لوصف عالمنا المألوف للقتل اليومي وأخبار المفخخات والإنفجارات والمقاومات البشعة سلوكاً وثقافةً ، علينا الخروج من الأطر الثقافية والفكرية المألوفة التي تكرس ظاهرة الكذب والمراوغة اللغوية والشكلية ، بغية " لفّ " الحقيقة في بطن اليباب . الدول والحكومات والمجتمعات والشعوب الإسلامية والعربية تحديداً ، واضحة في قولها وإعلانها اليومي عن عدم التورع عن إتهام مَن لا يتفق معها ، بـ "عدو الله" . نقول " عدو الله " لأسباب ، يمكن إرجاعها لتاريخ " العذاب " في الثقافة العربية – الإسلامية ومقارنته في الوقت ذاته مع فظاظة الحركة الإشتراكية – المسيحية النمساوية في العقد الثاني من قرن التاسع العشر ، إذ كانت تصنف اليهود والأتراك في صنف أعداء الله.
هناك اسباب كثيرة تدفعنا للمقارنة بين حالنا " الآن " وبين ظاهرة ما قبل التوتاليتارية الغربية التي طالما ارتسمت على فن الخطابة القومي والديني ، مستلهمة بذلك من عنصرية القس الألماني " أبراهام سانتكا كلارا " المولود في جنوب ألمانيا عام 1664 . وهو كان بمثابة المصدر الفلسفي الأول لفيلسوف النازية الأشهر " مارتن هايدغر " .
لعل ، أية مقارنة من هذا النوع ، قد تحمل قدر غير قليل من التصدع ، إنما تكفل إمكانات غير قليلة أيضاً لتبيان المصادر " الجوّانية " التي تتشكل منها مخيلة الإستبداد في العالم الإسلامي ، إذ يبدو عنفوانها الشبابي في إطلاق التسميات والشعارات المناهضة لكل ما هو غير " مُقاس " وفقاً لمقتضياته العقيدية والثقافية أقوى من أية شيء آخر في يوميات المجتمعات والبلدان . ولكن ، وفي سياق أي تشبيه بين ظاهرة رفض عقلانية الأنوار بقيادة " كارل لوغر " خليفة ابراهام كلارا ورئيس المجموعة البرلمانية اللاسامية الأولى في تاريخ السياسة النمساوية وبين الأُصولية الإسلامية ، نجد ما يبرر النقد السياسي المقارن . وفي كل الأحوال ، يقتضي النقد ذاته تمحيصاً موضوعياً لفرز بعض مقولات إجتماعية ، عرقية ، مذهبية اتسمت بها كل من ظاهرتي " دائرة فيينا " قبل قرن من الآن ودائرة " الإسلام الأُصولي والوطنية الشعوبية في بداية قرن الواحد والعشرين .
في البحث عن جذور الأُولى وحيثياتها التاريخية والدينية ، يلاحظ ان آلية التفكير فيها ، تستند على نقد جميع مستوياتها الروحية والإجتماعية والسياسية التي طالما برزت كعناصر تخصيب أساسية في "التشكل النازي" في الغرب . أما هذه الثانية التي تبدو وكأنها ناشئة تواً ، فتحيطها جملة من المحرمات الدينية والقومية والمذهبية في المخيلة الشعبية قبل المخيلة السياسية والفكرية. تجدر الإشارة في ذات السياق بأن ظاهرة "فيينا الإسلامية" إنما تغدو مجتزأة بفعل الإنقسامات الدينية والمذهبية والعرقية ولا تشكل بالتالي ظاهرة شمولية "وحدوية " . ولسبب نفسه ، يمكن الحديث عنها بشكل مجتزأ أيضاً واعتبارها تالياً ظاهرة "فيينية " مشتتة ان جاز التعبير .
كانت دائرة فيينا ، بشعاراتها العنصرية وخطاباتها المحمومة بهوس القومية والدين في النصف الثاني من قرن التاسع عشر وبدايات قرن العشرين ، عودة نكوصية لتراث أبراهام سانتكا كلارا ( إسمه الأصلي جوهان أولرخ ميجرليه ) ، الذي كان له التأثير الأكبر على الحياة الدينية والثقافية على ألمانيا الباروك وأصبح مرشداً ذو تأثير إعتباري في الحياة السياسية والدينية داخل الإمبريالية النمساوية . وكانت الوحدة الإجتماعية المتمثلة في العرق الآري ، والكاثوليكية كعقيدة ومذهب ، عنصران أساسيان في صناعة الكاريزما الدينية والقومية الواعية بذاتها المبتدئة عصرئذ . ولا ننسى بالطبع الخوف الذي زرعه حصار الأتراك على "فيينا " في نفوس الناس وسيطرة اليهود على رؤوس الأموال والتحكم بالسوق والحياة الإقتصادية . فهاتين النقطتين أيضاً ، لعبتا دور مؤثر في توسيع نفوذ أبراهام الروحي والسياسي . لم تتوقف العنصرية والخوف من " الغير " في خطاب أبراهام عند العداء لليهود والأتراك ، بل شملا حتى الأوروبين غير المنحدرين من العرق الآري وكان يؤكد دائماً بأن الشباب الذين يتجهون إلى البلدان الأخرى ، لا يعودون أو لا يأتون سوى بأمراض وأوبئة مزروعة في الجسد ، أما بالنسبة للكبار الذين يغتربون فيفتقودن للفضيلة وحسنات الجسد والروح ،ولا يعودون هم أيضاً إلا بأفكار مشوشة . ذلك ان الألمان برأيه هم أكثر هدوءً ، محل ثقة الآخرين ، أعداء الأنوار (الخفاشات ) ، غيورين على القيم . وبرأي المرشد الأول للفيلسوف هايدغر ولحكومة الرايخ الثالث أيضاً ، لم تتسم الأُمم الفرنسية والإيطالية بهذه القيم التي طالما وهبها الله للأمة الألمانية .
كان أبراهام ، وفي فن خطابته تحديداً ، ينعت اليهود والأتراك بصفات كثيرة ، آخرها أعداء الله ، واستمر فن الخطابة ذاته في نهاية قرن التاسع عشر وبداية قرن العشرين عند رئيس الحركة الإشتراكية – المسيحية كارل لوغر . وانتهج قبله مؤسسة الحركة " كليمانس ماريا هوفبر " ( 1751- 1821) السياسة العنصرية ذاتها ضد غير الألمان . ففي عام 1910 حين أصبح لوغر رئيس مجموعة برلمانية في البرلمان النمساوي بعدما استلم قيادة الحركة الإشتراكية – المسيحية أو " دائرة فيينا " من هوفبر ، جدد العداء للحداثة والأنوار واليهود والأتراك وأعلن جملته الشهيرة ( أن اصرخ وأقول ؛ اليهود إلى الأسفل ، إذاً انا سعيد ) .
يمكن القول هنا بأن إلتفاف الكنائس والنقابات حول حكومة الرايخ بقيادة هتلر ، كان إمتداداً لدائرة فيينا التي هرب منها بعض الأكاديميين والفلاسفة واعتمدوا العلم بعدما تخلت البيئات الفلسفية والفكرية عن وظيفتها الإنسانية والأخلاقية . تالياً ،كان التخصيب الديني والسياسي في صناعة " الجماهيرية " غير المكترثة في تحطيم الفردية في دائرة " الأنا الجماعية " التي طالما تجسدت في شخص القائد "الفوهرر" . يقول بعض الأوساط الأوروبية الأكاديمية واليسارية اليوم بأن هتلر استطاع شراء الألمان محاولاً بذلك الإبتعاد عن السجال حول دائرة فيينا التي طالما اقتضت النقد الإجتماعي والثقافي والديني قبل السياسي . وفي ذلك برأي هروب من الإشكاليات الحالية التي تعاني منها المجتمعات الاوروبية في علاقتها مع المهاجرين . لكن ، نحن هنا بصدد حلقة فيينا أخرى لا تتورع عن الإعلان عن شعارات عنصرية والوقوف ضد العلم والحداثة وإلغاء الآخر ،وهي شبيهة في فن الخطابة والممارسة والسلوك لتلك التي اعتمدها أبراهام كلارا وتبناها كل هوفبر وكارل لوغر قبل قرن من الآن .
اليوم ، وفي العالم الإسلامي ، هناك تيارات سياسية دينية وآيديواوحية راديكالية ومظاهرقومية شعبوية محمومة بهوس بإمتلاك صفة الضحية . وأصبحت محاكاة الوعي الغربي القبـ - فاشي ، ليست ممكنة فحسب ، بل خطاً بيانياً في السلوك السياسي والثقافي والديني يعادي كل ما هو غير مكترث في رؤيتها للعالم . فالعداء للعلم والحداثة ( ولا نقول ما بعد الحداثة التي لا تعني بالنسبة للكثير من الأوروبيين سوى العودة إلى ما قبل الحداثة ) وللعلمانية والمدنية والخوف من الآخر أو تصنيفه بالعدو وشيطنة الفلاسفة والمفكرين أو تحقيرهم والمس بحياتهم الفكرية والأكاديمية والشخصية ، وفرض قوانين دينية على التربية والتعليم والثقافة وتطبيع ثقافة العقاب الجسدي على الفرد والجماعة مع الحياة اليومية للمجتمعات ، واعتبار " الآخر المختلف " دينياً أو مذهبياً أو قومياً ، عدواً لله والدين ، جميع هذه المظاهر التي تشكل جزءً من آيديولوجيا الأُصولية الإسلامية ومخيلة الحركات الشعبوية القومية و( النيو – أُممية) المتمثلة في الشافيزية الفنزويلية و النجادية الإيرانية ، هي حلقات جديدة شبيهة بدائرة فيينا ولو مشتتة .
يمكن القول بأن هناك " أبراهامية " جديدة في فن الخطابة المندرج في سياق ثقافة الإستعداء التي طالما اعتمدت منهج " التعليم الأسود " ، أي المصارعة بين الأب والإبن حتى الموت من أجل تعليم الإبن . وهذا الشكل التعليمي الذي كان سائداً في فنون الفروسية الغربية حتى عصور متأخرة ، أصبح اليوم آيديولوجيا مؤَسسة في ثقافة الشعوبيين والقوميين والمتطرفين الإسلاميين . فتصنيف الغرب بأعداء الإسلام ووصم العلمانيين والليبراليين أو المختلفين مذهبياً وقومياً بالمشركين والروافض والكفرة وأعداء الأُمة والدين أيضاً ، إنما يشير إلى مقدمات خطيرة في تاريخ المجتمعات الإسلامية وقد يؤدي إلى ظهور "فاشيات " محلية عنيفة .
لقد بدت الفاشيات الاوروبية ، بالإضافة إلى مصادرها الدينية والقومية ، وجهاً من وجوه الحداثة حيث وفرت آليات تركز السلطة وصناعة الكاريزما والجماهيرية المجيشة في خدمة الشمولية ، ولا ننسى في جميع الأحوال وقوف دائرة فيينا ضد الحداثة . لكن الذي يحدث الآن في العالم الإسلامي والعوالم المسماة بالثالثية ، هو خليط من جميع المصادر العنفية للثقافة والآيديولوجيا ، كـالـ " إبن تيمية " والتعليم الأسود والأبراهامية والفاشية والنازية الحديثتين . فظاهرة تعليم الشباب والفتيان على فعل الإنتحار ووضعهم في دائرة لاشيئية العالم أمام الموت لا يرتبط في وجوهه الكثيرة، والغارقة في آيديولوجيا " التعليم" السوداء ، بالإندفاع القومي الياباني الذي عانق الهزيمة بعد الحرب العالمية الثانية بعدما لم تؤد " الكاميكازية " سوى إلى توسيع دائرة الوحل القومي . بل هو محاولة لوصف الذات على خارطة كالحة يمكن تسميتها بدائرة الموت ، ذلك انها وتماشياً مع المخيلة الجماعية التي تمثلها الآيدولوجيا ذاتها ، ظاهرة إستيلادية لفعل تطبيع الإفناء مع المظاهر اليومية للحياة . وتختلق بغية تكريس الهدف ذاك في الذاكرة الجماعية لجماهيرها ، صور تمس " القدسّي " أو المناطق الداخلية " المحرمة " في ثقافتها كالدين والجنس والشرف
. والأكثر إنتشاراً بين المفردات التعبيرية المستخدمة في العالم الإسلامي هو " مقدسات الأُمة " التي تحتوي مفهومياً على جميع المحرمات التي لا تخلو من طوطمية بدائية نوعاً ما . فمفهوم الإحتلال مثلاً ، لا يأخذ بعداً سياسياً ولا تتمخض عنه المقاومة بالتالي وفق قيم ثقافية وحضارية ، بل هو (أي الإحتلال ) تنجيس للأرض ومقدسات الأُمة ، ذلك ان المحتل ليس مسلماً . وفي هذا تحريض للمخيلة الجماعية " الشعبية " التي طالما احتلت العناصر القدسية ذاتها مساحة واسعة من وعيها.
من هنا ، يتولد رد الفعل وفقاً لمفهوم القدسي وليس السياسي ، ولذلك نرى العنف هو الوجه الغالب على جميع مظاهر المقاومة في العالم الإسلامي والعربي . وتولدت إنسجاماً مع القدسي ذاته ، إستراتيجات متنوعة في نظام التسمية والرموز مثل الإستكبار ، أعداء الإسلام ، أعداء الأمة ، النجس ، المغتصب ، منتهك الحرمات ....إلخ . تجدر الإشارة هنا ان إستراتيجية التسمية هذه ، لا تنحصر في دائرة " الآخر " الغربي أو الإسرائيلي ، بل تشمل جماعات أُخرى تنتمي للعالم الإسلامي ثقافياً وحضارياً ، لكنها تختلف مع التيار الأكثر تطرفاً وشعوبياً وهو التيار الوهابي . فوصف الشيعة مثلاً بالصفويين أو الروافض هو بشكل واضح رسم دائرة " النعت " بهم كما تقتضي الآيديولوجيا الكالحة التي أشرنا إليها . وهكذا بالنسبة للمجموعات الأُخرى التي طالما اختلفت عن " الأُصولية البان - إسلامية " مذهبياً أو قومياً أو عرقياً
تعليقات