رجل وامرأة من ذوي البشرة السمراء في العقد الخامس من العمر، تزوجا عند رجل دين في قضاء الزبير التي يسكنها عدد كبير من «السُمر» في البصرة قبل أكثر من ثلاثين عاماً وبقيا على ذلك العقد الشفهي على رغم إنجابهما خمسة أولاد. كبر الأولاد وتزوج الابن البكر (باسم) وخلف ولدان، إنما لا أحد في العائلة لديه الأوراق الثبوتية مثل هوية الأحوال المدنية وشهادة الجنسية العراقية حتى عام ٢٠١٢. تالياً، لم يذهب خلال الفترة التي سبقت هذا التاريخ أحد من العائلة إلى المدرسة وبقي أفرادها ضمن مساحات اجتماعية لا تتجاوز الأزقة وفضاءات البيوت الضيقة وورشات أعمال يدوية.
ليست هذه القصة استثنائية وغريبة عن السكان «السُمر» فــــي البصـــرة وضواحيها، فهناك الكثير مثل هذه الـحـــالات التي بدأت منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية أخيراً تبحث عن إيجاد حلول لها، وتهتـــم بالنتائج السلبية المترتبة مثل الفقر والعنف والتهــميش وفق رئيس «جمعية أنصار الحرية» صلاح رُخَيض، وهي منظمة مدنية من أجل بناء القدرات الذاتـــية فــي المــجتمع الأسمر بمحافظة البصرة في مجـــالات الخــــياطة والحاسوب ومحو الأُمية، وذلك من أجل الحصول على فرص العمل ونشر الوعي الاجتـــماعي والمدني والتنمية البشرية بين الشباب.
وتتميز المناطق التي يسكنها «السُمر» في الجنوب العراقي بالتهميش الاقتصادي والتعليمي، والسياسي بطبيعة الحال. على رغم التعليم الإلزامي في العراق لم يبالِ نظام صدام حسين بالسكان «السُمر» في البصرة، إنما صنع من واقع الأمية بينهم حضوراً دائماً لهم على مسارح الغناء والرقص الشعبي والفضاءات العامة، ذاك أن القادة البعثيين لم يحتاجوا خلال حكمهم إلى الكلام بقدر احتياجهم إلى حضور جسد يخدره صوت الطبل. لقد مارسوا السياسة وفق مثل شعبي طالما سمع بين أهل البصرة، سكانها «السُُر» تحديداً: «على حسّ الطبل هزّن يا رجليَّ».
ليست هناك إحصاءات دقيقة لسكان البصرة «السُمر» الذين يتوزعون بين البصرة والزبير وأبي الخصيب ومناطق أخرى، هناك من يقول إنهم يشكلون (٥ إلى ٦ في المئة) من سكان العراق، في حين يقول آخرون إن النسبة لا تتجاوز (٢ إلى ٣ في المئة)، أي بين ٣٥٠ ألف إلى ٤٠٠ ألف شخص حسب الناشطين والأكاديميين الذين التقيت بهم. ولكن في ظل الافتقار إلى إحصاءات دقيقة بسبب الأمية واعتماد العقود الشفهية للزواج بعيداً من المحاكم المدنية وعدم تسجيل الأطفال في المدارس، تبقى هذه النسبة السكانية محل شك الكثير من الهيئات والمنظمات المهتمة بشؤونهم وحقوقهم المدنية في العراق.
يتعرض «السُمر» في البصرة ومحيطها إلى أنواع كثيرة من التمييز العنصري، والنوع الأكثر شيوعاً كما يشير الناشطون، هو تهميشهم في المؤسسات الحكومية، في المحاكم، ومؤسسات الأمن الداخلي والمؤسسات التعليمية والصحية. وقد لا يستغرب المرء ذلك كثيراً، فنسبة الأمية عالية بينهم وتتجاوز ٢٥ في المئة وفق الناشط صلاح رخَيص. هناك ممارسات أخرى من التمييز العنصري بسبب لون البشرة، حيث يلاحظ كثيراً أن يقال للإنسان الأسود بـ «العبد» على رغم منع العبودية في الدستور العراقي منذ عام ١٩٢٤، وقد شاع حتى بين «السُمر» أنفسهم أن يقال «أبو العبد».
لسكان البصرة «السُمر» طقوس واحتفالات فنية خاصة بهم ورثوها تاريخياً منذ قدومهم إلى العراق في زمن الخليفة العباسي جعفر المتوكل عام (٨٦٠ م)، مثل طقس (الزيران) إذ يتميز بالرقص والغناء يمارسونها في هذه الأيام في أماكن خاصة بعيدة عن عيون العامة، ذلك بسبب منعه من قبل السلطات العراقية. ولم يتردد بعض الأصوليين بالاعتداء على الفرق الفنية الخاصة بهم، ويتذكر البصريون حادث الاعتداء الأبرز عام ٢٠٠٦، إذ رميت قنبلة يدوية على سيارة كانت تقل فرقة فنية للفتيات وقتلن جميعاً (عددهن ٨) في ذلك الحادث.
لقد حــــاول الناشط والسياسي البصري جلال ذياب (١٩٦٣ - ٢٠١٣) بعد سقوط نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣، إجراء تغيير في الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي بين السكان «السُمر»، وذلك من خلال الحصـول على الاعتراف بهم كأقليـــة بين الأقليات الأخــــرى وتثبيت حقوقها المـــدنية والسياسية. والتجأ ذياب من أجل ذلك إلى الأوساط الدولية، الأميركية والأوروبية، فاصطدم بجدار محلي سميك يصـــعب اختراقه.
جلال ذياب |
واستطاع تأسيس «حركة العراقيين الأحــرار» عام ٢٠٠٧، وبــناء علاقات دولية واسعة من أجـــل الحصول علـــى الاعتـــراف بالأقلية السمراء في البصـــرة، إنما تـــم اغتياله بتاريخ ٢٦/٤/٢٠١٣ داخل مدينته وأصبح مشروع حلم الحصول على هوية الأقلية بالنسبة لـ «السُمر» حلماً مؤجلاً جداً.
هناك مفارقة غريبة في ما خص ذوي البشرة السوداء في البصرة تتمثل بحضور ملحوظ لهم في مجال الرياضة، وقد حصل لاعبون ولاعبات منهم على جوائز محلية ودولية في جميع المجالات الرياضية، كما يلحظ حضورهم في مجالات فنية مثل الرقص والموسيقى الشعبية حيث تتوزع ورشات لصناعة الآلات الموسيقية وأماكن إقامة الاحتفالات في البصرة القديمة.
يشكو رئيس جمعية التراث للثقافة والفنون إبراهيم الرشيد من ضيق المجال الفني في البصرة والعراق في شكل عام، ولم يعد هناك فضاء حرّ لعمل الفرق الموسيقية والفنون الشعبية وتنمية القدرات الفنية والثقافية، ليس بين شباب المجتمع الأسمر فحسب، بل بين جميع الشباب في المجتمع البصري.
كما يشكو صاحب محل للآلات الموسيقية وإقامة الحفلات، التقيته في المدينة القديمة حيث الشناشيل والأشكال الفنية للعمارة البَصرية، من قلة الحفلات في المدينة بسبب ازدياد ظاهرة التدين وإغلاق الكثير من صالات العروض والاحتفالات والنوادي الاجتماعية، «حتى شراء الآلات الموسيقية الشعبية التي كانت تميز الحياة البصرية سابقاً، تراجع ولم يعد هناك من يهتم بما نصنعه» يقول صاحب المحل.
على رغم أن «السُمر» في البصرة لهم حضور مرئي سكانياً وتاريخياً، إلا أنهم يفتقرون إلى حضور ملحوظ في المؤسسات التعليمية، وفي شكل خاص في الجامعات والمعاهد حيث لا يتجاوز عدد الطلاب في معهد الفنون الجميلة في المدينة، وهو من المعاهد القديمة في العراق، العشرة.
وفي مقهى الأدباء في مركز المدينة يلاحظ الشاعر أكرم الأمير غياب أعضاء المجتمع الأسمر حتى في الأدب والصحافة باستثناء أسماء معدودة. ويقول ناشط لا يريد ذكر اسمه، «إن الحكم الجديد في العراق ينتقم من «السُمر» بحجة أنهم كانوا مع نظام صدام حسين»، ولكن كما يشير الناشط ذاته كان «السُمر» مرئيين على المسارح وفي الحفلات وواجهات الدعاية السياسية في عهد الديكتاتور العراقي السابق، فيما كانوا الضحايا اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.
ما يثير انتباه المتابعين وناشطي المجتمع المدني بين المناطق التي يسكنها «السُمر» في هذه المحافظة الجنوبية هو انتشار العنف الأسري وازدياد نسبة الطلاق في الأسر البصرية السمراء. ويرجع صلاح رُخَيص سبب ذلك إلى الأمية من جانب والفقر والبطالة من جانب آخر. ويشير رُخَيص في السياق ذاته إلى مشكلة كبيرة تواجه «السُمر» في المناطق التي يسكنونها وهي مشكلة السكن والبناء الارتجالي (العشوائي) قائلاً: «هناك عدد كبير من العائلات مهدد بالطرد من بيوت اُرتجلت وتفتقر إلى إجازة البناء والأوراق الرسمية». ولا يرجع رُخَيص جميع الأسباب المتعلقة بتهميش ذوي البشرة السوداء في الجنوب العراقي إلى شكل واحد من التمييز العنصري ويشير إلى ضعف تاريخي في شخصية الأسمر قائلاً: «يخاف الأسود الوجود في المحاكم ودوائر الحكومة، إنه خائف من مواجهة العالم حوله».
تعليقات