خالد سليمان
احتج عدد من الكتاب والمثقفين والصحفيين وأهل الثقافة والفنون والأدب يوم ١٨ من شهر تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠١٣ داخل حديقة (آزادي) بمدينة السليمانية في كردستان العراق ضد تشويه ضريح الشاعر الراحل شيركو بيكةس وحرق تمثال الحب في ذات الحديقة في اليوم الثاني من عيد الأضحى من قبل مجهولين. حين وصل المحتجون إلى مكان التمثال (الصورة)، قام حبيبان من بين القضبان المتبقية من التمثال المتفحم بترك قبلة حب في محل القبلة الفنية المحترقة التي نحتها نحات كردي، اسمه زاهر صديق، كان قد وضعها في الحديقة قبل سنوات. وبعد مرور ساعات على الاحتجاج، نشر صحفي صورة لقبلة الحبيبين على الفيسبوك، وهما مصور صحفي اسمه كامران نجم وناشطة بيئية هولندية اسمها يانتين فان هاروينين، تقيم في كردستان منذ عام ٢٠٠٨. انتشرت الصورة خلال دقائق بين الفيسبوكيين وقنوات الإعلام المتنوعة بسرعة البرق وتفتح شهية الجميع على الكلام، إنما كلام في اتجاهات معاكسة، لم يصب سوى القليل منه هدف الاحتجاج والقبلة، وهو الحرّية، إذ اتضحت أنها مهددة في كردستان وتفتقد لمضمونها.
لقد تمثل هدف الاحتجاج في مسألة غاية في الوضوح وهي إدانة تشويه ضريح رمز من رموز الأدب الكردي من جانب، والدفاع عن حرية التعبير فيما خص حرق تمثال الحب من جانب آخر، ذاك ان النحت والأجناس الفنية الأخرى شكل من أشكال التعبير. ألقيت الكلمات، وفيها، ركز المتكلمون على مكانة شيركو بيكةس في الثقافة والأدب الكرديين، إنما بقيت البقايا المتفحمة من تمثال الحب على هامش الاحتجاج. ولكن حين نشرت صورة القبلة على الفيسبوك، عادت إيقونة الحب إلى مركز حدث، هزّ الشارع الكردي في عمق سباته الاجتماعي فيما خص الحب، ورمزه الأقوى وهو القبلة.
أشار البعض في المشهد الثقافي إلى أهمية وجود سند اجتماعي للقبلة اليتيمة التي جسدت اللبيدو الكردي على الكلام عن الحب في حركة عفوية. قال كامران إنه استمد فكرتها من شعر بيكةس، ذاك أنها إن بقيت وحيدة وسط رماد القبلة الفنية المحترقة قد يلتقمها الأصوليون ويتعرض الحبيبان إلى هجوم وتهديد اجتماعي ديني في مجتمع كردي محافظ لا يقبل الزلزلة في لاوعيه ومكبوتاته الجامحة للخروج.
وكتب عدد من الكتاب والمعلقين أن القبلة المعلنة الأولى في تاريخ المجتمع الكردي، كما يصفها الكثير، أفرجت عن رغبات مقيدة في لاوعي الفرد الكردي وجعلت منها صورة أحرقت إدعاءات الحرية في كردستان، ذاك أن السلطات لزمت الصمت فيما لجأت الحركات الإسلامية من خلال جيوشها على شبكات التواصل الاجتماعي إلى جميع الوسائل للهجوم على الحبيبين واتهامهما بإخلال نظام الآداب العامة.
وما أثار دهشة واستغراب الوسط الثقافي قبول رئاسة إدعاء العام في إقليم كردستان دعوة قضائية، رفعها عضو في الإتحاد الإسلامي الكردستاني (الإخوان المسلمين) ضد كل من يانتين وكامران، ودعا إلى محاكمتهما بسبب قبلتهما، مدعياً أنها مخلة بنظام الآداب العامة. ولكن الغريب في هذا الأمر أن رئاسة الإدعاء العام تسلمت دعوة الإخوان المسلمين عبر صفحتها على الفيسبوك وليس من خلال حضور شخصي للمدعي. وقد أثار هذا الأمر موجة أخرى من السجال على مصداقية الإدعاء العام، ذاك أنه لم يحرك ساكناً فيما خص ملفات الفساد في مؤسسات الحكم والعنف ضد النساء وقتل المتظاهرين، بينما تحرّك ضد تصرف فردي متمثلاً بقبلة في مكان تم فيه سلب حرية التعبير.
لقد كشفت القبلة ذاتها عن عنصرية اجتماعية في بعض الأوساط السياسية والإعلامية مفادها أن الناشطة البيئية يانتين أجنبية، وما قامت به ضد حرق تمثال الحب لا يعني شيئاً، ذاك أنها ليست كردية. وقد دفعت هذه العنصرية الاجتماعية المستندة إلى موقف الأحزاب الإسلامية الشابة الهولندية المقيمة في كردستان منذ سنوات إلى التزام الصمت وعدم التفوه بشيء ما يذكر، أما المصور (الكردي)، الذي نسي الخوف داخل حشد الفنانين والمثقفين وطبع قبلة على شفتي صديقته، فعاد وكتب رسالة اعتذار للمجتمع والأهل والأصدقاء والسلطة، والإسلاميين ضمناَ، فيما لو شكلت قبلته تجاوز على الآداب العامة.
إن دلّت القبلة المهدور دمها في كردستان العراق، فإنما تدلّ على أن الحرية (الحريات الشخصية وحرية التعبير وحرية الضمير)، التي نتحدث عنها ونتباهى بها هنا في السليمانية، أو بيروت كردستان، كما درجت التسمية، مُهددة ولا تقاوم (العين الحمراء)، ذاك انها مزروعة في أرض سياسية واجتماعية وثقافية هشة.
إن اللحظة التي عاشها مصور صحفي واستعاد وضعية تمثال مهدم من خلال جسد حبيبته، يشبه إلى حد ما وصف إلياس كانيتي للفرد حين يتحرر من الخوف في قلب الحشود، إنما يخاف من ظله بمجرد خروجه من الحشود أو انتهاء المظاهرات، فذات الشخص الذي صعد إلى منصة التمثال وقبل حبيبته ناسياً المحيطين به وعدسات الكاميرا وجهوزية شبكات التواصل الاجتماعي للنشر والانتشار، رأى نفسه وحيداً في ذات اللحظة التي أصبح فيها نجماً في قنوات ووكالات إعلام محلية وعالمية واعتذر عما فعله. ولم تكن الحرية، تالياً، مهددة حسب، بل افتقدت إلى معان ومضامين واضحة، ذاك أن جميع القوى السياسية المعارضة، التي أصبحت (الحرّيةُ) شعارَها الأساسي منذ بدء ثورات (الربيع العربي)، والسلطة وطيف واسع من المثقفين، وقفت ضد أو بقيت صامتة في أحسن الأحوال. ولم يتردد البعض من أن أي سجالاً اجتماعياً ـ دينياً على حرية الكلمة والضمير والحريات الشخصية بين المثقفين والأحزاب الإسلامية لا يخدم سوى السلطة.
مقابل ذلك لم يبد المجتمع الكردي أي اهتمام بأسبوع القبلة في كردستان عدا الكُرد المقيمين في المغتربات إذ قاموا بنشر صور، فيها، يقبّلون زوجاتهم وحبيباتهم وصديقاتهم لخلق سند اجتماعي لحبيبين خارجين من حشود أفرغت حمولتها في ذات اللحظة التي التأم أفرادها. ولا يمكن في جميع الأحوال ربط المغتربات الأوروبية بالمشهد الحياتي اليومي في كردستان إلاّ في الإطار الذي قد يمكن تسميته بوجود (لامكاني)، حيث يغلب طابع الحياة الافتراضية على الواقع.
لذلك لا يمكن وصف ما حدث في مدينة السليمانية بسوى حرية مُهددة أو مفتقدة لمضمونها.
نشر هذا المقال في صحيفة (العالم) العراقية بتاريخ ١٧/١١/٢٠١٣
تعليقات