خالد سليمان
حسنا فعل رئيس تحرير صحيفة "الحياة" غسان شربل حين فتح باب "تابو كبير" محاط بمدينة كركوك في الإعلام العربي. وحبذا لو أعاد الكاتب في مقاله المنشور في عدد يوم الإثنين ٣٠يونيو/حزيران ٢٠١٤ بعنوان "كل شيء إلّا كركوك" بعض من التاريخ الإجتماعي والسكاني في المدينة كي تتضح تلك الصورة المغبشة التي طالما بقيت طي الكتمان في الوعي السياسي العراقي والعربي.
أحاول هنا ككاتب كُردي يكتب باللغة الضاد وتهمه القضايا العربية وحقوق شعوبها من الحرّية والكرامة مثلما تهمه القضايا الكُردية والحقوق ذاتها، أحاول إضافة ما يمكن إضافته إلى مقال رئيس تحرير "الحياة" حول كركوك وتلك التغييرات السكانية والإجتماعية التي طالتها في تاريخها الحديث.
وما يهم هنا، على الأقل في حدود التاريخ النفطي للمدينة ان جاز الإستخدام، هو الإبتعاد قليلاً عن النثر السياسي الذي طغى على الخطاب القومي الكُردي فيما خص كركوك، ذاك ان مشكلة هذه المدينة المُورّطة بحمولات النفط ، وفيها، القومية العابرة للواقع، هي ذات المشكلات التي أوجدتها الديكتاتوريات بحثاً عن مصادر إضافية لمساحات الإستبداد. ليس في كلام الديكتاتور العراقي السابق صدام حسين حين يقول لمسعود البرزاني "نحن لا ننكر ان كركوك كردية لكننا لا يمكن ان نعطيكم ايها لأنها قاعدة جاهزة لإعلان دولة..كل شيء إلّا كركوك"، شيء يثير الإستغراب، إنما الغرابة في جعل كركوك واحدة من المحرّمات السياسية على الكُرد في مجمل السياسات العربية.
ولا يرجع التحريم السياسي فيما خص كركوك وعلاقتها بمحيطها الثقافي والتاريخي إلى فترة حكم صدام حسين بطبيعة الحال، إنما صار لشخص صدام اليد الطولى في ممارسة سياسة ترحيل الكُرد عن المدينة وجلب سكان عرب إليها من الجنوب والوسط العراقي دون التفكير بالعواقب الخطيرة التي تنتجها هذه السياسية. لقد بدأت سياسة التغيير الديمغرافي عام ١٩٣٥ وذلك من خلال مشروع رّي مائي خططت لها ونفذتها حكومة ياسين الهاشمي اثناء حكم الملك فيصل الأول. كانت مدينة الحويجة الحالية في تلك الفترة أراض بور تستخدمها عشائر وعوائل كُردية (جاف، طالبانية، هموند، داوودية، عائلة خانقا) كمراع للمواشي.
بعد الإنتهاء من مشروع رّي الحويجة عام ١٩٤٦ وجلب المياه من الزاب الصغير إلى تلك الأراضي البور من خلال قناة تم تنفيذها بأيدي السجناء السياسيين من كركوك والسليمانية وأربيل، بدأت وزارة ياسين الهاشمي بتوطين عشائر العوبيدية والجبور التي كانت تقطن سهل الموصل ومنطقة (الجبيشة). وفي الفترة التاريخية ذاتها تم منح آلاف الدونمات من الأراضي السكنية والزراعية إلى عشائر الجبور والعبيديين والحمدانيين، وذلك من خلال "مجلس الإسكان الريفي" استحدثته الحكومة العراقية. وفي عام ١٩٦٥ تم تأسيس قضاء الحويجة وألصقت بكركوك. وفي عام ١٩٧٥ بدأت حكومة البعث بتنفيذ سياسة توسيع غرب كركوك سكانياً وتقليص شرقها وجنوبها وفصلها تالياً عن أقضيتها ونواحيها وقراها التاريخية مثل كفري وطوز خورماتو و جمجمال وخانقين، ذاك ان غالبية سكانها كانوا من القومية الكُردية.
ما أثار إنتباه الدوائر المختصة بالنمو السكاني في كركوك هو ان نسبة النمو في تلك الأقضية والنواحي التي استحدثتها الحكومات العراقية أو استقطعتها من الموصل وصلاح الدين وألصقتها بمدينة كركوك تجاوز ٩٪ في الفترة الواقعة بين ١٩٦٥ و١٩٨٧، وارتفعت النسبة تالياً من ٨٪ إلى ١٨٪ من مجموع سكان كركوك. ولو عدنا للوراء قليلاً نلاحظ ان تلك المناطق التي غير الطابع الديمغرافي للمحافظة في جهة الغرب وهي ( الحويجة، الزاب، العباسية، رياض)، كانت مناطق خالية من السكان في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، أو تابعة لمحافظة الموصل. وإذا عدنا للوثائق البريطانية حول هوية سكان المدينة في بداية القرن العشرين، نلاحظ غلبة الكُرد سكانياً ويأتي التركمان القومية الثانية ومن العرب الذين لم تتجاوز نسبتهم عام ١٩٢٨ (٦٠٠٠) آلاف نسمة. ففي رسالة بعثها المندوب البريطاني في كركوك السير أدمونز عام ١٩٢٩ إلى ونستن تشرشل الذي وزيراً للمستعمرات في تلك الفترة، يشير أدمونز إلى غلبة السكان الكُرد في المدينة حيث تقارب نسبتهم ٨٠ ألفاً، إنما يشير في الرسالة ذاتها إلى هيمنة اللغة التركمانية في الحياة الإقتصادية والإدارية، والكثير من الكُرد يتكلمون التركمانية، لأنها لغة التجار والإدارة والمؤسسات الحكومية.
قصارى القول، هناك نوعان من التغيير الديمغرافي في محافظة كركوك، بدأت المرحلة الأولى مع مشروع رّي الحويجة عام ١٩٣٥ حيث تم جلب السكان العرب من محافظتي الموصل وصلاح الدين إلى كركوك وصار لهم موقع قدم إجتماعياً وإقتصادياً في التركيبة السكانية للمحافظة. وقد استحدث الرئيس العراقي جلال الطالباني تسمية (العرب الأصليين) للسكان الذين جاءوا للمدينة وأطرافها في بداية القرن العشرين ونهاية نصفها الأول. أما المرحلة الثانية من مجيء العرب إلى المنطقة فبدأت تحديداً مع وصول حزب البعث إلى الحكم عام ١٩٦٨ إذ أصبحت سياسة ترحيل سكان الكُرد والتركمان وتغيير "القومية" على هويات الأحوال الشخصية وجلب سكان عرب من الجنوب العراقي واقعاً يومياً.
ولكن الخطوة الأخطر، في سياق تلك السياسة هي إستقطاع أقضية كفري وجمجمال وخانقين وطوز خورماتو مع جميع النواحي والقرى التابعة لها وإلصاقها بمحافظات صلاح الدين وديالى والسليمانية وأربيل قبل الإحصاء السكاني العام في البلاد عام ١٩٧٧، وصار ترحيل سكان مركز المدينة تالياً أمراً سهلاً للحكومة العراقية.
وفي بداية السبعينات، خطط صدام حسين حين كان نائباً للرئيس العراقي أحمد حسن البكر، لتقسيم مدينة كركوك من خلال نهر "خاسة". وكانت الخطة كما تحدث صدام حسين لوزير الرّي الأسبق مكرّم الطالباني عام ١٩٧٢، عبارة عن ضخ كميات هائلة من المياه في نهر "خاسة" الفصلي الذي يفصل المدينة إلى شطرين، وتجميع الكُرد في شطرها الشرقي فيما خطط لتعريب شطرها الغربي بالكامل. وكان هدف الديكتاتور العراقي السابق من تلك الخطة هو إخراج الآبار النفطية التي تقع غالبيتها في غرب المدينة من الحسابات السياسية الكُردية. لم تنجح تلك السياسة، إنما شمل ترحيل السكان حتى الشطر الشرقي من نهر "خاسة" الخالي من المياه إلاّ في أوقات الفيضانات.
فتح باب المحرّمات
لا يتعلق فتح باب المحرّمات المحيطة بكركوك، بمدينة واحدة بقدر ما هو "فتح سياسي" على " حطام الدولة القومية الفاشلة التي أسسها "جيل الهزيمة" إذا استعرنا تعبير رئيس وزراء سوريا الأسبق بشير العظمة، ذاك ان مفهوم الدولة-الأمة، أو دولة ما بعد الكولونيالية العربية إن جاز التعبير، تأسست على يد جيل استعار السياسة من بيئات اجتماعية واقتصادية مهزومة، إنما سماء جيل الهزيمة ما لبثت ان تلبدت بغيوم سوداء، وذلك من خلال دول امتزجت فيها قيم القبيلة بالإستبداد. يمكن القول في هذا السياق بأن كركوك، كانت الضحية الأولى لسياسات بناء (الدولة-الأمة)، وقبلها الدولة العراقية الوليدة في رحم الكولونيالية البريطانية. ففي العقدين الأخيرين من النصف الأول من القرن العشرين اعتمدت الحكومة العراقية بمساعدة البريطانيين إنهاء النزاعات العشائرية في الموصل وجنوب العاصمة المعروفة بسهول ( البيات) من خلال إقامة مشاريع الرّي في محافظة كركوك.
قبل مشروع رّي الحويجة وتوطين السكان العرب هناك، كانت عشائر العبيديين والجبور تتجه من سهل الموصل إلى مناطق (قرَتَبة) التي كانت تابعة لمحافظة كركوك أيضاً، وذلك من أجل الحصول على المراعي للمواشي. ولكن ما حدث في تلك الفترة (العقد الثاني والثالث من النصف الأول من القرن العشرين) كانت مواجهات دموية بين العبيديين وعشيرة العزّة ونتجت عنها العداوات والقتل. وما من الحكومة العراقية وبمساعدة البريطانيين سوى إقامة مشروع رّي من شأنه إيقاف الهجرة الموسمية بين العشائر بغية الحصول على المراعي وتربية المواشي.
لم يعالج النظام الجمهوري (١٩٥٨-١٩٦٣) تلك المشاكل واستمرت الهجرة من سهل الموصل وصلاح الدين نحو الحويجة التي بدت كواحة في الصحراء حيث المياه والوحدات السكنية والزراعة والإستقرار. وحين وصل البعثيون إلى سدة الحكم من خلال إنقلاب عسكري ضد عبدالكريم قاسم بتاريخ ٨ شباط ١٩٦٣، كانت الحويجة كتلة سكانية جاهزة للإحتواء وجعلها حامية قوية لآبار النفط غربي كركوك من جانب وعاملاً للتغيير السكاني من جانب آخر. إنما المرحلة الأهم في سياسة البعث كما تمت الإشارة هي الترحيل الممنهج للكُرد والتركمان وجلب السكان العرب من الجنوب والوسط إلى محافظة كركوك، وذلك من خلال هبات مالية ووظيفية في المحافظة لم توفر قط لسكانها الأصليين. ولم تتوقف هذه السياسة إلى تلك اللحظة التي تم فيها إسقاط نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣.
الماضي كمعضلة أمام الحلول
ولكن، ما العمل وما هي الحلول المقترحة؟، هل يقف الجميع في تخوم الماضي دون وضع خارطة تسهل تنفيذ مادة دستورية شرعها البرلمان العراقي بعد ٢٠٠٣ للحيلولة دون استفحال المعضلات المتعلقة بالتغيير الديمغرافي الذي حصل في المحافظة في الفترة الواقعة بين ١٩٣٥ و ٢٠٠٣؟. يرى قسم من النخب السياسية والثقافية الكُردية بأن الحل الأمثل للمعضلات السياسية والسكانية في كركوك هو تجاوز العقبات السكانية داخل المدينة وإطلاق تنمية شاملة لا تستثني أي من مكونات كركوك، فيما يتم بموازاة ذات التنمية تطبيع الأوضاع الأخرى وفقاً للمادة ١٤٠ الدستورية، وبشكل خاص المعضلات المتعلقة بالتعريب الممنهج بعد عام ١٩٦٨. يقول النص الأساسي من المادة ١٤٠ من الدستور: "العراقيتقوم الحكومة العراقية الانتقالية ولا سيما الهيئة العليا لحل نزاعات الملكية العقارية وغيرها من الجهات ذات العلاقة، وعلى وجه السرعة، باتخاذ تدابير، من اجل رفع الظلم الذي سببته ممارسات النظام السابق والمتمثلة بتغيير الوضع السكاني لمناطق معينة بضمنها كركوك، من خلال ترحيل ونفي الإفراد من اماكن سكناهم، ومن خلال الهجرة القسرية من داخل المنطقة وخارجها، وتوطين الافراد الغرباء عن المنطقة، وحرمان السكان من العمل، ومن خلال تصحيح القومية. ولمعالجة هذا الظلم”. لقد عارضت القوى السياسية العراقية(الشيعية والسنية) منذ ٢٠٠٣ تطبيع الأوضاع في المناطق المتنازع عليها وبذلت كل ما بوسعها لإبقاء ملف كركوك تحديداً ضمن الملفات الميتة. وكانت النخبة الشيعية الحاكمة أكثر إصراراً فيما خص المشكلة، فيما بقيت القوى السياسية السنية متوزعة بين هبات (نوري المالكي) وأضواء السياسات الإقليمية. وقد أخطأ عرب كركوك في المقابل في حساباتهم السياسية حين ربطوا الجزء الأكبر من مصالحهم في المدينة بسياسات (المالكي) وبعض المقرّبين منه بهدف تعطيل تطبيع الأوضاع فيها وإيجاد صيغة مناسبة للشراكة مع الكُرد؛ فيما كانت هناك فرص كبيرة للتنمية والإرتقاء بالمستوى المعيشي والخدمي والإقتصادي إلى ذات المستويات التي تنعم بها مدن السليمانية وأربيل.
تالياً، أدت السياسة "المالكية" إلى ما أدت إليه إذ سقطت بسببها مدن الموصل وصلاح الدين وجزء كبير من ديالى بيد تنظيم إسلامي متطرف مثل (داعش)، واستقدمت جميع عناصر الفوضى، فيما كانت تلك المناطق بحاجة ماسة إلى التنمية والخدمات وإخراجها من دائرة الفقر التهميش. وما من السلطات الكُردية في هذه الحال، سوى الحفاظ على كركوك وسكانها، وسكان مناطق أخرى في الموصل وصلاح الدين وديالى وعدم تقديمها قرباناً لــ"المالكية" و "الداعشية"، فما ضير من ذلك؟. بتعبير آخر، ماذا لو عادت كركوك إلى إقليم كُردستان وأصبحت نقطة إستقطاب أخرى لبلدان المنطقة -البلاد العربية تحديداً- إقتصادياً وثقافياً وسياحياً؟. ألم تستقطب مدن السليمانية وأربيل رؤوس الأموال والإستثمارات العربية، ألم تلتجأ الآلاف من السكان العرب من الجنوب والاوسط إلى أقليم كُردستان ضماناً لحياتهم ومصالحهم، فما الضير إذاً من وجود كركوك وسكانها داخل خارطة إقليم كُردستان؟
تعليقات