أحدثت "ثورة الياسمين" ـ نهاية عام ٢٠١٠، وبداية ٢٠١١ـ تحولاً كبيراً داخل المجتمع التونسي؛ وكان هذا التحول ـ وفقاً لمراقبين أوربيين آنذاك ـ قريباً إلى النموذج الأوروبي؛ ذلك لأنه ظل خارج النماذج المصرية، واليمنية، والليبية والسورية التي ما أن بدأت، حتى دخلت في فلك العسكر والقبيلة والأصولية. ومــا يقوي هذا الرأي ويجعله ذا أهمية، هو مسح إجتماعي وديموغرافي حول الأسرة والخصوبة والتعليم في تونس قام به الباحثان: الفرنسي "إيمــانــويل تــود" والـتونسي "يوسف كرباج"، والذي جُمِعَ في كتاب بعنوان: «لقاء الحضارات» حول التطور الثقافي والحضاري في العالم الإسلامي، الصادر عام ٢٠٠٧. وقـــد بحث الكــاتبان أبعاد التحولات الاجتماعية والأسرية التــي شهدها المجتمع التونسي في العقدين الأخيرين من القرن المــنصرم، مركزين على نسبة التعلم في البلد وعلى الزواج وصلات القربى وعدد أفراد الأسرة وتأثير كل ذلك على خيارات المجتمع فيما يخص حقوقه وحرياته.
لقد خلت التجربة التونسية من المظاهر التي طغت على مثيلاتها العربية مثل: "الصلاة السياسية" في الساحات العامة، وجعل المساجد ومآذنها منابراً للـ "الثورة". ويعود سبب ذلك ـ في أغلب الظن ـ إلى التقدم الاجتماعي الذي شهده المجتمع التونسي مؤخراً.
والملاحظ أن الباحثين والمتابعين للشأن التونسي لم يلتفتوا إلى ظاهرة وجود أعداد كبيرة من الشباب التونسي في صفوف فروع تنظيم «القاعدة» في العراق وأفغانستان وشمال أفريقيا، وفي صفوف تنظيم «داعش». إذ تشير تقارير رسمية وغير رسمية إلى أن نسبة الشبان التونسيين الذين يلتحقون بتنظيم «الدولة الإسلامية» هي الأعلى مقارنة بباقي الجنسيات العربية والإسلامية، حيث يقدر عددهم بحوالي ستة آلاف مقاتل، وهو رقم هائل قياساً بعدد سكان البلاد الذي لا يتجاوز ١١ مليوناً، فيما تم منع حوالي خمسة عشر ألف شاب تونسي من السفر إلى سوريا عبر تركيا للانضمام إلى تنظيم «داعش»، وفق مصادر من وزارة الداخلية التونسية.
لقد كشفت "ثورة الياسمين" وامتداداتها في المشرق والمغرب، عما يمكن تسميته بـ "عراء" الهجرة الجهادية إلى خارج تونس، ذلك لأن وصول «حركة النهضة» الإسلامية إلى السلطة في أول انتخابات تشريعية في الأول من تشرين الثاني عام ٢٠١١، عقب سقوط نظام بن علي، فتح باب الخروج من البلاد على مصراعيه، مما سمح للشباب التونسي بالانضمام إلى الحركات الإسلامية المتطرفة في المشرق - وفي سوريا على وجه التحديد. وكان الدافع الأساسي للسياسة التي اتبعتها «حركة النهضة» ـ وفقاً لآراء المتابعين للشأن التونسي ـ هو التخلص من ثقل السلفية-الجهادية داخل البلاد، من خلال تشجيع عناصرها ومناصريها على الانضمام إلى فروع تنظيمي «القاعدة» و «الدولة الإسلامية» في العراق وسوريا، ذلك لأن السلفيين ـ منذ الإطاحة بنظام بن علي ـ شكّلوا مصدر تصدع كبير لـ «حركة النهضة» التي لم تكن ـ آنذاك ـ قد كرست سياستها وملامح حكمها بعد.
لقد وجد السلفيون في «حركة النهضة» حصناً منيعاً لهم، بل شرعية تجاوزت حتى الرؤية العامة للمجتمع التونسي المعتدل في دينه. وطغت لديهم روح الانتقام من الاستبداد، على باقي الانشغالات الأخرى، بحيث أصبحت المجتمعات العربية ككل هدفاً لتلك الروح الانتقامية، دون التركيز على المجتمع التونسي وحده.
وتشير التحليلات الكلاسيكية إلى أن الفقر والبطالة والتهميش هي أهم عوامل هذه الهجرة، ناهيك عن التاريخ الاستعماري القابل للاشتعال. ويمكن الإشارة في ذات السياق إلى مرحلة ما بعد الاستعمار، أو ("پوست- كولونياليزم") حيث ترك الفرنسيون وراءهم هيمنة على مجمل الحياة الثقافية والاقتصادية. إذ تحرر المُستعمَر جغرافياً، ولكنه لم يتحرر فكرياً من الإرث الثقيل الذي تركه المُستَعمِر حتى يومنا هذا. لقد أدى الإرث الكولونيالي إلى انقسام المجتمع التونسي إلى جبهتين متناقضتين: جبهة أولى منبهرة به، استمرت في محاولاتها للتمسك بذيوله، الشيء الذي نتج عنه شخصية غير سوية، وجبهة ثانية حملت على عاتقها محاولة محو الآثار الكولونيالية، من خلال التشدد الديني والعودة إلى ماء الأصولية إن جاز التعبير. وقد قام كل من الحبيب بورقيبة وبن على بمحاربة هذه الجبهة الثانية بشدة منذ الاستقلال (١٩٦٢) إلى عام ٢٠١١، فخفّ صوتها طوال تلك الفترة، لكنها كانت في حالة "غفوة" فحسب، حيث لم تكن تحتاج إلّا إلى حرارة قليلة للاشتعال. وقد وفرت الثورة التونسية تلك الحرارة، عندما خلقت أجواء الحرية بعد الإطاحة بالاستبداد، فبدأت تنتعش ظاهرة التطرف والسلفية- الجهادية في ظل وجود «حزب النهضة»، لتصبح خلال فترة قصيرة جزءاً من المشهد السياسي، ثم تتعداه إلى المشهد الاجتماعي والثقافي أيضاً، فانتشرت مظاهر الذكورية المتمثلة في إطلاق اللحى، واللباس "الشرعي" ـ كما يُصَنَّفُ ـ الخاص بالمنقبات في الشارع التونسي بشكل ملفت للنظر.
غير أنه يمكننا الحديث عن عوامل أخرى موغلة في المخيلة الدينية-المذهبية من جانب، وفي الخطاب العابر للحدود الوطنية من جانب آخر. فرغم أن المجتمع التونسي لا يتميز بهويات مذهبية ـ بحكم غلبة المذهب السني ـ إلا أن هناك ماكينة إعلامية تغذّي فكرة قتل أهل السُنة في العراق وسوريا. وتصاحب هذه الفكرة صورة قاتمة لا يميز فيها الكثير من شباب المغرب العربي أو شمال أفريقيا، الفسيفساء المجتمعي في بلدان المشرق، ولا يعرف بأن ما حل بالمسلم السني، قد حل أيضاً، بالمسلم الشيعي والعلوي والكُردي والدرزي والإسماعيلي.
من خلال ما ذكرنا، تبدو الصورة قاتمة، وذات بعد واحد: السُني يقتل. وفي ذلك كما تقول الباحثة التونسية "هدى حواس": "فراغ معرفي وجهل بالدين وسهولة تحميل عقول الشباب بأية رؤية أو تصور"، ذلك أن المحرّك في هذه الحالة هو المخيلة الجمعية، وليس الواقع والمعرفة بمقتضياته بحسب رأي الباحثة.
وترى "حواس" بأن غياب العلوم الإنسانية في مناهج التربية، والجهل بالدين أو هيمنة المعرفة السطحية حوله ـ إذ لا تتجاوز المعايير التي يحددها المخيال الشعبي ـ زيادة عن التهميش والفقر، كل ذلك يجعل الشاب التونسي "المهاجر" كالقنبلة الموقوتة القابلة للانفجار في أي وقت.
إن السبب الأهم لهذه القابلية للاحتراق ـ التي يمكن وصفها بـ "القُربان المجاني" ـ هو غياب مشروع تنموي اجتماعي- ثقافي واقتصادي في مواجهة الانغماس في الفكر المتطرف الذي أصبح خطابه عابراً للحدود الوطنية. إذ أضحى أمراً عادياً، أن يصلي المواطن التونسي وراء خطيب سلفي من إحدى دول الخليج، كانت تُبث خطبته عبر قناة فضائية خلال السنوات الأخيرة من أيام حكم بن علي، مع استمرار بثها حتى بعد الإطاحة به عام ٢٠١١. إذ أن الخطب الدينية ليوم الجمعة بالجوامع التونسية، كانت تكتب بلغة الخشب التي تتحكم فيها الدولة. أما اليوم فتستغلها مؤسسات خيرية دينية لزرع الكراهية والعنصرية المذهبيتين.
ويضاف إلى ذلك، فقر الثقافة الدينية في شمال أفريقيا بشكل عام، إذ يمكن اختراقها، وتغيير هويتها التاريخية الجامعة بين العقيدة الدينية والثقافة المحلية، من خلال مزجها بهوية جديدة وفق مقاسات السلفية-الجهادية.
وإذا كان الجامع إلى جانب باقي المؤسسات الدينية في المغتربات الأوروبية والأمريكية، يتفوق على غيره من الوسائل الأخرى في استقطاب الشباب نحو مناطق الفكر المتطرف تحت يافطات "العمل الخيري"، فإن الصورة تقوم بالدور ذاته في البلدان الأصلية ـ عبر القنوات الفضائية وشبكات التواصل الاجتماعي ـ وذلك لأن المخيلة والمساحة الدينيتين في تكوين الإنسان العربي والمسلم، لا تحتاجان سوى إلى صورة مؤثرة للاشتعال. يضاف إلى ذلك عدم التزام وسائل الإعلام بقواعد الأخلاق المهنية، وعدم وجود رقابة على صور العنف التي تبثها وسائل الاتصال الرسمية والاجتماعية.
وارتباطاً بالمساحة الدينية التي يلعب فيها التيار السلفي الجهادي دوره المؤثر عبر وسائل الاتصال والقنوات الفضائية، نستحضر قضية أخرى لا تقل أهميتها السياسية عن مجمل القضايا الأخرى المتعلقة بأزمات الإنسان العربي، وهي القضية الفلسطينية، إذ تستقطب أنظار المجتمعات العربية في المشرق والمغرب. ويمكن القول في هذا السياق، بأن المشرق ـ بالإضافة إلى رمزيته القُدسية الدينية ـ ترسخ في مخيلة الإنسان العربي بمثابة منطقة جغرافية مؤثرة، وذلك بفعل ما وقع من تقسيم فلسطين ونشوء دولة إسرائيل. حيث أن قضية فلسطين ـ التي امتزجت فيها مسألة الوطن والأرض بالإسلام السياسي ـ أصبحت إطاراً لعموم المنطقة. وكان لهذا الزواج السياسي-الديني الذي استوجب صناعة وَحلاًّ قومياً- دينيّاً، تأثيرٌ كبيرٌ ليس على الإسلاميين فحسب، وإنما على سائر الحركات الوطنية واليسارية في العالم العربي.
ويشير الكاتب والصحفي التونسي "وليد الماجري" إلى تسلسل تاريخي لهجرة الشباب التونسي إلى خارج الحدود الوطنية من أجل قضايا سياسية بالدرجة الأولى. وكانت أولى الهجرات ـ حسب الماجري ـ عام ١٩٤٨، حيث توجه عدد من التونسيين إلى المشرق، للدفاع عن الفلسطينيين، لتليها هجرات أخرى عام ١٩٦٧، و١٩٧٣، وأثناء الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان عام ١٩٨٢. ولا ترتبط أسباب هجرة الشباب التونسي ـ حسب رأي الماجري ـ بتنظيمي «القاعدة» و «الدولة الإسلامية» فقط، بل يرتبط قسم منها بتاريخ السياسات والصراعات في العالم العربي، وفي مقدمتها قضية فلسطين.
وإذا تأملنا في وجود "التوانسة" في صفوف تنظيم «القاعدة» في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم في أفغانستان وسائر المنظمات الراديكالية الأخرى، سنلاحظ بأن القضية الفلسطينية تتحول كجغرافيا سياسية إلى وطن رمزي بين جبال تورا-بورا.
هناك أمر تاريخي لا يمكن نسيانه في هذا المضمار، وهو أن المخيمات الفلسطينية، أو الشتات الفلسطيني كان الحاضنة الأولى لولادة سلفية جديدة، قطعت روابط الصلة مع السلفيات غير الراديكالية، بتبنّيها الجهاد المسلح، وتكفير الحكومات العربية وقوى إسلامية أخرى، وكونَنَة الجهاد. ويمكن ملاحظة أسماء فلسطينية كثيرة قطعت صلاتها بالشتات، من خلال صناعة وطن متخيل بعدما وجدت نفسها بين الوعي السلفي والوطن المتخيل، نذكر منها: "عمر أبو عمر" (أبو قتادة)، و"هشام الشريدي"، و"عبد الله العزام"، وأسماء أخرى كانت من طليعة الأسماء التي كرست غياب الوطن والذاكرة، وجعلت "اللا مكان" وطناً بديلاً أو مساحة متخيلة ومتمثلة ببلاد مثل: أفغانستان، والعراق، وسوريا، أو أي مكان آخر يمكّن من رسم البطولات الجهادية فيه.
وقد جذب سحر "الوطن المتخيل" الذي ابتدعه الإسلام السياسي أعداداً هائلة من الشباب من سائر البلدان العربية والإسلامية، حيث كان لفلسطين الحصة الكبرى فيه. فكان ذلك السحر توريطاً، وضع المتورطين به، في قاع الأحداث، حيث لا قضية سوى عالم من التنابذ الطائفي و "القُربان المجانيّ".
وخلاصة القول، أنها هجرة تاريخية، وَحلٌ تتداخل فيه القومية والسياسة بالدين، يحل المتخيل فيه محل الواقع ومآسيه، من فقر الوعي الديني إلى إرث الكولونيالية الثقيل، من عبثية ما بعد التحرر إلى البحث عن "جنة عدن" بجانب المُستَعمِر، من أسوار الاستبداد إلى باحات "الربيع العربي"، وبين كل تلك الأطوار؛ يبقى توريط الإنسان العربي في أتون التطرف "والقُربان المجانيّ" واحداً من أسئلة القرن العشرين التي لا تزال حاضرة بقوة في قرننا الحالي.
*نشر هذا المقال في موقع منتدى الفكرة التابع لمعهد وشنطن
تعليقات