تمشي تركيا في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين على خطى باكستان في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. تميزت بدايات الثمانينات من القرن المنصرم بهجرة أنصار الحركات الإسلامية المتطرفة في العالم العربي إلى باكستان، وكان في جيب كل واحد منهم كتاب (السيد قطب) المشهور «معالم في الطريق» وكانت الأسماء البارزة منهم تحسب، على الأغلب، على قائمة قيادات «الإخوان المسلمين». وفي أواسط العقد الثاني من القرن ٢١، يتجه أنصار السلفية الجهادية من أوروبا والبلدان العربية والآسيوية إلى تركيا بغية الوصول إلى سورية والعراق، وفي جيب كل واحد منهم صورة واضحة للقسوة التي يمارسها «داعش» أو «النصرة». لقد خططت دول عربية لتخفيف الثقل عن كاهل الاستبداد من خلال إبعاد «ابن ضال» عن مدنها المكتظة بالفقر والتخلف وإرساله إلى جبال أفغانستان مروراً بباكستان. اليوم أيضاً، ترسم الدول ذاتها صورة تجميع الجهاديين في سورية مروراً بتركيا.
يرحب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالقيادات البارزة من جماعة «الإخوان المسلمين» المصرية المحظورة بعدما طلبت منهم قطر مغادرة أراضيها بسبب ضغط الدول الخليجية. ونقلت محطات تلفزيونية تركية الاثنين 15 أيلول (سبتمبر) عن أردوغان قوله للصحافيين على متن طائرته أثناء عودته من زيارة رسمية لقطر «إن الشخصيات الإخوانية البارزة ستكون موضع ترحيب في تركيا إذا رغبت في المجيء». وكانت جماعة «الإخوان المسلمين» المصرية أعلنت الجمعة 12 أيلول أن دولة قطر طالبت 7 أفراد من الجماعة بمغادرة البلاد خلال أسبوع. ولكنّ هناك رأياً آخر يقول إن فتح أبواب تركيا لقيادات «الإخوان» يدخل ضمن اتفاق مبرم بين قطر وتركيا.
جاءت هذه الخطوة التركية في وقت عبرت فيه شخصيات في أحزاب المعارضة السياسية عن مخاوفها من وجود خلايا نائمة لـ «داعش» والجهاديين في البلاد، وذلك بسبب سياسة حزب العدالة والتنمية حيال المنظمات الإسلامية الجهادية، إذ فتحت باب البلاد على مصراعيه أمامهم بغية إرسالهم إلى سورية منذ اندلاع «الثورة السورية» في ربيع ٢٠١١. وقد سمحت الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان منذ عام ٢٠١٢ لمئات من عناصر تنظيم «القاعدة» بدخول الأراضي السورية لقتال نظام بشار الأسد وفق تقرير نشره مركز (القضايا المركزية) الإسرائيلي بتاريخ ٧/٧/٢٠١٢. وأكد الموقع أن لديه معلومات تفيد بدخول 600 من عناصر «القاعدة» إلى سورية في الأسبوع من الأول من شهر تموز (يوليو) من ذلك العام وبمعرفة خاصة من رجب طيب أردوغان. وأوضح الموقع أن الحديث يدور عن عناصر «القاعدة» الذين شاركوا تحت راية الحلف الأطلسي في إطاحة نظام معمر القذافي، وكان بعضهم معتقلاً في سجن غوانتانامو قبل أن تفرج عنهم السلطات الأميركية وتنقلهم إلى ليبيا لهذا الغرض.
ويستمر تدفق المقاتلين الأجانب منذ ٢٠١٢ إلى سورية والعراق من خلال تركيا، فيما كان يتم التدفق ذاته في الفترة الواقعة بين ٢٠٠٣ - ٢٠٠٩ من سورية إلى العراق، إنما غيرت أحداث «الربيع العربي» وجهة الجهادية السلفية بعدما وقفت حكومة نوري المالكي إلى جانب النظام السوري عام ٢٠١١. وما لبثت أن فتحت تركيا أبوابها ومعابرها للجهادية السلفية، وبدا أن هناك حواضن اجتماعية ودينية في المدن التركية للمقاتلين الأجانب، حيث توجه عدد كبير من المواطنين الأتراك إلى سورية والعراق للقتال في صفوف «القاعدة» و «داعش». وفي تقرير نشرته في ١٦/٩/٢٠١٤ في عنوان (تدفق العناصر المقاتلين من تركيا على داعش) أشارت صحيفة «نيوورك تايمز» إلى ما يقارب ألف تركي انضموا إلى تنظيم «الدولة الإسلامية».
قصة مقاتل تركي
وذكرت الصحيفة في تقريرها الذي احتوى على قصة شاب يسمى جان (٢٧ عاماً) أخذ إلى سورية مع 10 آخرين من رفاقه وألحق بمقاتلي «داعش» بعد تدريب استغرق 15 يوماً، إلى أن تركيا هي واحدة من أكبر مصادر المقاتلين الأجانب لهذا التنظيم المتطرف. وأشار كاتب التقرير اعتماداً على رواية (جان) إلى حي «حاجي بايرام» في أنقرة، والذي تحول إلى مركز تجمع لعناصر «داعش» .
إن نمَّ هذا الواقع الجديد في تركيا عن شيء، فعن تكرار تجربة الجهاديين العرب في باكستان، إذ كانت معبراً رئيسياً إن لم يكن وحيداً للتوجه إلى أفغانستان. كانت مدن كراتشي وبيشاور وإسلام آباد تستقبل أعداداً كبيرة من جهاديين فلسطينيين ومغاربة وخليجيين في ثمانينات القرن المنصرم، فيما كان الجهادي الفلسطيني عبدالله العزام منظراً وعرّاباً لهؤلاء الشباب - عرفوا فيما بعد بالأفغان العرب - للتوجه إلى باكستان ومن ثم إلى أفغانستان. ما حدث على المستوى الاجتماعي للعرب الذين استقرّت بهم فكرة الجهاد في باكستان وأفغانستان، هو أن كثراً منهم انتقلوا مع عائلاتهم، وأصبحوا جزءاً من المشهد الثقافي والاقتصادي والسياسي للمجتمعات المحلية هناك. فتح عزام في البداية مضافة للمقبلين من الخليج والأردن وبلدان شمال أفريقيا، ولم يمر وقت طويل حتى تطورت فكرة المضافة إلى «مكتب خدمات» تتكفل استقبال الجهاديين المقبلين وتنظيمهم وتوزيعهم بين باكستان وأفغانستان.
ما لوحظ في المشهد الديني والسياسي الباكستاني بعد تلك الهجرة «الجهادية» التي كانت لدوائر استخبارات إقليمية ودولية ومحلية (باكستانية) اليد الطولى فيها، هو ازدياد عدد المدارس الدينية في البلاد، إذ كان عددها ٢٠٥٦ مدرسة عام ١٩٨٠. وقد بدأ العدد بالتضاعف عاماً بعد عام، ووصل إلى ما يقارب ١٢ ألف مدرسة عام ٢٠٠٥، وفق إحصاءات رسمية باكستانية. الملفت في هذا الشأن هو ان الازدياد الملحوظ يحدث في فترة يسميها الإسلاميون بالصحوة، وهي فترة عولمة السفلية الجهادية، وكانت باكستان مركزها ومعبرها إلى جبال أفغانستان.
ما يحدث اليوم في تركيا لا يختلف كثيراً عن ثمانينات باكستان، إذ تحولت من معبر للسلفية الجهادية إلى مكان لها، تحديداً في المدن والبلدات والقرى الواقعة على الحدود التركية - السورية. تالياً، لا يأتي خوف معارضي رجب طيب أردوغان من الفراغ واللهو، بل من واقع تشير معطياته إلى وجود خلايا نائمة لـ «داعش» في تركيا، ناهيك عن أعداد كبيرة من المواطنين الأتراك في صفوف «داعش» في العراق وسورية. لا يجلس الجهاديون في عتمة الغرف ولا يبقون منتظرين في المعابر الحدودية بغية الوصول إلى الأراضي العراقية والسورية، بل يتحركون في المساحات التي يوجدون فيها وفق المصالح والمخيلة ودعاوى الجهاد، ولا يمكن نسيان الحاضنات الدينية والاجتماعية بطبيعة الحال.
ويمكننا الإشارة في هذا الســياق إلى معلومات كشف عنها النائب المعارض عن مدينة أورفة أحمد علي أديب أغلو لصحيفة (لوفيغارو) الفرنسية في ١٢/٩/٢٠١٤، حــيث أشــار إلى وجود المجموعات الجهادية في منطقته وسهولة عبورها إلى سورية، وتأسيس حاضنات لتلك المجموعات كما في «حاجي بايرام» في العاصمة التركية أنقرة.
مصدر النشر: صحيفة الحياة اللندنية
http://alhayat.com/Articles/4722883/تركيا-على-خطى-باكستان--من-معبر-لـ--المجاهدين--إلى-مستقرٍ-لهم
تعليقات