خالد سليمان
بعد مرور نصف عقد على سقوط أول نظام عربي في تونس تحت ضغط إحتجاجات شعبية، تلاه في مصر وليبيا، لا يزال القسم الأكبر من الإعلام العربي، يتبع الديماغوجية الفاضحة في اصطلاحاته، وفي تغطيته بطبيعة الحال، للتحولات العربية المسماة بـ “الربيع العربي”.ولا يزال عدد كبير من المثقفين العرب، والمشتغلين في الشأن العام، فيه السياسي والثقافي تحديداً، ان لم يكونوا موهومين فيما خص المآسي اليومية التي تنتجها “الثورة”، فيجعلون من التوهّم واللامبالاة والعداء المذهبي والعبودية للمال، عنواناً بارزاً لرؤى فكرية وأخلاقية يمكن طرحها للخروج من مآسي الحروب الأهلية والمذهبية التي تعاني منها البلدان العربية،
والإسلامية - بطبيعة الحال - لقد تخللت موجات التغيير التي اجتاحت عالمي الصمت والإستبداد في تونس نهاية ٢٠١٠، تلتها مصر و ليبيا و سوريا و اليمن والبحرين ٢٠١١، صور و مشاهد عبرت عن عمق أزمات الإنسان في العالم العربي والإسلامي مثل الفقر والبطالة والحرمان والتمييز ضد النساء والأقليات الدينية والعرقية والحرمان الجنسي بطبيعة الحال ولا ننسى تلك التغييرات الديموغرافية التي اقتضاها الفقر المائي إذ هجر سكان الأرياف قراهم وديارهم متوجهين إلى الحواضركانت المضايقات والتحرش ضد النساء المشاركات في الحراك السياسي والإجتماعي في ميادين المدن العربية، التشكل الأول حول إمكانية وجود مكان لهن في “الثورة” إذ بدت سريعاً انها مساحة دينية، سياسية للرجال وأصبح الميدان السياسي وصلاة الجمعة متلازمان. كما كشفت موجات التغيير ذاتها عن ثنائية الإستبداد والدين، مضافاً اليها مصالح العائلات الحاكمة في المشرق والمغرب. وكانت هناك أزمة تاريخية أخرى رفعت عنها “ الثورة” الغطاء وعرّتها من مفاصلها الرئيسية وهي الخزان التاريخي للحروب المذهبية الطائفية حيث بدت كحالة كمونية اشتعلت مع أول عود كبريت.في البحرين، وقفت دول الخليج النفطية، وعلى رأسها المملكة السعودية ضد الإحتجاجات، بينما شغّلت ماكينتها الإعلامية والمالية لدعم الإحتجاجات في سوريا وليبيا ووقفت إيران إلى جانب الإحتجاجات في البحرين، بينما تحركت ضدها في سوريا. وسبب ذلك هو ان النظام السياسي في العالم الإسلامي يستند إلى الهوية المذهبية قبل حدود الوطن، وفيه، المشتركات الإنسانية والحضارية وقد اختلفت الحالة التونسية عن مثيلاتها بسبب طغيان اللون المذهبي الواحد على المجتمع، بالإضافة إلى عوامل تعليمية ومدنية أخرى تتجذر في تراث سياسات الحبيب بورقيبة العلمانية واتصال السوق التونسية بالسوق الأوروبيةالمفارقة التاريخية الكبيرة، في التحولات العربية المسماة بثورات الربيع العربي، تمثلت في هيمنة عناصر الثقافة النكوصية على “كونيتها”. لقد سميت بثورات الربيع والكرامة والحرية والعدالة، وفتحت باب سجال كبير حول إمكانيات كبيرة للتغيير في العالم العربي، في الأوساط السياسية والأكاديمية والفكرية في جميع أنحاء العالم. ولم تكن رغبة كوننة القيم التي أدت إلى إختراق صمت جمهوريات الإستبداد، إطاراً نظرياً مجرداً من المعاني والمشتركات الإنسانية، بل كانت نتيجة منطقية لما جرى في تونس ومصر تحديداً، والتأثير تالياً، على محيطهما التاريخي والثقافي. فصور ساحة الحرية في القاهرة، حطت في ساحات مدن كثيرة وأصبحت نموذجاً للتقليد “الثوري”. ولا نبالغ ان قلنا بأن ساحة التحرير المصرية، اصبحت مكاناً طاغياً وفرضت إسمها على المخيلة الثورية في المنطقة، وجرّدت بعض أمكنة تاريخية من اسمائها وسماتها الإجتماعية والسياسية ففي مدينة السليمانية في كردستان العراق، لم يكتف المتظاهرون بتقليد المتظاهرين المصريين فحسب، بل غيروا إسم ساحة “السراي” التاريخية إلى ساحة “الحرية”.ولكن، ساحات “الحرية” تلك تحولت سريعاً، إلى دوائر للمذهب والطائفة، واشتعل التاريخ القديم المتجذر في الحروب المذهبية، فيما أصبح الراهن تاريخاً بارداً على عتبات منسية. إذا توجب علينا التوقف هنا، للتدقيق في ملفات “الثورات” وشيخوختها المبكرة في صقيع حروب أهلية، شهدت سوريا القسم الأكبر منها، علينا سرد أحداث كشفت عما يمكن وصفه بالوحل الثوري، وفيه، نموذج إنسان يقارب بالعمر عمر الإسلام. تالياً، لم تقف شبكات الإعلام الإجتماعي على عتبة الإحتجاجات ضد الإستبداد طويلاً، تلاها تاريخ حافل بالتنابذ الديني والمذهبي سريعاً وظهر الإنسان المُعَمَر ذاته، جائعاً جنسياً، باحثاً عن صورته في القسوة والنكاح والإستعباد وإلتهام عدوه نيئاً. لم تحتل صورة مقاتل “جهادي” سوري وهو يلتهم كبد جندي من الجيش النظامي السوري، مساحة واسعة في أدبيات الحرب الأهلية السورية، ولا كلام رجال الدين والجهاديين الذي بدأوا ببث خطاب الكراهية ضد العلويين والأقليات الدينية الأخرى، ولا صور الإعتداء الجنسي والإغتصاب في ساحات “الثورة”، ولا الإختفاء القسري والإعدامات في المملكة السعودية، ولا فتاوى شيوخ التيار السلفي الجهادي عبر الجوامع والقنوات الفضائية. كانت صورة الصحفية الأميركية لارا لوغان وهي تروي حكاية تعرضها للإغتصاب في ساحة الحرية اثناء ثورة يونيو المصرية عام ٢٠١١، حدثاً مهماً للغاية، إنما هيمن تموج الحشود في الساحة ذاتها على كل شيء. تالياً، قدمت الصحفية مع دموعها قصة الإغتصاب بين الجموع وذهبت، فيما كانت الحشود "الثورية"تفرّغ حمولة سنوات من القهر والكبت.لقد دخلت لوغان إلى وسط الحشود لتنقل تفاصيل الحدث، إنما خرجت منها ممتلئة بالغضب والصراخ، ذاك ان أيادي مغتصبيها وصلت إلى كل أنحاء جسدها كما تروي.وفي الممللكة السعودية بشوارع مدنها مُزَيَنة بأعداد غفيرة من الشرطة وقوات الأمن السرّية، وقنواتها الإعلامية المحلية و“الخارجية”، المنشغلة بتغطية أحداث تونس ومصر، كان هناك حدث آخر مهم لم يلفت إنتباه أحد، ذاك انه، عكس الحشود المصرية، أحيط بصمت شوارع مدينة الرياض وانتهى بالصمت أيضاً. ولو لا وجود فريق إعلامي تابع لمؤسسة بي بي سي البريطانية في ذلك اليوم، لاصبحت قصة خالد الجهني حدثاً تختاره سلطة أبناء عبدالعزيز عنواناً تقتضيه أحوال المملكة.أين خالد؟ هو إعلان إحتجاج من قبل شخص واحد إسمه خالد الجهني خرج إلى شوارع مدينة الرياض بعدما قرأ على شبكات التواصل الإجتماعي نداءات تدعو للتجمع والإحتجاج. أراد خالد كسر الصمت ويقول ما لا يقال في مملكة المتخيلات. وقد حالفه الحظ قبل إخفائه وجود فريق تلفزيوني من قناة بي بي سي يتجول في شوارع المدينة برخصة من وزارة الداخلية، للإثبات بأن السعودية تخلو من أية مظاهر إحتجاج ضد النظام. ولكن ظهور خالد وإعلانه الجريء بأنه يريد التكلم ولا يخاف أحد ويعرف مصيره قبل العودة إلى منزله، أخترق المحرمات الملكية وتكلم نيابة عن جموع أُفترض وجودهم في الساحات بعدما وشت بنياته ساحات الفيسبوك الإفتراضية. قال خالد كلام أخير "الشعب يريد دخول السجون”، وترك الساحة برعاية صحفيي البي بي سي، إنما تحت عيون الشرطة. منذ تلك اللحظة أصبح تلفون خالد المحمول مغلقاً أو خارج نطاق التغطية، ولم تفد أية محاولة لاحقة لإعادة الإتصال. لقد انتهى خالد وانتهت معه فكرة التجمع والإحتجاج.إغتصاب لوغان في القاهرة وإخفاء الجهني في الرياض والتهام اللحم البشري أحداث لا يمكن إبعادها عن سياق أي تحليل أو قراءة تاريخية لفصل التغيير في العالم العربي، وفيها تحديداً ما يمكن وصفه بالمكبوت المهيج والقمع المُزَيَن بالبترول. ما أريد التطرق له هو ان الثورات العربية وقبلها بسنوات إسقاط نظام صدام حسين على يد القوات الأميركية، كشفت عن مجتمعات جديدة في العالم العربي، هي ليست تلك المجتمعات التي احتلت لعقود طويلة في أدبياتنا مساحة مفترضة للإستنهاض والدخول إلى عالم الحداثة، مجتمعات تم توريطها في اتون حروب قومية ووطنية مزيفة وفي دهاليز أحكام عرفية وملكية و جمهوريات استبدّت بالسياسة والناس بجميع المقاسات. كما انها كشفت عن أنظمة حكم ورؤساء لم يربطهم سوى حبل قصير بشروط البقاء بين السكاكين. ففي تونس إذ أصبحت الثورة عتبة بين المجتمع وتاريخه، تم نسيان ما صنعته الديكتاتورية العائلية وبدت قوة الإسلاميين الموزعة بين دَورَي الإعتدال والتشدد أكثر عنفاً من ديكتاتورية بن علي. لقد قيل ان المجتمع التونسي وبسبب نسبة التعليم العالية فيه ٪94،6) حسب الأحصائيات الرسمية، وقربه من أوروبا والأشواط التي اجتازها فيما خص بناء مؤسسات الدولة في عهد بورقيبة تحديداً وعدم وجود صراعات طائفية فيه الخ، سيحصد محاصيل الثورة ويجتاز مرحلة مابعد بن علي سريعاً، ذلك إعتماداً على ما يمكن تسميته بالمركنتيلية الإجتماعية بالدرجة الأولى، إنما واقع ما بعد الثورة وضع الطبقة الوسطى والمثقفين والأكاديميين والشرائح المتأثرة بأنماط الحياة العصرية، أمام سكاكين السلفيين في الجامعات والمدارس ومؤسسات الدولة.لقد تركزت غالبية الدراسات حول التغيير التونسي في الحواضر، فيما ظهر ان نسبة١٥٪ من المجتمع، وهم من ذوي البشرة السوداء في جنوبي البلادت عاني من العنصرية والتهميش. يعني ان المنهج الذي اعتمده البعض من الأنثروبولوجيين لدراسة المجتمع التونسي وتقديم أرقام خيالية عن التعليم والخصوبة والقرابة، كان خاطئاً في بعض تفاصيله، ذاك ان ذوي البشرة السوداء حسب دراسات إجتماعية تونسية كتابات مها عبدالحميد نموذجاً، غير مرئيين في المؤسسات الرسمية والمدنية، فيما لا يغيبون عن العين و الكلام حين تدور الماكنة العنصرية الإجتماعية. كان تصور طيف كبير من المثقفين والمحللين بأن البلاد الخضراء ستكون عتبة مهمة للتحول الإجتماعي والسياسي في العالم العربي وكفيلة لإنجاح الثورة، إنما كان للواقع الإجتماعي الداخلي شروط ومعطيات أخرى غيرت معادلات التغيير، إذ تخلت الأغلبية عن تراث بورقيبة واختارت حركة الإخوان المسلمين المتمثلة بحركة النهضة ومرشدها راشد غنوشي، فيما النصف الآخر من المجتمع، بدل التفكير بتخطي مرحلة مابعد الديكتاتورية العائلية، يقاوم السلفية ورحمها الكبير "الإخوان"، للحفاظ على ما بقي من المؤسسات التعليمية والجامعية والثقافية أمام هجوم يومي شرس على المجتمع وخياراتهقصارى القول لقد كشفت موجات التغيير في العالم العربي عن نقاط غير متوقعة ومكامن ضعف كثيرة تميزت بها المجتمعات العربية والإسلامية، أولها عودة التاريخ القابل للإشتعال بين الملل والأقوام والطوائف ؛ السنة،الشيعة، العرب،الكرد، السلفية- الإعتدال، السنة،الأقليات ..الخ. من النقاط غير المتوقعة والخطيرة التي طفت على سطح الأحداث والتغييرات، هي الكراهية ضد الأقليات الدينية والعرقية تحت عناوين وقوفها إلى جانب الحكومات أو عدم ولوجها في “الثورات”. وفي السياق ذاته، جاءت تداعيات الربيع العربي محزنة فيما خص النساء إذ تراجع دورها وتأثيرها أكثر من السابق، ذاك ان الاعتداءات الجنسية عليهن في ساحات الإعتصام في أوج الإحتجاجات، وفي مرحلة عسكرة الإحتجاجات ذاتها، تم قيدهن بثقافة الجهاد والسبي والعبودية. وتعدّ معاناة المرأة السورية في ظل سيطرة مجموعات السلفية الجهادية وسبي النساء الإيزديات في العراق جزء من تلك التداعيات.في سياق آخر، يمكن الحديث عن سبب آخر لفشل الثورة، ووقوعها في وحل التطرف، وهو تغيير النمط السكاني للمدينة وذلك بسبب هجرة ريفية غير مسبوقة نحو الحواضر في السنوات الأخيرة من القرن العشرين والعقد الأول من قرن ٢١ ويعود سبب هذه الهجرة إلى موجات الجفاف التي اجتاحت الشرق الأوسط في الفترة الواقعة بين ١٩٩٨٢٠١٢ تمخضت عنه اختلال سكاني بين المدن والقرى في المنطقة في سوريا تحديداً. وقد أشار تقرير نشرته وكالة ناسا الأميركية في بداية شهر مارس ٢٠١٦، بأن موجات الحرَ والجفاف المذكورة لم تجتج المنطقة منذ ٩٠٠ سنة، أي من (١١٠٠-٢٠١٢). وفي ذات السياق أشار تقرير آخر صدر عن معهد مصادر العالم بتاريخ ٢٤/٨/٢٠١٥ إلى ان الفقر المائي وهجرة أعداد كبيرة من سكان القرى والأرياف إلى المدن حيث أدى إلى تضخم سكاني وتقليل فرص العمل والسكن وإحتياجات الحياة اليومية، واحد من أسباب الغليان المجتمعي والعنف في سوريا.أخيراً، لم تتمتع العائلات المالكة في المنطقة بأي نوع من الحصانة السياسية والإجتماعية، أو المرونة تجاه موجات التغيير كما يرى بعض المراقبين، بل اتخذت إجراءات أمنية وعسكرية تجاوزت الأنظمة الجمهوريةالعسكرية في قسوتها، وكان الردع العسكري الخليجي ضد الإحتجاجات البحرينية واحدة من تلك الإجراءات ؛ مضافاً اليها بناء خطوط ساخنة من أجل تمويل “ربيع الثورات” بالسلفيين والأموال.
نشر هذا المقال بتاريخ ٧/٣/٢٠١٦ في صحيفة المدى ببغداد
تعليقات