التخطي إلى المحتوى الرئيسي

سيلفيز.. النرجسية والنسيان


خالد سليمان 

في ليلة رأس السنة الجديدة (هذا العام ٢٠١٥) وفي غمرة الاحتفال والرقص وسطوة النبيذ على المكان، كانت هناك شابة في مقتبل عمرها جاءت مع والديها للاحتفال مع الآخرين.
في لحظة تشكلت فيها رقصة دائرية ممزوجة بالدبكة الكُردية التقليدية، استفردت بذاتها في زاوية من قاعة الاحتفال لتبتسم أمام هاتفها الذكي وتصور نفسها وحيدة، مبتسمة، وغائبة بطبيعة الحال، ذاك انها كانت تفكر بـ "سيلفيز"، أي البورتريهات الشخصية وعالم الأنترنيت الافتراضي وليس بواقعها الاحتفالي..

دفع مثل هذا الحدث “الصامت” وغيره في أنحاء العالم القاموس الإنجليزي الشهير أوكسفورد في شهر آب "أوغست" ٢٠١٣ إدخال كلمة سليفي أو سيلفيز ضمن الكلمات والأسماء الجديدة التي يحتويها القاموس كل عام في طبعاته المتجددة. وتعريف "سيلفيز" وفقاً لأوكسفورد هو صورة يلتقطها شخص لنفسه، بجهاز هاتف ذكي أو "ويبكوم" تحديداً وينشرها على مواقع الإعلام الاجتماعي: ويذيل القاموس تعريفه بجملة إضافية مفادها، سيلفيز أو البورتريهات الشخصية مقبولة في المناسبات، ولكن نشر صورة جديدة كل يوم ليس ضرورياً.
لم يكن "سيلفيز" تجديداً في اللغة ولا اكتشافاً، بل كان ظاهرة صورية فرضتها التكنولوجيا المنفلتة في ابتكاريتها، إنما كان في ذات الوقت توق الإنسان إلى (الأنا) الراغبة في الاستفراد بتفاصيل لحظات يسميها البعض بروح الشباب المستبدة، إذ لا يتسع لها الواقع بفضاءاته المتعددة وتذهب لأبعد نقطة استغراب مثل التقاط صور "سيلفيز" في مشهد متسم بعناصر المأساة. لقد أصبحت لحظة "سيلفيز" ان صح التعبير ذات دلالة ليست فردية فحسب، بل استعراضية وفصامية في آن واحد، في الحالة الأولى يحكم منطق "الفرجة" سيطرته على قرارات الشخص، وينسى تالياً، خصائص بيئته، وفيها تواجده بطبيعة الحال. وفي الحالة الثانية ينفصل الفرد عن الكُل وعن ذاته ضمناً، ذاك ان رغبة إعلان وجود "أنا" وحيدة بين حشد أو في مكان عام، تتجاوز فكرة البورتريه الشخصي وتدخل عالم الأنانية المفرطة. 
صور هنا، صور هناك، صور في كل مكان، لنجوم السينما والرياضة والسياسيين، حتى رجال الدين لم ينج من "سيلفيز، ذاك ان الصورة تحيطنا باستعراض للحقيقة، إنما الأكثر تأثيراً من الحقيقة ذاتها. فالاستعراض بالنسبة للمفكر الفرنسي "غي ديبور" ليس مجموعة من الصور، بل انه علاقة اجتماعية محاطة بالإعلام بين الناس من خلال الصور. وقد عبر الفيلسوف الألماني (فويرباخ) في مقدمة كتاب (جوهر المسيحية) عن هذا التوجه في تقديس الصورة قائلاً: ""دون شك، يفضل زمننا الصورة على الشيء، النسخ على الأصلي، التمثيل على الواقع، الظهور على الوجود..المقدس بالنسبة له ليس سوى الوهم، إنما الوثني فهو الحقيقة. المقدس يكبر بعينيه بمقاسات تقلص الحقيقة وتنمي الوهم، حسناً، فالامتلاء بالوهم بالنسبة له هو الامتلاء بالمقدس.". 
من حيث الجوهر يحتل "سيلفيز" محل المرآة لدى الإنسان المعاصر ويكشف عن لحظات كانت تتميز بنوع من السرّية والنرجسية بقيتا في دائرة علاقة المرء بالمرآة. وقد أخرجت التكنولوجيا الحديثة هذه العلاقة الحميمة التي تربط الإنسان بصورته من غرف النوم والاستحمام إلى فضاء استعراضي أبطاله أفراد، إنما في جسد الحشود. ويمكن القول بأن هناك "دبل سيلفيز" ان جاز الاستخدام، فالتقاط صورة شخصية أمام المرآة يظهر فيها الذات المُصَوَرة وجهاز التصوير والمرآة ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي هو نقل رغبة الكشف عما يمكن وصفه بأعالي النرجسية، إذ يعيشها الإنسان المعاصر بمحض إرادته، إنما في ظل هيمنة "المجتمع الاستعراضي".
تالياً، تصوير الذات هو نوع من الانفصال عن المجتمع، الاستغناء عن العلاقة الاجتماعية، انه يعبر بشكل واضح عن سرعة حركة الانفصال الخاص عن العام وجاذبيتها التي لا تحتاج سوى حساب على إنستغرام أو تويتر أو فيسبوك. جميع النظريات الفكرية والفلسفية والنقدية في ما خص المجتمع والتاريخ والسياسة والدين، أصبحت اليوم صور تمحي فكرة "النجومية" أحيانا، ذاك ان ان التكنولوجيا الحديثة اختصرت المسافات بين المجتمع ونجومه، كما فتحت المجال أمام شكل من أشكال "التماهي" الممكنة بينهما. 
كان "الويبكوم" مرحلة متقدمة من التفاعل "المُتكلج" بين الإنسان وذاته، وجاء الهاتف الذكي ليخرج التفاعل ذاته من بين جدران الغرف والمكاتب ليجعل منه فضاءً مفتوحاً، تتحرك فيه الأجهزة الخليوية أمام الجسد، فيما كان "الويب" يتميز بشيء من الثبات أمام الجسد. وقد هيمنت ثقافة الجسد الشبابي على الصورة في عالم الأنترنيت وأصبح جسد الكبار في طي النسيان. 
مارنا كلارك وهي مصورة أمريكية (٧٤) عاماً ترى بأن " ثقافة عبادة الشباب تجهل الكبار في السن وتنسيهم"، ويشكل "سيلفيز" مرحلة متقدمة من هذا التجاهل، يبدو فيه الجسد الشباب في حالة الخلود. صورت مارنا نفسها عارية في زوجها (إغنور) في بيتهما حيناً، وعلى الشواطئ حيناً آخر. وكان الشيء الصادم في صورهما العارية، انهما وصلا مرحلة من العمر لا تسمح لهما بالعري، والسبب برأيها، "ليس لدى الناس الاستعداد كي ترى صورا عارية لجسد عجوز". وللسبب ذاته اخترقت آرنا الصورة النمطية عن الكبار في السن وبدأت بمشروع بورتريهات شخصية وثنائية مع زوجها قبل خمس سنوات حين كانت تناهز من العمر ٧٠ عاماً. وتقول حول مشروعها "أردت أن أرى ماذا يشبه شخص عجوز وبدأت بتصوير جسدي عارياً، القدمين، اليدين، الذراعين، الساقين، الوجه، الشعر، أردت الصور بين يديّ وليس في المرآة.". 
تفتح صور مارنا كلارك الشهية لتمر على ثقافة سائدة تنظر للجسد وفقاً للعمر ولا تعطيه القيمة والأهمية، لذلك تصور بورتريهات عارية جميلة لنفسها، أو أوضاعاً في يومياتها. وتقول جرأتها حين قررت نشر الصور، "جمعت شجاعتي الكافية لإعطاء هذه الصورة لمجموعة مستقاة من الأشخاص الذي يقدّرون عملي. لقد شجعوني بنوع من الارتباك والحيرة. وتشرح مارنا في حوار خاص مع موقع (هوفتنتن بوست) العالمي كيف أخرجت الصور من الدوائر الخاصة والمحرّمات الثقافية، وفيها الشيخوخة والعري والموت.
تستمتع مارنا بجمع صور شبابها وإظهار خطوط ورسوم بيانية تبين آثار العمر في حده الأدنى، إنما الأفضلية للقطات القريبة غير المُزينة، يد هنا، ظهر هناك. رغم سطوة ثقافة عبادة الشباب، تتمنى مارنا التألق والتغلب على تجاعيد العمر من خلال تقدير الكبار في السن بعضهم البعض وترك أفكار عفا عليها الزمن.
رغم اختلاف صور مارنا عن بورتريهات شخصية تلتقط بأجهزة ذكية وتنشر على شبكات التواصل الاجتماعي، يمكن قراءتها في سياق تحول لم يبق في دائرة النقاش الأكاديمي والثقافي في ما خص تأثير الصورة على الفصام الاجتماعي الذي يتسم به عصرنا الراهن. فصور المصورة الأمريكية تحاول ترميم تجاعيد العمر وملء تلك المسافات الزمنية والمكانية التي فرضتها الحياة المعاصرة، وفيها ديكتاتورية التكنولوجيا، في ما يلحق "سيلفيز" مساحات إضافية لثقافة عبادة الذات والنرجسية حتى في أعالي الحزن.
قيام شباب في استراليا بنشر بورتريهات شخصية "سيلفيز" لهم أمام المقهى الذي احتجز فيه رجل مسلح عددا من المواطنين كرهائن أواسط الشهر الأخير من العام الماضي (ديسمبر ٢٠١٤)، هو النموذج الأوضح لمثل هذه النرجسية التي تقيم في الصورة أكثر من شيء آخر. وقد قام شباب وشابات أمام المقهى الذي احتجز فيه رجل مسلح مجموعة من المواطنين في مدينة سيدني، وفي محيط الشريط الأمني الذي وضعها شرطة المدينة بالتقاط صور شخصية ونشرها على مواقع انستغرام وتويتر. وفي ٧/١/٢٠١٥ قام طالب جامعي بالتقاط بورتريه شخصي له أمام مكاتب الأسبوعية الفرنسية الساخرة (شارلي إيبدو) التي تعرضت لـهجوم إرهابي ونشره على جداره الخاص على شبكة فيبسوك الاجتماعية، معلناً انه موجود في المكان وحده. لقد أدت مثل هذه التصرفات إلى انتقاد عدد كبير من مستخدمي الأنترنيت نشر تلك الصور أمام المقهى الأسترالي ومكاتب الأسبوعية الفرنسية، إذ تعرضت الناس فيهما للإرهاب ووصفت صحف استرالية وبريطانية تلك الصور بــ "بورتريهات العيب"، ذاك ان أصحابها لم تحترم مشاعر الرهائن داخل المقهى والمجلة الفرنسية ولم تفكر سوى بصورة ونشرها على المواقع الاجتماعية في تلك اللحظة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

La double horreur des «crimes d'honneur»

Denis Blondin, Anthropologue (Le Devoir) Bien que les faits soient loin d'avoir été établis avec précision, rien n'empêchera les citoyens québécois de toutes origines de réagir au drame survenu au sein de la famille Shafia: quatre morts et trois accusés d'une même famille. Les points de vue énoncés jusqu'ici me semblent manifester une constante, soit l'expression de sentiments d'horreur devant ce qui nous menace, que nous ne comprenons pas et qui nous fait d'autant plus peur.

ناسنامەو نەتەوە لەعیراقدا ‌

خالد سلێمان‌ 21/5/2015 ئەو ڕستەو بیرۆکە ڕۆمانسیانەی بۆ ماوەی ٨٠ ساڵ باسیان لە عیراقێکی یەکگرتوو، گەلێکی هاوچارەنوس و لێبوردەو خەمخۆری وڵات دەکرد لەبەرامبەر نامەیەکدا کە شا فەیسەڵ ساڵی ١٩٣٣ دەینوسێت، نەک بەتەنها لاوازن، بەڵکو مایەپوچن و مێژووی ناسنامەو نەتەوە لە وڵاتەکەدا وەک پانتاییەک بۆ توندوتیژی و هەژمونخوازیی مەزهەبی پیشان دەدەن. ئەگەر لەو نامەیەوە دەست پێبکەین و بیکەینە کلیلی قسەکردن لەسەر کتێبی (ناسنامەو نەتەوە لە عیراقدا) لە نوسینی ئەکادیمی و توێژەری کورد شێرکۆ کرمانج، ئەوا لە بەشی دووەمی نامەکەوە دەچینە ناو خوێندنەوەو ڕاوەستان لەسەر کتێبەکە کە دەکرێت بەیەکێک سەرچاوە گرنگەکانی مێژووی سیاسی و کۆمەڵایەتی عیراق دابنرێت. بەشی یەکەمی نامەکە دەڵێت، “ کۆمەڵە خەڵکێکی داماڵراو لە هەر بیرۆکەیەکی نیشتمانی تێر بەترادیسیۆن کە کۆکەرەوەیەک لەگەڵ پوچگەرایی ئاینیدا کۆیان ناکاتەوە، گوێگری خراپەکارین، مەیلداری فەوزان، بەردەوام ئامادەن بەسەر حکومەتێکدا بێت راپەڕن”.  ژمارەیەکی زۆر لە نوسەران و مێژوونوسان لە عیراق و دەرەوەیدا لەسەر ئەم بڕگەیە ڕاوەستاون و قسەیان لەسەر کردوە، بەڵام کەم کەس لەسەر بەش

کۆڵۆنیکەرانی کوردستان، ئەگەر ژێردەستەی کۆڵۆنیالیزم خۆی نەبوبن، ئەوا لە ڕەحمی چەتەگەرێتی هاتونەتە دەرەوە

خالد سلێمان من کوردێکی کۆڵۆنیکراوی ناڕازیم، مەرجەکانی کۆڵۆنیکەرانی کوردستانم قبوڵ نەکردوە، بەڵام نوخبەیەکی سیاسی نوێنەرایەتی خودی کۆڵۆنیکەران دەکات، سوپایەک لە نوسەرو قسەکەرو ڕۆژنامەنوس و توێژەرو ئەکادیمی بۆ لێدانی کۆڵۆنیکراوی ناڕازی لە دۆخی وڵاتێکی کۆڵۆنیکراو دروست کردوە . من بە شورەیی دەزانم خەڵکانێک هەبن دژی خوێندن بە زمانی کوردی خۆپیشنادان بکەن، چونکە ئەمە مانتاڵێتی کۆڵۆنیکەر بەرجەستە دەکات، بەڵام، پێگەکانی کۆڵۆنیالیستی ناوخۆیی " زاڵم " ، یان با بڵێین نوێنەرەکانی کۆڵۆنیالیزم لە کوردستاندا، رەنگی وێنەکانی خۆیان کە پیاوە بێگانەکان دروستیان کردوە، تۆختر دەکەنەوە . کۆڵۆنیکەرانی کوردستان لەو بەشانەی لە ژێر دەستی خۆیاندایە، خەڵک دەکوژن و تەنها بە گومان کردنێک کوردی کۆڵۆنیکراو تا بەردەم پەتی سێدارەش دەبەن، کەچی لە بەشەکانی تر دەرەوەی هەژمون و دەسەڵاتی خۆیاندا، لەو شوێنانەی، کۆڵۆنیالیستێکی تر، داگیرکەرێکی تر، ئەفسەرێکی تر خەریکی داماڵینی مرۆڤی کوردە