التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بغداد على لسان ثلاث من فتياتها: موت يومي في مدينة الرعب

 خالد سليمان
«إذا تركت بغداد يوماً فسيكون السبب الخوف من المجتمع ومن التشدد الديني، لأنني لم ولن أخضع لأحد تحت أي مسمى كان». هذا ما تقوله شهد عن مدينتها بغداد التي ولدت وكبرت ودرست فيها، وتخاطر بحياتها كل يوم حين تبحث عن قصة جديدة عن أحوال المهمشين والمحتاجين ومجموعات المافيا الصغيرة التي تتاجر بالأعضاء البشرية والرقيق الأبيض. تعمل شهد وتكتب لأية صحيفة تنشر لها قصصها الاستقصائية، إنما، على رغم محاولات البحث والكتابة والنشر، لا تخفي شعورها بالإحباط تجاه ما يجري في البلاد، فكلما اقتربت من خيوط قصة من القصص الغريبة التي تحصل في بغداد اليوم، اكتشفت يداً سرّية فيها لأحد المتنفذين داخل الأجهزة الحكومية. تقول شهد: «الحياة معدومة في بغداد، إنها مدينة لا يمكن تصورها حتى في الخيال، كل شيء معدوم. نصطدم نحن الشباب بمعرفتنا المسبقة بما يمكن وصفه بالـ «لا جدوى» كلما حاولنا إنجاز شيء أو تشخيص شيء ما».

تسرد شهد أشياء كثيرة عن العنف والمفخخات وتجارة المخدرات وتراجيديا الشباب الذين صار إطلاق التسميات عليهم وقتلهم بسبب نمط حياتهم وملابسهم وتصفيف شعرهم أسهل شيء في بغداد.
أسألها أحياناً عن أشياء مثل الحب والتنزه والخروج من البيت ولقاء الأصدقاء والصديقات، فتضحك وتقول لي إن «البحث عن القتل والضحايا أسهل بكثير من البحث عن الحب والحياة الطبيعية في بغداد». تذكّرني إجابة شهد بعنوان كتاب «الانتحار أو الغناء» كتبه الشاعر الأفغاني سيد بهاء الدين مجروح. وقام مجروح الذي اغتيل عام ١٩٨٨ على يد الأصوليين الإسلاميين في مدينة بيشاور الباكستانية حين كان لاجئاً هناك، بتوثيق الشعر الشعبي لنساء منطقة بشتون اللواتي إن لم تسنح لهن فرصة الغناء في حقول العمل لا يبقى أمامهن إلّا الانتحار.
على رغم كل الصعوبات والتحديات، لم يفارق شهد الأملُ والبحث عن المستحيلات أحياناً. الانفجارات برأيها تزرع خوفاً موقتاً في نفوس الناس قد يزول لو حكم السياسيون عقولهم، لكن خوفها من المجتمع أعمق وأعنف، لأنه متوارث ولا يزول بسهولة. لذلك، فالحب في بغداد برأيها إن لم تقتله الانفجارات يقتله المجتمع: «تحول البلد إلى غابة يختبئ الجميع في جلد الأسود المفترسة وينتظر افتراس الجميع. أسفي على كل ما يحدث».
رنيم، مهندسة مدنية تعيش في منطقة اليرموك (الكرخ)، تحب الخروج مع صديقاتها وممارسة الحياة اليومية. التفجيرات في حسابات رنيم اليومية مثلها مثل أي شيء آخر، عادية، فالإنسان هنا في بغداد برأيها اعتاد الموت بهذه الطريقة. كل الأماكن العامة معرضة لخطر الانفجارات، ومحو آثار التراجيديا بسرعة لا يحدث سوى في بغداد.
تقول رنيم: «كلما خرجت من البيت أعتبر نفسي واحدة من الناس الذين يقتلون في الانفجارات، أو يختطفون من قبل نقاط التفتيش الوهمية في المدينة». تروي رنيم حكاياتها اليومية في مدينة الرعب بسلاسة روائية ومع ابتسامة لا يستوعبها إلّا من عاش في الرعب العراقي. فهي تارة تحكي عن رغبتها الشديدة بـحياة تـليق بالبـشـر وتـحـكي قـصـص الخـروج مع صديقـاتـها إلى الأماكن العامة على رغم جـميع المخاوف، وتارة تحكي عن كل تلك الصور التي ترعب النفوس في بغداد. ولا تأتي الخطورة بالنسبة للشابة البغدادية من الأماكن العامة فقط، بل يمكن أن يقتل المرء أو يختطف من بيته، إنه مشروع موت في أي لحظة.
تسرد رنيم حكايات وصوراً كثيرة عن العنف في بغداد وتطمئن نفسها بأن الانفجارات ليست يومية بل تحدث مرة أو مرتين في الأسبوع، إنما الذي يمكن التوقف عنده في حديثها هو تأقلم الإنسان العراقي مع الانفجارات والجثث والدم إذ يصبح المكان الذي حدث فيه انفجار وسقطت فيه الضحايا وغطاه الدم، مكاناً عادياً بعد ساعات من الحدث، فتفتح المحال التجارية أمام حركة البيع والشراء وكأن شيئاً لم يحدث. تروي الشابة البغدادية أنها رأت انفجاراً في منطقة الكرّادة المعروفة بأسواقها ومحالها الخاصة بالأجهزة الكهربائية، وتقول: «كانت الساعة العاشرة صباحاً وكنت متوجهة إلى عملي ورأيت الانفجار في الكرّادة، رأيت القتلى والمصابين وكانت الصورة قاسية جداً، لكن حين عدت من عملي الساعة الرابعة بعد الظهر، رأيت المكان نظيفاً جداً والمحال التجارية مفتوحة وقد أزيحت المخلفات كلها». وتحكي كيف أن سيارات الإطفاء والشرطة تقوم بنقل الضحايا والمصابين بعد الانفجار مباشرة وتزيح المخلفات وتنظف المكان.
تعيش رنيم يومها فقط ولا تفكر بالمستقبل، لأن المدينة بلا مستقبل. كان هناك ضوء في قلب الظلام في ربيع العام الماضي حيث تضاءلت الانفجارات وقلّ ظهور الميليشيات في العاصمة، فتفاءل الناس بالخير، «لقد نسينا الخدمات المفقودة، وفرحنا بفترة هدوء لم تدم وعاد العنف والقتل إلى حياتنا».
لا تلاحظ رنيم العنف الاجتماعي تجاه النساء بالدرجة نفسها التي تلاحظها الفتاة الثالثة التي تحدثت معها حول حياتها اليومية في بغداد. ذاك أن رنيم تتحرك بسيارتها الخاصة، فيما تستخدم مريم التي تعمل مندوبةً لشركة أدوية ومترجمة متعاقدة مع الحكومة، وسائل النقل العام للحركة اليومية والعمل. فقدت مريم اثنين من أصدقائها في منطقة الغزالية في التفجيرات المتكررة في العاصمة، ولذلك تخاف ذكر اسم المنطقة التي تعيش فيها. ومن القصص الحزينة التي ترويها قتل أخوين بسبب أسمائهما، وكل واحد منهما قتل من فريق من فرق القتل المتنوعة الموزعة طائفياً في العاصمة. الأول كان يسمى عمر قتل بسبب اسمه، وأخوه كان يسمى علي قتل أيضاً بسبب اسمه.
تركز مريم كثيراً على مضايقات يومية تعيشها في سيارات النقل العام في العاصمة، «أنا فتاة أعتمد على نفسي وأعمل، كان والدي عنيفاً وعنّف حياة العائلة، رحل ولم يترك لنا شيئاً. تالياً لا يمنعني أي شيء وأية ظروف أمنية ولا مضايقات اجتماعية عن العمل، ذاك أن حياة عائلتنا متوقفة على عملي». تستمر مريم في سرد قصص كثيرة حصلت معها في الباصات العامة، لكنها تفضل اختصار الحالة كلها بلغة لم يكتشفها أهل السياسة والحكم في بغداد بعد. تقول مريم: «لا يمر يوم إلّا وأتعرض فيه للتحرش اللفظـي والـجسدي، كلما انفلت الوضع السـياسي والأمـني في بغداد، انفلتت الأيادي في باصات النقل العام على النساء»

نشرت هذه المادة في جريدة "الحياة" بتاريخ ٣ نوفمير ٢٠١٣

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هەر دەوڵەتێکی کوردی لەم دۆخەدا لە دایکبێت، وەک ئەوەی باشوری سودان دەبێت*

خالد سلێمان سیاسەتی ڕاستەوخۆ، ناڕاستەوخۆی شانشینی سعودی، قەتەر، تورکیا بەرامبەر عیراق و سوریا، لە حەڵەتی پاشەکشەی یەکجارەکی پرۆژەی دەسەڵاتێکی ئیسلامی ( ئیخوان، بەرەی نوسرە، ئەحراری شام، سوپای ئیسلام .. هتد ) ، کار بۆ دامەزراندنی کیانێکی سوننەی سەربازی دەکات، کە دور نیە، بەعسیەکانی ناو داعش، تۆوی ئەو کیانە بن . یانی داعشیش بەشێک دەبێت لە نەخشە سعودی - قەتەری - تورکیەکە .  ئێستا هەوڵی هەرسێ جەمسەرەکە لەوەدا کۆدەبێتەوە، چۆن لە ڕێگەی پارتی دیموکراتی کوردستان و پارتە کوردیەکانی ناو ئیئتلافی ئۆپۆزسیۆنی سوریاوە، کوردیش بەشێک بێت لەو کیانە سوننییە . لەوانەیە ئەمە باشترین دەروازە بێت بۆ تەماشاکردنی دیمەنی هەرێمی کوردستان، کە لە ڕوی سیاسی و ئابوری و کۆمەڵایەتییەوە لە خراپترین ئاستیدایە، بگرە لەبەردەم داڕوخانێکدایە کەس مەزەندەی دەرەنجامەکانی ناکات . بەڵام ئەوەی لەناو دیمەنێکی سیاسی، سۆسیۆ - ئابوری خراپی وەک ئەوەی ئەمڕۆماندا، هەژمونی خۆی هەیەو ڕای

ئاین لەمیتۆدەکانی پەروەردەی کوردستاندا ‌

خالد سلێمان‌ 15/5/2015 ساڵی ٢٠١٢ لەبەر ڕازی نەبونی مەسیحیەکان و کاکەییەکان لەسەر ئەو بەشانەی لە کتێبی “ئاین ناسی” لە میتۆدی خوێندندا، ئەو دوو چاپتەرەی بۆ ئەوان  لە کتێبەکەدا دانرابون لە سەر خواستی خۆیان  لابران. ئەمە هەنگاوی یەکەمی ئەو قەیرانەی پەروەردەیە کە تا ئەم ساتە لە کوردستاندا بەردەوامە. مەسیحییەکان پێیان وابو کە چیرۆکی لە دایکبونی مەسیح بەشێوەیەکی ناڕاست نوسرابو، بۆیە داوای لابردنیان کرد. ئەوەی پەیوەست بو بە کاکەییەکانەوە، بوون بەدوو بەشەوە، بەشێکیان پێیان وایە ئەوان موسڵمانن و نابێت وەک ئاینێکی جیا تەماشا بکرێن، بەشێکی تریان پێیان وایە کە ئاینەکەیان جیایەو ئەوەی لە میتۆدەکەدا نوسراوە ڕاستە. ئەم جیاوازیەش لای ئەوان بوە هۆی لابردنی ئەو بەشەی لە کتێبەکەدا لەسەر کاکەیی نوسرابو. کتێبی ئاینناسی لە قۆناغەکانی  (١٠، ١١، ١٢)ی خوێندندا لە پێناو ئەوەدا بوو کە خوێندکارانی کوردستان جگە لە ئاینی ئیسلام ئاینەکانی تریش بناسن، بەڵام پرۆژەکە لەسەرەتادا - بەتایبەتی لە کتێبی قۆناغی ١٢دا- توشی دوو گرفت بوو، یەکەمیان ئەوەبو کە وانەکانی خوێندن لەسەر مەسیحی و ئێزدی و کاکەیی و ئاینەک...

أزمة المياه تهدّد الشرق الأوسط.. والعراق على الخط الأحمر

خالد سليمان  يشير مدير المعهد العلمي للبيئة في جامعة جنيف مارتن بينيستون إلى ذوبان شبه كلي لثلوج جبال الألب نهاية القرن الحالي، حيث لا يبقى سوى القليل منه في الأعالي. يعود سبب ذوبان هذه الثلوج التي تغذي أنهار (راين، دانوب، بو، رون) ويعتمدها ١٦٠ مليون نسمة في غالبية أنحاء أوروبا للزراعة والنقل والطاقة والغذاء، إلى التغيير المناخي وارتفاع درجات حرارة الأرض، ناهيك عن الازدياد السكاني حيث تشير الإحصائيات المتوقعة إلى وصول نسبة سكان المعمورة إلى ١٠ ملايين نهاية هذا القرن.  كانت هذه الصورة بداية لمؤتمر دولي بعنوان “السلام الأزرق” حول دور المياه في السلام والتنمية المستدامة في الشرق الأوسط نظمه Stratigic Foresight Group وجامعة جنيف بالتعاون مع وكالة سويسرا للتنمة والتعاون الاسبوع الثاني من شهر أكتوبر ٢٠١٥.