خالد سليمان
هل تخيلتم العيش في مدن تحت الأرض هرباً من الحرّ القائظ في مستقبل قريب؟ هل فكرتم بحدوث فيضانات ساحلية تبتلع المدن وتخفيها؟ هل سمعتم بهجرات “عظيمة” ستحدث في مستقبل قريب أيضاً؟ على رغم أن هذه الأسئلة لا تنبع من قصص الخيال العلمي السوداوية، انما وثيقة الصلة بالآداب والفنون والمخيلة الإبداعية.
وقد نجد في القصص الأدبية ما يقرّبنا من معالم العالم البيئية، وذلك بسبب قربنا نحن البشر من الحس السردي أكثر من علوم الطبيعة والفيزياء والكيمياء.
في قصة قصيرة بعنوان (جرافيتي 2042) يتخيل الروائي والقاص البصري، محمد خضير الحياة في مدينة تحت الأرض. يجبر الحرّ اللاّهب السكان على ترك مساكنهم السطحية والإقامة في مدينة جوفية.
تصف القصة حركة ساعي بريد يوزع رسائل تعددت عناوينها وظلّت في صندوق البريد لسنوات طويلة. ويُظهر السارد أحوال سطح مهجور أو مدينة قديمة لا يشير فيها شيء إلى الحياة، حتى سجونه أُخلي من نزلائه وأُطلق سراحهم ليختبئوا في المدينة الجوفية.
لم تبق سوى المقبرة في السطح، يخترق الحرّ كل شيء، انما يخرج ساعي البريد ويخبر صديقاً رساماً له عن اجراء مسابقة لرسوم جدارية تحت لهب الشمس وتنظمها دائرة البريد التي يعمل فيها.
حين يخرج ساعي البريد، يعتمر قبعةً مبطّنة، ويعلّق في مقود دراجته قِربة ماء مدثّرة بالخيش، مع مؤونة غذاء صغيرة، وحزمة من الصحف القديمة، يحجبُ عينيّه بنظارة واسعة العدسات شديدة الإعتام.
الشوارع خالية، النسمات اللافحة تكنس أوراقاً من سجلات الزمان السطحّي المهجور.
وفي اللوحة الجدارية التي يرسمها الفنان، تتوضح ملامح الهلع والظمأ على وجوه كائنات بشرية يهرعون إلى أرض متشققة. نفهم من خلال هذه الصورة بأن موضوع الجدارية أيضاً يتعلق بتغير عنيف حصل في سطح الأرض واضطر السكان على أثره ترك مدينتهم وبناء أخرى تحت الأرض.
ان الأسئلة التي بدأت بها مقالتي هذه، هي في الحقيقة أسئلة مبنية على سيناريوهات مناخية لمستقبل العراق، تتنوع فيها الأسباب والمصادر بخصوص ارتفاع درجات الحرارة، أنما أردت عبر نبوءة محمد خضير السردية، تقريب سيناريو مناخي علمي من سرد مبنى على المخيلة الإبداعية. وبما ان الحس الأدبي طاغ على ثقافاتنا وأنماط حياتنا وتفكيرنا، يقتضي بنا أمر المسألة المناخية إلى تبنى طرق جديدة لتناول ومعالجة الأزمات المناخية.
تالياً، وعلى رغم ان الأسئلة تنطلق من توقعات ومعايير مناخية في ظل سيناريوهات مناخ العالم والمقدمة من قبل الهيئة الحكومية الدولية المعنية بأزمة المناخ، انما يمكن التطرق لها من زوايا سردية-حسية، مما يساعد على إيصال المعلومات وسبل مواجهة التحديات بشكل أفضل.
تسمى المعايير البيئية التي حددتها الهيئة الحكومية الدولية بـ (مسارات التركيز التمثيلية RCPs). يركز سيناريو المسار الأول (RCP2.6) على انبعاثات منخفضة ويهدف إلى إبقاء الاحترار العالمي أقل من 2 درجة مئوية بالمقارنة مع معدل الحرارة قبل العصر الصناعي؛ بينما يركز سيناريو المسار الثاني (RCP6.0) على انبعاثات متوسطة إلى عالية.
ويلخص المساران المعالم المناخية المتوقعة والآثار ذات الصلة على القطاعات المختلفة في العراق حتى عام 2080.
آثار أزمة المناخ على قطاعات المياه والزراعة في العراق
بناءً على هذين المسارين، قدم باحثون في معهد بوتسدام لبحوث آثار المناخ ورقة مناخية بعنوان: موجز مخاطر المناخ في العراق حول آثار أزمة المناخ على قطاعات المياه والزراعة والصحة في العقود القادمة وكيف تتفاعل الآثار بين القطاعات المختلفة وتضخم بعضها البعض في البلاد.
وتشير الورقة العلمية الحالية إلى ان حالات عدم اليقين تعد دائماً جزءاً من توقعات أزمة المناخ. فهي تنشأ من مجموعة متنوعة من العوامل، بما فيها المتغيرات الطبيعية، وعدم اليقين في سيناريوهات انبعاثات غازات الاحتباس الحراري والاختلافات في النماذج المستخدمة بطبيعة الحال.
تالياً، لا يأتي أي توقع مستقبلي لأزمة المناخ دون مستوى معين من عدم اليقين في نطاق التأثيرات أو في اتجاهاته.
آثار أزمة المناخ على العراق و المنطقة
إذا بدأنا من درجة الحرارة، واعتماداً على سيناريو أزمة المناخ، من المرجح جداً أن ترتفع درجة الحرارة في العراق بين 1.6 إلى 2.4 درجة مئوية بحلول عام 2030 بالمقارنة مع درجة الحرارة الحالية والتي بلغت 1.02 بحسب بيانات وكالة ناسا لعام 2020.
وقد يستمر ارتفاع الحرارة ويصل إلى 1.9 و3.2 درجة مئوية بحلول عام 2050. أما بحلول عام 2080 فتبلغ الحرارة وفق سيناريوهات المناخ 1.8 و4.8 درجة مئوية. وسيؤثر ارتفاع درجات حرارة الهواء على البلاد بأكملها، مع أقوى زيادة في الشمال الشرقي.
علاوة على ذلك، من المتوقع أن يرتفع العدد السنوي للأيام شديدة الحرارة (مع الدرجات الحرارة القصوى تزيد عن 35 درجة مئوية) بدرجة عالية من اليقين في جميع أنحاء العراق وسيكون الارتفاع الأعلى في شمال شرق وغرب العراق.
تعرّض ما بين 12 إلى 36 ٪ من إجمالي السكان في العراق لموجات حر سنويًا بحلول عام 2030.
وسيستمر التعرض لموجات الحر في الزيادة بشكل حاد حتى عام 2080 في ظل كل من السيناريو الأول والثاني.
ويبقى عدم اليقين في النمذجة بشأن حجم الزيادة، كبير نسبياً ويصبح أكثر وضوحاً بحسب الباحثين اعتباراً من عام 2050 وما بعده.
التعرض العالي للحرارة وقدرات التكيف المحدودة تجعل من العراق شديد التأثر بالآثار الصحية لأزمة المناخ. من المحتمل جداً أن يسبب ارتفاع درجات الحرارة وتزايد الأيام شديدة الحرارة، ارتفاع معدل الوفيات.
وفقًا لأفضل التقديرات، ستزداد الوفيات المرتبطة بالحرارة من 1.6 حالة وفاة لكل مئة ألف شخص لعام 2000 إلى 3.0 في حالة الانبعاثات المنخفضة، أي السيناريو الأول، و3.2 وفاة في حالة الانبعاثات المتوسطة والعالية، أي السيناريو الثاني في عام 2030.
وبحلول عام 2080، سترتفع الوفيات المرتبطة بالوضع المناخي المتغير إلى 3.8 وفق تقديرات السيناريو الأول، بينما تصل النسبة إلى7.4 وفق السيناريو الثاني لكل 100000 شخص سنويًا.
ولا تقتصر آثار أزمة المناخ على العراق وحده في المنطقة، حيث من الممكن ان تتجاوز درجات الحرارة القصوى عتبة سكن الإنسان في العديد من المدن في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في نهاية القرن. ذلك وفقاً لنفس الدراسة التي كتبها الباحثون في معهد بوتسدام لبحوث آثار المناخ.
تزايد المخاوف بشأن آثار أزمة المناخ في العراق
وفق تقديرات كلا المسارين، يتوقع إلى حد كبير أن تغمر المياه ثاني أكبر مدينة في العراق، البصرة، بحلول عام 2050. وتشير التقديرات إلى ارتفاع مستوى سطح البحر بين 30.2 إلى 36.1 سم بحلول عام 2080. تزامناً مع ذلك، من المرجح جداً أن ينخفض نصيب الفرد من المياه المتاحة بشكل حاد في ظل كلا المسارين بحلول عم 2080.
ففي ظل المسار الأول تنخفض حصة الفرد إلى 541 متر مكعب سنوياً، و384 متر مكعب في ظل المسار الثاني. وحين نأخذ الازدياد السكاني (80 مليون بحلول عام 2080) بنظر الاعتبار، يرجح ان ينخفض نصيب الفرد من المياه المتاحة بشكل حاد في ظل كلا المسارين وقد يصل إلى 116-161 متر مكعب سنوياً.
من شأن كل ذلك ترك آثار مباشرة على إنتاجية الغذاء في العراق، الحبوب بشكل خاص. يذكر ان الإنتاج الزراعي في البلاد انخفض من 26٪ عام 1995 إلى 6٪ عام 2000.
وعلى رغم عدم اليقين في النمذجة المناخية، من المرجح أن يتأثر الناتج المحلي الإجمالي العراقي بارتفاع درجات الحرارة. اعتماداً على سيناريو انبعاثات غازات الدفيئة، يحتمل أن يتعرض ما يقرب من 13 إلى 35٪ من الناتج المحلي الإجمالي للعراق لموجات الحر بحلول عام 2030، ويزداد تعرض الناتج المحلي للحرّ وقد يصل إلى 28 إلى 57٪ بحلول عام 2080.
وهناك اختلافات كما جاء في الدراسة بشأن التوقعات حول الأنواع والتنوع الأحيائي في العراق، ففيما تتوقع بعض النماذج المقدَمة زيادة في ثراء الأنواع، تتوقع نماذج أخرى انخفاض للأنواع على المدى الطويل.
وفق سيناريو درجات الحرارة المتوسطة والعليا، من المتوقع أن ينخفض ثراء الأنواع بنسبة تصل إلى 19٪ في أجزاء من إقليم كُردستان حيث يعتبر من المناطق الغنية من ناحية التنوع البيولوجي في العراق.
بناءً على الصورة المقدَمة (مع عدم اليقين)، كيف نتخيل الحياة في العراق بعد 80 عاماً، هل نبني مدن في جوف الأرض، ونحضر العدة لمواجهة الحرارة: قبعات سميكة ومبطّنة، ونظارات شديدة الإعتام كما في (جرافيتي 2042)، أم نفكر بشيء آخر يجنبنا من السيناريوهات المتخيلة؟
وبما أن أزمة المناخ وآثارها التي لم تظهر كاملة بعد، ليس مبنياً على سيناريو افتراضي وتصبح التوقعات واقعاً ملموساً (بدرجة عالية من الثقة) بعد عقود من الآن، يستوجب الأمر إعادة التفكير بمجمل أنماط عيشنا.
من قطرة ماء نهدرها إلى لقمة غذاء نرميها في سلة المخلفات، من طفل نخلفه ونضعه في قلب عالم “ساخن” دون إرادته إلى فقدان النظم البيئية، موارد الغذاء، السكن ومستلزمات العيش. سوف لن يحمينا التعتيم من الحرارة الحارقة، علينا شدّ الأحزمة والبطون والرغبات، دون ذلك لا يمكننا المواجهة.
تعليقات