Follow @ksulaiman
مرة أخرى، أصبح أقليم البصرة عنواناً بارزاً من عناوين المشهد السياسي في العراق.
حين طرح مشروع إقليم البصرة للمرة الأولى، كانت اليد الطولى في المحافظة ومركزها للميليشيات الدينية، وكان البصريون ينتظرون من يأتي من المركز لتخليصهم من سطوة ميليشيات مسلحة التصقت صورتها بمخيلة البصريين ولا يريد أحد ذكرها. جاءت حملة «صولة الفرسان» العسكرية بقيادة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، في الفترة ذاتها التي أراد فيها حزب الفضيلة والحركة الصدرية جعل البصرة إقليماً، ليس للجم المسلحين فحسب، بل لفرض صورة المركز وقدرته على حسم أزمة الانفلات الأمني والعسكري في تلك الفترة لصالح قرار بغداد.
وفي نهاية ٢٠١٤، إذ ضعف نفوذ «مختار العصر» في بغداد بتسلم منافسه في «الدعوة» حيدر العبادي رئاسة الحكومة، تنضم قيادات قائمة دولة القانون إلى الأصوات المطالبة بجعل البصرة إقليماً، فيما كانت تقف القيادات ذاتها عام ٢٠٠٨ ضد فكرة الإقليم، والسبب برأيي أستاذ جامعي لم يرد ذكر اسمه، هو أن المالكي خسر معركته السياسية في بغداد فعاد إلى تحريك مشروع الإقليم، فيما هو (نوري المالكي) ذاته السبب الرئيس فيما خص تراجع الخدمات وإعادة إعمار البنى التحتية في البصرة. ولو منحت حكومة «دولة القانون» جزءاً قليلا من صلاحيات قانون مجالس المحافظات للبصرة وغيرها من المحافظات، لما ظهرت مسألة الإقليم ثانية. ويرى الأكاديمي ذاته، بأن البصرة إذا أصبحت إقليماً، فسنعود معها إلى مربع الميلشيات، ذاك أن السبب الرئيسي لهذا المشروع برأيه هو البحث عن النفوذ والرغبة في الهيمنة على المحافظة الغنية بالموارد الطبيعية، والميليشيات هي السلاح الأقوى لتحقيق مثل هذا الحلم. ومن يربح البصرة برأيه، يفرض قراره في بغداد أيضاً، ناهيك عن تقاسم الفساد ونهب المال العام.
ولكن لماذا يظهر مشروع الإقليم الجنوبي مرة أخرى بعدما توقف في المرة الأولى في بداية الطريق، لماذا لم يتحمس له المواطنون عام ٢٠٠٨، فيما يلاحظ هذه المرة حشد شعبي لا يستهان بتأثيره على تغيير العلاقة بين بغداد والبصرة؟ وهل جاءت زيارة رئيس الوزراء حيدر العبادي الأخيرة إلى البصرة كتلويح لتقويض مشروع الإقليم وتحويله تالياً إلى رزمة من الصلاحيات؟
الكاتب والصحافي محمد سنيطي يرى بأن طرح إقليم البصرة جاء موازياً للاتفاق الذي أبرم بين بغداد وحكومة إقليم كُردستان ومنح الثاني مستحقاته المالية التي استقطعت أثناء عام ٢٠١٣ بقرار من نوري المالكي. ويرى سنيطي في هذا التزامن سبباً لعدد من ساسة البصرة لطرح إقليم جنوبي تمت مخاطبة مشاعر الناس حوله قبل مقوماته، وذلك من خلال نشر علم الإقليم بألوانه ورموزه حيث المياه الزرقاء والنفط والصناعة والزراعة.
أراد مهندسو الإقليم مخاطبة مشاعر الناس قبل عقولهم ذلك لأنهم يفتقدون إلى أسباب وسمات عرقية وقومية للمطالبة بإقليم شبيه بإقليم كُردستان، فلجأوا إلى الألوان والرموز، إنما هناك في الكواليس الخلفية، وفق رأي الكاتب، بحث عن النفوذ. لقد أرادوا القول للناس: نحن لم نستلم مستحقاتنا لأننا لسنا إقليماً، فيما استلم كُردستان مستحقاته لأنه إقليم.
ويضيف سنيطي أن البصرة لو تسلمت مستحقاتها من الدولة منذ عام ٢٠٠٨، لتلاشت المطالبات بتأسيس إقليم جنوبي. وينهي أحمد سنيطي كلامه بأن « فكرة الإقليم ليست إلاّ للمطالبة بصلاحيات أكثر، ونفوذ أكثر، انه لا يشبه إقليم كُردستان الذي يتميز بخصوصيات قومية وثقافية وجغرافية أيضاً».
في السياق ذاته، يرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة البصرة محمد عطوان، أن هناك توجيهاً مُسَيَّساً لمطالب أهل البصرة الخدمية والاقتصادية، وذلك من خلال رفع شعار إقليم لا يتميز بخصوصيات قومية وثقافية. هناك برأي عطوان «أطماع سياسية تقف وراءها زيادة الصلاحيات، والهيمنة على الثروات الموجودة في المدينة، ذاك أنها تساعد ساسة البصرة في تحقيق طموحاتهم السياسية والمالية. ويرى عطوان أنه لو تم تطبيق قانون مجالس المحافظات الذي تم إقراره بعد عام ٢٠٠٣، لما طالب أحد بإقليم في جنوب العراق، ذاك أن القانون برأيه، يحل الكثير من المشكلات بين المركز والمحافظات.
من الشخصيات السياسية التي تعمل وتحشد الرأي في المحافظة: عضو مجلس النواب السابق وائل عبد اللطيف ورئيس مجلس المحافظة صباح بزوني والسياسي محمد الطائي. وقد قام رئيس مجلس المحافظة في أواسط الشهر الماضي بنشاطات سياسية واجتماعية واسعة بغية تعبئة الرأي العام والحصول على ٢٪ من تواقيع المواطنين في المحافظة، ذاك أن هذه النسبة تسمح لرفع قائمة الموقعين إلى المفوضية العليا للانتخابات وإعادتها مرة أخرى لمجلس المحافظة ، مذيلة بطلب زيادة نسبة الموقعين إلى ١٠٪. وفي حال حصول المطالبين بالإقليم على هذه النسبة، تقوم المفوضية العليا بالإجراءات الدستورية لتنظيم استفتاء عام في المحافظة من أجل الإقليم .
هناك إجراء دستوري آخر لتأسيس الإقليم الجنوبي، وهو قيام ثلث أعضاء مجلس المحافظة بتوقيع مذكرة لتأسيس الإقليم ورفعها لمجلس الوزاء، إنما بسبب الخلافات بين الأحزاب الشيعية الحاكمة في المحافظة وعدم ضمان الحصول على ثلث الأصوات، لم يلجأ المجلس لهذا الإجراء، خصوصاً أنه ليس هناك رأي واضح من قبل المرجعيات الشيعية حول الإقليم.
يذكر أن المجلس الأعلى الإسلامي بقيادة عمار الحكيم يرى أن الوقت ليس مناسباً لإعلان البصرة إقليماً، فيما اختار حزب الفضيلة الصمت ولم يعلن موقفاً واضحاً. في المقابل ترى قائمة دولة القانون والحركة الصدرية أن الوقت مناسب لإعلان الإقليم. وقد تعرض المجلس الأعلى الإسلامي الذي يحتل أحد قيادييه منصب المحافظ، إلى انتقادات كثيرة بسبب موقفه الذي تدعمه المرجعية العليا للشيعة ضمناً، فقد سرّبت الدوائر المحطية بالسيد علي السيستاني معلومات مفادها أن المرجعية تساند جميع المطالب التي يضمنها الدستور، إنما الوقت لتأسيس إقليم البصرة ليس مناسباً.
لا يعرف المواطن البصري عن الإقليم المفترض سوى الخدمات وتحسن الأوضاع المعيشية في «فينيسيا الشرق» كما يصفونها. ليست هناك أبعاد سياسية أو خصوصيات عرقية، قومية وثقافية تتميز بها البصرة في أحاديثهم. سألت سائق تاكسي نقلني من المطار إلى المدينة عن رأيه بالإقليم وإن كان يؤيده؟ سرد السائق قبل الإجابة عن السؤال حكايات عن كرم أهل البصرة، التي تمنى لها أن تتحول إلى إقليم كي ترجع ثرواتها لسكانها، وكان متفائلاً جداً. لم تمرّ لحظات على تفاؤله حتى عبّر عن تشاؤمه إزاء عودة الخدمات إلى المدينة في ظل سيطرة أحزاب لم تنجز خلال حكمها شيئاً يذكر ، وأشار بيده إلى المطار، «حتى هذا المطار الذي نملكه بني في ثمانينات القرن الماضي، وإلاّ، كنا بقينا بلا مطار الآن». لقد كان صادقاً في تفاؤله، وصادقاً أكثر في تراجعه عن التفاؤل ذاته.
لا يستبعد المراقبون في البصرة أن تمنح حكومة حيدر العبادي محافظة البصرة صلاحيات إدارية واقتصادية أكثر، منها نسبة ٥٪ من من قيمة كل برميل نفط يُستخرج من المحافظة، خصوصاً أن زيارة رئيس الوزراء لمدينة «السياب» (٣٠/١٢/٢٠١٤) جاءت بعدما اشتدت نبرة ساسة البصرة حول تأسيس الإقليم والبدء بتجميع تواقيع المواطنين.
كل هذا السجال وكل هذا التجييش الكلامي عن مستقبل إقليم جنوبي مفترض لا تعرف غالبية المتحمسين له أسباباً غير الخدمات وعائدات النفط، ويتحدث البصريون كثيراً عن مدينتهم حين كانت تتسم بخضرها ونواديها الاجتماعية والثقافية وبيئتها النظيفة وأنهارها الجميلة، وكأن فكرة الإقليم نوع من التعويض عن الأيام الخوالي.
تعليقات