غير راسخة كمشيخة أحمد الأسير، تبدأ الإجابة عنه في العام 2005، حين قرر النجم العودة الى صيدا. والإجابة لن تكون قاطعة ولا جلية، لكن مؤشرات التحول بدأت تظهر تصاعدياً بدءاً من هذا العام. عام اغتيال الحريري. مضافاً اليها شعوره بأن عائلته وأولاده بدأوا يكبرون بعيداً عن الحضن الذي ما زال النجم يعتقده حضناً أولاً. انه صيدا، والعائلة النواة وحي التعمير التحتاني والمخيم وشقيقه محمد. وجميع هذه العناصر لم تغادر وجدان الفنان يوماً على الرغم من ابتعاده عنها. وجميعها عادت لتتغذى من ضائقة السنة اللبنانيين ويتمهم الذي ألم بهم جراء قتل زعيمهم.
اشترى فيلا في منطقة مجدليون في صيدا من آل الحلاق، وكلف مهندساً من آل شاتيلا إعادة ترميمها وتجهيزها وانتقل بعائلته للإقامة فيها.
صيدا في العام الذي انتقل اليها فيه فضل شاكر كانت مدينة ثكلى. ثم ان عائلة النجم عادت لتكون في صلب خياراته وخيارات زوجته وأولاده اليومية. الشقيق الأكبر أبو العبد عاد ليصبح جزءاً من حسابات الفنان. ثم ان ضائقة السنة اللبنانيين المستجدة بفعل مقتل الحريري راحت تغذي قابلية قديمة. فيروي أحد مرافقي فضل في أسفاره الكثيرة أنهم (أي الفرقة) وبينما كانوا عائدين في العام 2008 من رحلة عمل صودف وجود الفنان راغب علامة في الطائرة الى جانب فضل. في حينها كان حزب الله قد أقام اعتصامه الشهير في الوسط التجاري لبيروت. راح راغب علامة المعروف بميوله الى حزب الله "يُقلد" (الرئيس) فؤاد السنيورة، ويسأل فضل عن رأيه بالسيد حسن نصرالله. لم يُجب فضل في حينها. وحين هبطت الطائرة اكتشف علامة ان كل الكلام الذي ساقه على السنيورة قد وصل الى أذن الرئيس، فاتهم شاكر بنقله. لكن شاكر أرسل من يقول له انه لا يعرف السنيورة وهو لم يوصل الكلام. ويُتابع: " التقيا مرة أخرى في صالون المطار وراح علامة يُكرر ما قاله عن السنيورة متحدياً فضل ان يوصل الكلام، فحدثت مشادة بينهما وصلت الى حدود التضارب بالأيدي". يومها تولى قائد الجيش الحالي جان قهوجي، ولم يكن في حينها قائدا للجيش، جمعهما وإجراء مصالحة بينهما.
الفنانون أشد انقساماً من مواطنيهم اللبنانيين، وواقعة فضل شاكر وراغب علامة صورة منها، على الرغم من أن حزب الله أقوى نفوذاً في أوساطهم، يقول صديق فضل. وهذه الواقعة يمكن ضمها الى إشارات كثيرة بدأت تلوح بحياة نجم صيدا السابق ومجاهدها الحالي. ثم إن الانتقال الى صيدا واستئناف علاقات أهلية كانت الإقامة في مار تقلا قد أضعفتها، مضافاً إليها إشارات الاحتقان الطائفي العام، وهشاشة القيم السياسية والركائز النفسية لفناني لبنان، جميع هذه الظروف لم يكن شاكر محصناً من السقوط في أفخاخها. عاد شاكر صيداوياً عادياً يملك قابليات مختلفة ومتفاوتة. هو الفنان "الحنون"، وهو ابن التعمير التحتاني وصديق فقرائه ومعيلهم، وهو الشقيق الأصغر لمحمد المتنقل بين ناصرية أهلية واخوانية غير راسخة وعضوية جماعة جند الشام السلفية الجهادية المقاتلة على تخوم مخيم عين الحلوة.
تقول أم العبد عن زوجها محمد المتواري اليوم مع شقيقه الأصغر فضل، انه لم يكن مقاتلاً، وهو كان إلى جانب فضل لأنه شقيقه الأكبر. وتضيف: "زوجي مريض أعصاب ويعالجه الدكتور علي الحر ويتناول كزاناكس وبرجّ كلو سوا لمن بيتوتر". وتضيف: "ابني عبد الرحمن الذي استشهد في معركة مسجد بلال بن رباح كان الإبن الروحي لفضل". وعبد الرحمن سيكون عنصراً أساسياً في حكاية انتقال النجم الى المشيخة القتالية.
لكن بيروت التي غادرتها العائلة كانت قد مست طرفاً في أذواق أفرادها، ويبدو ان ابنة فضل ألحان، التي كان الفنان قد أنشأ مطعماً على مدخل صيدا في العام 2006 أطلق عليه اسمها وبقي حتى العام 2008 يُقدم كحولاً الى جانب السمك، ألحان هذه "وجعت رأس بيها" على ما يُجمع أصدقاء النجم. ويقول أيمن وهو شاب صيداوي ان ابنة فضل كانت كـ"أي مراهقة من بيروت"، لكن المرآة الصيداوية ضيقة، وخيار فضل الانتقال الى صيدا سينجم عنه تفاوت في الأحكام، لا سيما وان النجم اختار المكان الأضيق في المدينة الجنوبية.
ويبدو ان حكايات المراهقة التي أوجعت رأس الأب كان وقعها أقسى في لحظات التحول التي كان يعيشها شاكر. وهو تحول لم يكن واضح الوجهة، فما إن لاحت فرصة زواج لألحان التي لم تكن قد بلغت العشرين من عمرها حتى أسرع الوالد بالقبول. كان العريس شيعياً، ويمت لشاكر بصلة قرابة من جهة أمه. لم تَدم الخطبة كثيراً. أصدقاء لفضل قالوا انه تعرض لضغوط من قبل عائلته، لا سيما شقيقه الأكبر ليفسخ الخطبة، وآخرون قالوا ان الأنسباء الجدد، وهم أقارب مباشرون كانوا يرغبون في المنافسة على ثروة الرجل.
ويبدو ان جند الشام انتصرت على القرابة الخؤولة الضعيفة في المنازعة داخل وجدان الفنان "الحنون".
لكن الشابة كانت قد ارتبطت مع قريبها وخطيبها السابق بعلاقة عاطفية حاولا عبرها اختراق جدار القرابة المأزومة بالانقسام الطائفي. هربت الشابة مع خطيبها السابق. لكن فضل لم يستسلم، فأرسل من يُهدد أقاربه الذين يقيمون في منطقة اليرزة، ويطلب اعادة ابنته. لا بل انه أرسل من أطلق النار على شرفة منزلهم، وهو ما أدى الى قيام الشرطة العسكرية باعتقال النجم، لليلة واحدة، ثم اخلاء سبيله بسند كفالة.
من الفنّ الى القتال
بهذه الواقعة يؤرخ أصدقاء لفضل شاكر علاقته بالشيخ أحمد الأسير. اذ يقولون ان محمد المصري ابن شقيقة فضل كان يُصلي في مسجد الأسير في عبرا، فاقترح على خاله زيارة الشيخ وطرح مشكلته أمامه. وهذا ما حصل، فتوجه الأسير الى منزل أقارب فضل في اليرزة وتولى مفاوضات باسمه أفضت الى تسليم ألحان الى والدها.
لكن حكاية التحول الذي أصاب النجم لا تُختصر بعلاقته بأحمد الأسير، ذاك ان عائلته كانت من زرع التحول. وفي هذا الوقت كان شاكر قد أوقف تقديم المشروبات الروحية في مطعم ألحان على مدخل المدينة. وكان على رواده الصيداويين ان يأكلوا سمكاً بلا عرق.
ولاحظ أصدقاء للنجم ان السنوات القليلة التي سبقت اعتزاله "المغنى" شهدت لديه أيضاً شغفاً مستجداً بالسلاح، فراح يشتري منه ويقتني ما هو خاص ومميز ويوزع على المحيطين به، من دون ان يعني ذلك انه كان يخطط لشيء. فقط كان شعوراً بالقوة ذاك الذي يمنحه إياه السلاح بين أيدي المحيطين به، وهو كان بذلك يُشابه الكثير من فتية التعمير التحتاني ومن كهوله أيضاً.
وبدأت حكاية تحول أصاب فضل شاكر تتسع في أوساط الفنانين من أصدقائه، فيقول نجل الفنانة الراحلة وردة الجزائرية التي أحبها شاكر وعلق لها صورة كبيرة في مطعمه على مدخل صيدا، انه في لقائه الأخير معها قبل وفاتها نصحها باعتزال الفن والتحجب والذهاب الى الحج، فيما رفضت شريكته في الغناء "يارا" الحديث عنه، وقالت انه كان وجه إهانات لها في أعقاب تحوله.
كانت صيدا بين الأعوام 2005 (عام اغتيال الحريري) و2012 (العام الذي كف فيه شاكر عن الغناء) تعج بوقائع صغيرة لكنها مؤسسة لوعي شقي ولاحتمالات الخروج على الدولة وعلى الإجماعات. وكان حي التعمير التحتاني أحد أبرز البؤر التي وظفت فيها الأجهزة الأمنية المختلفة قدراتها واستثمرت في فقرائه.
في العام 2007 كان عبد الرحمن ابن شقيق فضل متوارياً ومطلوباً الى الأجهزة الأمنية مع مجموعة من رفاقه بسبب ما يسميه أهل التعمير "قضية الخمار". وتقول والدته ان حاجز الجيش اللبناني على مدخل التعمير التحتاني كان طلب من زوجة صديق محمد رفع الخمار عن وجهها للتحقق من هويتها، وتؤكد ان عناصر الحاجز حاولوا فعل ذلك بالقوة عندما رفضت. فما كان من عبد، صاحب الحمية وخريج معهد الإمام البخاري في عكار، وفتوة الحي، إلا ان تصدى للجيش وحصلت مشادة تطورت الى اشتباك أصيب على أثره جنود من الجيش اللبناني.
بعد فترة من تواريه، تقول أم العبد، طلبت النائب بهية الحريري من فضل ان يُسلم ابن شقيقه الى الجيش ليحقق معه، وأكدت انها وعدته بأنه لن يحاكم. أقدم فضل على تسليم ابن شقيقه المفضل الى الجيش فبقي في السجن من العام 2007 الى العام 2011.
وعبد الرحمن، الذي كان أرسله والده في عمر العاشرة ليدرس الشريعة في معهد الإمام البخاري في عكار، وأقام هناك نحو خمس سنوات، كان عاد الى صيدا في العام 2000 في أعقاب معارك الضنية على ما تقول والدته. وهناك في الشمال لقح فطرته الصيداوية بخبرات مشايخ السلفية الشمالية.
انه، أي عبد الرحمن، رجل فضل الأول على ما يؤكد الجميع، فبعد الإفراج عنه احتضنه عمه مع جميع أصدقائه الذين خرجوا معه من السجن، وتأثّر به وبأفكاره، هو الذي كان "طول عمره يسهل التأثير عليه وسريع الإنقياد" حسب وصف أصدقاء له.
انهم "شباب فضل" على ما يسميهم الجميع، وهم أشد قوة واسلاماً من شباب الأسير. هذا بعد ان أعلن النجم "توبته" وانخرط في الجهاد.
"شباب فضل"، هكذا يميز الصيداويون بينهم وبين شباب الأسير. فحين تذهب مع صيداوي ليشرح لك ما جرى في معركة مسجد بلال بن رباح، يقول لك: شباب فضل كانوا يقيمون هناك، وشباب الأسير كانوا هنا. ثمة تمييز بين الشبابين. "شباب فضل" أكثر خبرة في القتال بسبب قدومهم من حي التعمير التحتاني الذي يحترف شبابه القتال منذ عقود، وهم أشد اسلاماً بسبب سبقهم الى الإسلام من خلال جند الشام وقبلهم الجماعة الإسلامية. وهم أيضاً أكثر "حنية" لأنهم أيتام أهلهم ودولتهم وفلسطينهم.
راحت الوقائع تدفع النجم الى الاعتزال. كان "الشيعة" في صلب مأزقه الداخلي، والجيش اللبناني أيضاً الذي سجن ابن شقيقه المفضل بعد وعد بالإفراج السريع عنه. وابنته وخطيبها السابق، وراغب علامة وسخريته من "أهل السنة" كما قال صديق فضل.
وهذه ليست وقائع عامة في الوجدان الضيق للرجل "الحنون". انها وقائعه هو، وهي عائلته النواة، وهي حاله وقد ارتدت الى بدء يختلط فيه دار الأيتام بموسيقى الفقراء التي اعترضتها موجات الأسلمة. ها هي تستعيد من الفنان قوة صورته ومن فضل الشمندور ماضيه، فتدمجهما، ليخرج نجم "جهاد" جديداً، ومتوارياً.
في آخر العام 2011 وبينما كان عازف الرق السابق في فرقة فضل عبد الأمير يشاهد عبر التلفزيون حفلة فضل الأخيرة في المغرب والتي أعلن فيها اعتزاله الفن وانقطاعه للعبادة، أقفل عبد التلفزيون وغرق في حزن ما زال فيه الى اليوم. فقد انقضى زمن صديقه "الحنون". وعندما سمع صديق آخر فضل في شريط فيديو يتحدث عن "الفطايس"، قال هذا ليس فضلنا، انه فضلهم.
تعليقات