خالد سليمان
تتدفق معلومات كثيرة عن التدهور البيئي في العراق هذه الأيام. ويحتل شح المياه، التصحر و العواصف الغبارية المساحة الأكبر بين كل تلك المعلومات التي ترسم في الغالب خارطة مستقبل قاتم للبلاد، بينما هي في الأساس ليست جديدة ويعود تاريخ توثيقها ونشرها الى ماض قريب، انما لم يعرها أحد اهتماماً الحكومات العراقية المتعاقبة ضمناً.
في الأحوال العادية لا تتجاهل الأوساط الإعلامية والحكومية والسجلات العامة المشكلات البيئية فحسب، بل تصنفها ضمن الرفاهية والرخاء، مما حالت دون إيجاد حلول للأزمة البيئية الخانقة التي يعيشها العراق اليوم. على سبيل المثال لا الحصر، شهدت البلاد بحسب بيانات تعود لوزارة البيئة لعام 2013 أكثر من 120 عاصفة ترابية و283 يوماً مغبراً، وأشارت توقعات بيئية، قبل نحو عقد من الآن،
إلا أن العراق في السنوات العشر المقبلة، سيشهد 300 عاصفة ترابية سنوياً. لم تلفت تلك المعلومات انتباه صناع السياسة حينئذ، وقد وضعها احتلال داعش لأجزاء واسعة من البلاد بعد عام واحد من نشرها في طي النسيان.
ها نحن ذا نعيش تلك التوقعات، إذ تتكرر العواصف الترابية وتدخل آلاف الأشخاص إلى المستشفيات، ناهيك بحالات وفاة وتعطيل المطارات والموانئ والحركة الاقتصادية؛ وتدهور الأنظمة الأيكولوجية وسلاسل التوريد بطبيعة الحال.
أطفال يسبحون مع جواميس الماء في نهر الفرات في النجف- رويترز
فيما خص الجانب المائي، هناك تقارير كثيرة حول العراق والمنطقة صدرت بين أعوام 2010-2018 منها تقرير صادر عن معهد مصادر العالم وآخر صدر عن البنك الدولي، فضلاً عن دراسات أجرتها المؤسسات التابعة للأمم المتحدة. وقد تناولت غالبية تلك التقارير الأسباب الكاملة التي تقف وراء أزمة المياه في العراق والمنطقة، منها آثار أزمة المناخ، السياسات الإقليمية المائية غير العادلة تجاه العراق، النمو السكاني والأساليب القديمة في الري والإدارة السيئة للموارد الطبيعية محلياً.
ويكمن الخلل الرئيسي في سياسات العراق المائية في تجاهل هذه النقطة الأخيرة، أي الإدارة السيئة للموارد، والتركيز على آثار أزمة المناخ وسياسات تركيا وإيران المائية. ليس القصد هنا، التقليل من شأن آثار أزمة المناخ والتي أدت الى تناقص كميات الأمطار وارتفاع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق،
ولا آثار تناقص تدفق المياه الى البلاد جراء مشاريع مائية عملاقة في كل من تركيا وإيران لا تأخذ مصالح العراق المائية في الحسبان، بل هو طرح أسئلة وجودية: ماذا يعمل العراقيون حين تُعَطّشهم تركيا وإيران، من أين يشربون ويأكلون؟ هل ينتظرون الرحمة من جيران بلا رحمة، أم يأملون تحسين الظروف المناخية وعودة عراق رطب إليهم؟ وفي كلتا الحالتين، الانتظار يقتل!
تقتضي أية شافية على مثل هذه الأسئلة، التوقف عند مستجدات الندرة المائية وآثارها المباشرة على الزراعة وإنتاج الغذاء واحتمالية حدوث نزوح داخلي جراء العطش. وفقاً لبيانات وزارة التخطيط فإن 43٪ من الأراضي الزراعية تصحرت فيما يتعرض ما يقارب 100 مليون دونم آخر للتصحر،
الأمر الذي يشكل تهديداً وجوديا للعراق دون اكتراث حكومي. ففي 17 من الشهر الحالي (حزيران-2022) أعلنت 18 منظمة دولية ومحلية عاملة في العراق عن تحديات غير مسبوقة تواجه البلاد مائياً مثل شح المياه، اتساع مساحات التصحر، ازدياد العواصف الترابية، تناقص الهطول المطري، موجات الحر وتقلص الأراضي الخصبة، الأمر الذي يستدعي مساعدة العراق لإدارة موارده المائية بشكل مستدام.
وبحسب الإعلان ذاته، يُصنف العراق من بين 39 بلداً في العالم في مواجه الجفاف وقلة المياه. وتشير بيانات موثوقة وفق تلك المنظمات، من بينها منظمات تابعة للأمم المتحدة، الا ان الجفاف أدى الى خسارات كبيرة في الحبوب في سبع محافظات عراقية عام 2021، حيث لم يحصد 37٪ من مزارعي القمح محاصيلهم، بينما وصلت الخسارة بين مزارعي الرز الى 30٪. وقد دفع هذا الواقع الزراعي المرير وزارة الزراعة الى وضع 40% من الأراضي الزراعية المعرضة للتصحر خارج خطة 2022 وذلك جراء موجات جفاف عنيفة تضرب البلاد منذ أكثر من عامين.
وبحسب البنك العراقي المركزي تم تخصيص أكثر من 11 مليار دولار لمواجهة آثار أزمة المناخ، بينما تشير بيانات من وزارة الزراعة الى انها لا تملك أكثر 4 مليون دولار لمكافحة التصحر وإعادة التشجير.
رجل من عرب الأهوار من العراق يمشي على أرض جافة كانت مغطاة بالمياه في مستنقع الجبايش في ذي قار- رويترز
الواضح في القصة هو ان العراق هش أكثر من غيره أمام آثار أزمة المناخ وذلك جراء تدهور بيئي خطير تشهده البلاد منذ بداية ثمانينات القرن المنصرم. كما يقع العراق في مصب جميع الأنهار الدولة والإقليمية ويزداد تعطيشه من قبل جارتيه الشماليتين، تركيا وإيران، كلما زاد ضعفه وتراجع موقعه الإقليمي.
أما الغير الواضح في القصة فهو تدهور محلي تفوق الإدارة السيئة للموارد المائية في العراق. يمكن القول بأن الأسلوب السومري في الري، أي إغراق الأراضي بالمياه اثناء السقي، يدخل ضمن الإدارة الفقيرة أو السيئة، ولكن ان يتم تفريغ المياه الثقيلة الخارجة من الصرف الصحفي في الأنهر والأحواض المائية العذبة، انه تخريب بفعل فاعل.
هذا ما يحدث في العراق، في كل منطقة ومدينة. حتى العاصمة بغداد تعاني من تزايد مياه الصرف الصحي، وتصرّفه بلدياتها التابعة للأمانة في نهر ديالى الواقع في جنوب شرق العاصمة. وتقوم آلياتٌ تابعة لها بنقل مياه الصرف الصحي وتفريغه في نهر ديالى من دون حسيب أو رقيب، وذلك بسبب خروج العديد من محطات معالجة المياه الثقيلة عن الخدمة وتهالكها،
وعدم توفر محطات معالجة حديثة كافية لتغطية الزخم المتزايد. وتشير وثيقة حكومية رسمية تعود لشهر أيلول (سبتمبر) 2020، الى ان 16 من أصل 20 بلدة موزعة بين القضاء والناحية والتابعة لمحافظة بغداد تعاني من انعدام خدمات الصرف الصحي.
وقد تحول نهر ديالى جراء ذلك من مصدرٍ للشرب والزراعة وصيد الأسماك وتربية المواشي الى مكبٍ للنفايات والصرف الصحي، ومصدر لتلوثٍ بيئي خطير يُهدد حياة ما يقرب 200 ألف إنسان.
صبي من عرب الأهوار من العراق يمشي عبر المياه في مستنقع الجبايش في ذي قار- رويترز
بحسب السكان المحليين فإن المنطقة كانت زراعية، وكان النهر مصدراً لأنواع كثيرة من الفاكهة والخضرة في السابق. “كانت هذه المنطقة أشبه بالجنة، كنا نذهب الى المزرعة ونقوم بجني الثمار ونسقي الحيوانات ونقوم بصيد الأسماك، وكل ذلك قبل عام 2003، لم نحتج الذهاب الى المدينة لشراء الخضراوات والأسماك قط،
كنا نملك كل ذلك بفضل هذا النهر”، هذه شهادة سيدة عراقية تعيش في المنطقة. إنما تحول النهر اليوم الى مصدر للتلوث، لا تعيش فيه الأسماك ولم تعد الحيوانات تشرب منه. ويحصل السكان على مياه الشرب من الآبار أو سحبها من مناطق مجاورة بأساليب شاقة، الأمر الذي يزيد الصعوبات أمام السكان المحليين ويضعهم أمام تحديات جمة، تتحمل النساء الجزء الأكبر منها.
بناءً عما تم التطرق اليه، يعاني العراق من تدهور بيئي خطير قبل أن يظفر به أزمة المناخ وقبل سياسات التعطيش التي تمارسه كل من إيران وتركيا. ذلك جراء الفساد المستشري في مفاصل الدولة، والصراع على السلطة بين الأحزاب الحاكمة وتهالك المؤسسات الحكومية. تالياً، تقتضي الكارثة البيئية التي لا تقل مخاطرها عن مخاطر الإرهاب،
رسم سياسات بيئية جديدة ومستدامة، تستثمر في كميات هائلة من المياه الثقيلة للري وإعادة التشجير والصناعة، مما يخفف العبء على الموارد المائية العذبة من جانب، ويساعد على استعادة أراضي متآكلة جراء التعرية وفقدان الغطاء النباتي من جانب آخر، ناهيك بحماية المناطق الرطبة التي تعد رئة البلد.
لقد حان وقت التحرك وإلا سنندم بعد سنوات كما نندم الآن عما لم نفعله قبل عقد من الآن لإيقاف التصحر.
مصدر المقال الأصلي: موقع أخبار الآن
تعليقات