خالد سليمان
الأسبوع الثاني من شهر أيلول عام 2019، لم يزل الحَرّ يلتقم مدينة البصرة أقصى جنوبي العراق، أدخل مع صديقي بصري واخر جاء من الديوانية الى مطعم لتناول الغداء. يلمح المكان الى فائض كبير في “الكرم” والبذخ؛ خبز عراقي مُحمص بحبات السمسم وخارج تواً من التنور، تُقدم مع أطباق من المقبلات الجاهزة بما فيها الشوربة على الطاولة، ونحن لم نطلب شيئاً بعد. درجة الحرارة تقارب نصف الغليان (47 درجة) في الخارج، بينما تخترق البرودة أجسادنا نحن الزبائن في الداخل (16 درجة).
تناولنا بها فيه الكفاية من الخبز والمقبلات والشوربة، واكتفينا تالياً بكمية قليلة من الطبق الرئيسي الذي بدا لي هائلاً جداً. اللحم المطبوخ، ثلاثة أنواع من شوربة الخضار والحبوب ونوعين من الرز، والمزيد من الخبز. سألت العامل الذي قدم لنا “الوجبات” عن سبب تقديم هذه الكمية الكبيرة من الطعام الى شخص واحد، وهو بدوره لم يتردد في ان يقول لي: انه الكرم البصري. يتكرر هذا المشهد التبذيري في بغداد، النجف، الديوانية، السليمانية وأربيل وأصبحت المطاعم تنافس بعضها البعض في تقديم المزيد، ولا يتردد الزبائن في ترك البقايا ورائهم. لقد صار الاستهلاك المفرط ورمي الغذاء في القمامة، روتيناً يومياً في العراق.
ان اهدار الطعام في العراق حقيقة محزنة بينما هو يواجه أزمات غير مسبوقة من ناحية التصحر وندرة المياه وآثار تغير المناخ. وما يثير الاستغراب هو عدم ربط السجال العام حول تراجع الانتاج الزراعي والتدهور البيئي الحاصل في البلاد بإهدار الغذاء، وكأن انتاج اللحوم والحبوب لا يحتاج الى المياه، بينما يكلف كيلوغرام واحد من اللحوم الحمراء 15 ألف ليتر من المياه.
تراجع الغلة
وما يُلحظ في سياق الحديث عن الأمن الغذائي هو ان الخطط الزراعية “الاستراتيجية” في العراق تركز على زيادة الإنتاج، دون الحديث عن آليات أخرى من شأنها المساهمة في ضمان الأمن الغذائي مثل الحماية وعدم الهدر، ناهيك بأهمية إيقاف التدهور الحاصل في بساتين النخيل والأنواع الأخرى. ولا تخلو لغة المسؤولين العراقيين بخصوص زيادة انتاج الغذاء من سرديات سائدة لا تأخذ بنظر الاعتبار المتغيرات المناخية، الزيادة السكانية، موقع البلد مائياً وخضوعه للسياسات التركية والإيرانية والاستغلال المفرط للموارد… الخ من الأسباب.
على سبيل المثال، كان قد وصل محصول القمح الى 5 ملايين و500 ألف طن عام 2019 بعد شهدت البلاد شتاءً رطباً، بينما تناقص المحصول الى مليون وأربعمئة طن لعام 2021 جراء الجفاف وقلة المياه، فضلاً عن أضرار كبيرة لُحقت بالثورة الحيوانية لذات الأسباب. اذاً، ما يمكن للعراق انجازه في ظل هذا التراجع الكبير هو وضع حد للهدر وسبل حماية الغذاء، لأن أي حديث عن زيادة الإنتاج دون ترشيد الاستهلاك يتبعه الفشل، لا سيما ان حال البلاد كحال باقي الدول العربية تأثر بتناقص الغلة.
تشير بيانات تعود لمؤسسات دولية ومحلية الى ان هناك تقديرات واضحة بأن نحو 70% من المحاصيل التي تعتمد على الامطار الموسمية في محافظة نينوى لم تصل الى مرحلة الحصاد، وبالتالي جزء أساسي من هذا المحصول يُستعمل الان لرعي المواشي وغيره. علماً ان سهل نينوى يُعد سلة خبز العراق تاريخياً.
ويمكن الحديث عن واقع مشابه في الأراضي الزراعية التي تعتمد الأمطار الموسمية في المحافظات الأخرى. وقد شاهدت أثناء عمل صحفي ميداني مؤخراً، كيف تحولت حقول القمح والشعير في منطقة (كرميان) جنوب محافظة السليمانية الى مراع للمواشي ولم يحصد منها المزارعون شيئاً. انه واقع زراعي مرير ولا يلفت أنظار المؤسسات العراقية المختصة ولا وسائل الإعلام المحلية، فكيف يمكن الحديث تالياً، عن تطوير الزراعة وزيادة الإنتاج؟يتم تخزين القمح الذي يتم إحضاره بالشاحنات في مستودعات وصوامع في أربيل ، العراق
إيقاظ العراق
هناك أكثر من موقف وتصريح أدلى به ممثلو الهيئات الدولية في العراق بشأن الغذاء، وضع الحكومة العراقية ومؤسساتها أمام مسؤوليات، لا يمكن التنصل منها بإخفاء الرؤوس في الرمال. ويمكن الاستشهاد هنا بجملة مقتضبة لمديرة التعاون في بعثة الاتحاد الأوروبي في العراق باربارا إيغر اذ قالت، “ان كل عراقي يهدر 120 كيلوغراماً من الطعام سنوياً”. وجاء كلام المسؤولة الأوروبية أثناء الإطلاق الرسمي لاستراتيجيات التنمية المستدامة للدواجن والطماطم في العراق (2022-2026) من قبل وزارة الزراعة العراقية.
ويشمل هذا الهدر جميع أنواع الغذاء، من اللحوم الى الحبوب والخضار والفاكهة. ويمكن العودة بهذا الشأن الى بيانات مشابهة أعلن عنها صلاح الحاج ممثل منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) في العراق. وكشف الحاج لوسائل إعلام محلية عن هدر كميات من الغذاء في العراق تزيد عن 4 ملايين ونصف مليون طن سنوياً، الأمر الذي يؤكد كلام مديرة التعاون في بعثة الاتحاد الأوروبي في العراق بخصوص اهدار الغذاء في بلاد تواجه نقص غير مسبوق في انتاج الغذاء.
قصارى القول، يستوجب الواقع الغذائي برمته، وضع حد للاستهلاك المفرط والهدر قبل حديث عن زيادة انتاج الغذائي والزراعي. ولو نظرنا الى استهلاك الفرد للحبوب في العراق سنوياً، نلاحظ ان هناك فارقاً كبيراً بينه وبين أفراد آخرين في العالم. ففيما تتراوح حصة الفرد من الحبوب في العراق، ومنطقة الشرق الأوسط، بين 140-180 كيلوغرام، تُقدّر حصة الفرد عالمياً بـ 80 كيلوغرام. ويقدّر الاتحاد العربي للصناعات الغذائية معدل استهلاك الفرد العربي من الحبوب بنحو 194 كيلوغرام سنوياً، وذلك بحسب بيانات يعود تاريخ نشرها الى عام 2005.
في كلتا الحالتين، يفوق استهلاك الحبوب في العراق ومنطقة الشرق الأوسط، المعدلات الموجودة في العالم، وهو في النتيجة نمط استهلاكي عال جدا ويترتب عنه هدر كبير لجهة المواد الغذائية الأساسية. وبما ان الاستخدام المستدام للموارد يعد واحداً من الطرق الفعالة للوصول الى التنمية المستدامة، تقتضي الأنماط الاستهلاك الحالية في العراق، تغييراً كبيراً وجذرياً. ولا يمكن دون ذلك، الحديث عن الأمن الغذائي.
يذكر أن العراق من الدول التي فيها برامج حماية اجتماعية حيث هناك برنامج حكومي يتضمن توزيع مواد غذائية أساسية شهرياً، لا يوجد مثله في العديد من الدول في العالم.
تعليقات