خالـد سليمـان
كان حرف (ن) الذي وضعه تنظيم "داعش" على منازل المسيحيين في الموصل ما بعد 10 حزيران 2014، إعلاناً عن موت مستقدَم للأقليات الدينية والعرقية قبل موت الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، ذاك أن القسوة التي مارسها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام في مدينة الرقة ومدن سورية أخرى، ضد الأقليات، المسيحيين تحديداً، كانت الصورة الوحيدة عن التنظيم الذي ابتكر فنتازياه الخاصة في القتل والتنكيل والقسوة.
تالياً، لم تختلف الصورة المرسومة لداعش في أذهان الناس عما تناقلتها وسائل الإعلام، إذ اتخذت بعد سيطرتها على الموصل قرارات قاسية ضد الاقليات الدينية، أولها وضع حرف (النون) على بيوت وعقارات عائدة للمسيحيين، وتلتها القرارات الأكثر قسوة وهي التخيير بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو الموت. ولهذا الحرف الذي رسمه المحتلون الداعشيون على جدران المنازل، إذ يستعيد للأذهان تعبير النصارى، تفسير واحد لا أكثر وهو تجريد المسيحيين، ليس من تاريخهم وبيوتهم وحرياتهم فحسب أو دفع ما يملكون من النقود إلى (خلافة البغدادي)، بل من حقهم في الحياة.
يشير الصحافي والباحث المتخصص في قضايا الأقليات في جامعة دهوك في إقليم كُردستان خضر دوملي إلى بيان أصدرته داعش قبل تلك الخيارات الظالمة "يحرّم فيه على المسلمين دفع إيجارات الأملاك والعقارات التي يمتلكها المسيحيون والإيزيديون والشبك"، كما تم حرمان الموظفين الحكوميين منهم من صرف الرواتب ومنح الحصص التموينية.
ويضيف دوملي إلى خلو مركز مدينة الموصل للمرة الأولى في التاريخ من المسيحيين والأقليات الأخرى وخطف راهبتين وثلاثة يتامى وتدمير جزئي لثلاث كنائس ومنزلين للمطرانية الكلدانية والسريانية وترحيل آلاف المسيحيين، ناهيك عن السطو على الكنائس ونهب ممتلكاتها ووضع أعلام "الدولة الإسلامية" السوداء عليها.
لقد ترك وفق وسائل الإعلام المحلية 6 آلاف مسيحي بيوتهم في الموصل التي تتميز بكنائسها الكثيرة (16 كنيسة) والتجأوا إلى الأقضية والنواحي التابعة للمحافظة، وهي مناطق خاضعة لسيطرة قوات البيشمركة الكُردية وتدخل ضمن الشريط المتنازع عليه والمادة 140 من الدستور العراقي، فيما التجأ قسم منهم إلى مدن إقليم كُردستان مثل أربيل ودهوك والبلدات التابعة لهما.
يتواجد المسيحيون في العراق في غالبية المدن والمحافظات، إنما يتركز وجودهم السكاني في العاصمة بغداد وسهل نينوى بالإضافة إلى البصرة والعمارة والحلة وبعقوبة والحبانية وكركوك. كما يتواجدون في مدن إقليم كُردستان ويتركز وجودهم في مركز محافظة أربيل (عنكاوة) والبلدات والقصبات التابعة لذات المحافظة مثل ديانا وشقلاوة. وكان عدد السكان المسيحيين في العراق في الإحصاء السكاني العام في البلاد عام 1987 مليوناً وأربعمائة نسمة وازداد هذا العدد عام 2003 ووصل إلى مليون ونصف مليون.
منذ سقوط نظام صدام حسين ودخول البلاد في دوامة عنف طائفي، وهيمنة الميليشيات الدينية على الحياة اليومية في العاصمة والمدن، والقتل على الهوية، يتعرض المسيحيون لتهديد وتهجير غير مسبوقين في تاريخ العراق.
ويشير المهتمون بقضايا حقوق الإنسان إلى أن تاريخ الأقليات الدينية في العراق، المسيحيون تحديداً، لم يشهد مثل هذا العنف والتهجير منذ موجات العنف الخطيرة التي تعرضوا لها عام 1916-1917 أثناء الحكم العثماني. وقد تقلّص عددهم عام 2010 إلى 500000 شخص حسب إحصائيات نشرتها وسائل الإعلام العالمية. وفي عام 2013 تتحدث إحصائيات أخرى عن أنّ العدد 450,000 شخص تقلص إلى (30000-40000) شخص هذا العام (2014) وفق معلومات نشرتها الصحافة الفرنسية مؤخراً.
كانت عودة مكونات المجتمع العراقي بعد 2003 إلى التقوقع في حضن الطائفة والمذهب والعشيرة في ظل دوامة العنف الطائفي بعد 2003 ملمحاً من ملامح المرحلة الجديدة التي تميزت بها البلاد، إنما للطوائف الدينية الصغيرة وضع آخر إذ لا تعتمد سوى على روابطها وبيئاتها الإجتماعية والدينية المحدودة. تشير (مروة) وهي ناشطة مدنية في الجنوب العراقي، إلى ان الصراعات والنزاعات الطائفية والقبلية والفوضى التي حدثت بعد 2003 أثرت بشكل كبير على حياة جميع المواطنين، إنما أحدثت تغييراً أثنو-غرافياً بين المسيحيين، وذلك برأيها، "ان معظم الناس في الجنوب يعتمدون الروابط العشائرية لحماية أنفسهم وإيجاد الحلول لمشاكلهم، بينما يفتقر المسيحيون لتلك الروابط، ناهيك عن هيمنة بعض تيارات متطرفة تنتهك حرمة الأديان وتساهم بشكل كبير في هجرة المسيحيين خارج البلاد".
في مدن جنوب العراق ومنها مدينة كبيرة مثل البصرة وهي ثالث كبرى المدن العراقية التي يقطنها المسيحيون، تقلص عدد الطوائف المسيحية المختلفة من الكلدان والسريان والأرمن حسب الممثل البطريركي في البصرة والعمارة والخليج العربي (الخوري اسقف-عماد يلدا اقليمس) من 2003 إلى 2014 من 1500 عائلة إلى 337 عائلة.
وتصف إحدى الناشطات في مجال حقوق الإنسان وهي من ولادة البصرة، فترة الخمسينات "بالعصر الذهبي" وذلك بسبب "الإزدهار والتآخي والحرية لكل الديانات والمذاهب وممارسة الطقوس الدينية بكل حرية" كما تقول. وتشير في حديثها إلى وجود ٦ كنائس لمختلف الطوائف المسيحية في مدينة البصرة حيث كانت تشكل جزءاً من التراث المعماري للمدينة وعراقتها.
قصارى القول، يتعرض المسيحيون وسائر الأقليات الدينية والعرقية الأخرى في العراق إلى ظلم تاريخي كبير تمثل في الإستيلاء على الممتلكات والعقارات والتهديد واستلاب الحريات الدينية والإجتماعية من قبل ميليشيات دينية (سنية وشيعية) على حد سواء، إنما داعش فاستنجد بمخيلة "عظيمة" في قدرته على الإفناء.
Source:
تعليقات