خالد سليمان
نصف شتاء
كتب الشاعر والمغني الكندي الفرانكفوني، جيل فينيون، “بلدي ليس بلد، بلدي هو شتاء”. انه وصف شعري كتب قبل عقود لبلد شمالي، أصبح تناقص الأيام الثلجية واحداً من معالمه المناخية اليوم.
وقد لا يمنحنا الوصف الشعري هذا، ذات المتعة الشمالية الفائقة التي طالما التصقت بذاكرة أجيال من الكنديين الفرنسيين، ولا يمكن ترجمته بجميع الأحوال، انما يجوز تعريبه بمقاييس المناخ العراقي على النحو التالي: بلدي لم يعد بلداً؛ انه صيف طويل، يتخلله شتاء خجول.
لقد أصبح عمر الشتاء في العراق أقصر من عمر فراشة بعد الخروج من شرنقتها وقدرتها على الطيران.
يقول الصحفي والناشط البيئي حسام صبحي، “لم يبق في العراق شيء اسمه فصول، هناك صيف طويل وربع شتاء، بل أقل من ذلك”.
وفي هذا الشتاء القصير، يختلف مزاج الانسان العراقي بحسب وصف حسام ويصبح أقل انفعالاً ” فحين نقابله في الشارع يلقي التحية ويبدو منفتحاً على الأحاديث العامة، بينما نجده في الصيف غاضباً حتى من ظله ولا يطيق الكلام مع أحد” انه ربع هدوء لا يتجاوز أيام الشتاء المعدودة.
وما يزيد من صعوبة ارتفاع درجات الحرارة التي اجتازت نصف الغليان في غالبية مدن العراق الجنوبية، هو انقطاع التيار الكهربائي المستمر.
ففي مدينة البصرة، اقصى جنوبي البلاد، حيث أعلنت الحكومة المحلية فيها عطلة اضطرارية لمدة أربعة أيام في جميع مؤسسات الدولة باستثناء القطاعات الخدمية بما فيها الصحة والقوات الأمنية جراء الحرارة،
لا تتجاوز ساعات توفير الكهرباء 10 ساعات في اليوم. وهو أمر يجعل الحياة اليومية العامة أشبه بجحيم بحسب وصف أكثر من مواطن بصري تحدثت معه.
وما يجعل الحياة أكثر صعوبة في البصرة في ظل نصف الغليان وانقطاع التيار المستمر، هو رطوبة عالية جداً وملوحة مياه الإسالة التي من المفترض ان تصلح للاستخدام البشري، ناهيك بأعداد هائلة من مولدات توليد الكهرباء التي تفاقم الحرارة المرتفعة والتلوث والضجيج.
نصف اقتصاد
بحسب وزير البيئة العراقي جاسم حمادي، خسائر العراق الاقتصادية في يوم مُغبر واحد تتجاوز 7 ملايين دولار أمريكي، فيما تشير بيانات تعود الى البنك الدولي الى ان موازنة العراق العامة تخسر ما يقارب 10 مليار دولار سنوياً جراء التدهور البيئي.
وهذه الخسارات ناتجة عن تأثر حركة النقل البري والجوي، تصدير النفط، التصحر، شح المياه والصحة العامة بآثار تغير المناخ والتدهور البيئي الحاصل في العراق.
انها تالياً، أرقام لا تشمل الاقتصاديات الصغيرة، أي المجالات الاقتصادية الصغيرة، انما حيوية وتوفر دخل العائلة العراقية اليومي.
ولو عدنا الى تفاصيل الحياة العامة التي طالما طواها النسيان الحكومي، نلاحظ ان ارتفاع درجات الحرارة له تأثير أكبر على المردود الاقتصادي لذوي الدخل المحدود، تحديداً “الكسبة” الذين يعتاشون على البسطات والمحال التجارية والمهن المختلفة مثل النجارة والحدادة والبناء، ذلك ان هذه الأعمال الصغيرة تتوقف بصورة كلية أو جزئية في أغلب الأوقات بسبب قلة ارتياد المواطنين على التسوق.
يقول حسين وادي من مدينة البصرة، وهو صحفي وعمل في الصحافة الاقتصادية بمدينته لسنوات، “يمكنني القول من خلال تجربتي الشخصية، بأن نشاطي الاقتصادي في ظل الحرارة يقلّ إلى النصف، فضلا عن تأجيل اي شيء اخر يحتاج إلى لمسات إبداعية، ما يؤثر سلباً على دقة وجودة العمل”.
أن الحر الشديد برأي حسين مع القطع المتكرر للتيار الكهربائي، يساهم في زيادة التوتر الشديد ونقص في الحركة وشلّ تام للفكرة والناتج الجيد.
وعلى رغم انه يعمل ويدير قسم الاتصالات لشركة خاصة وملتزم بالدوام الرسمي، الا ان حسين يحاول قدر المستطاع تأجيل الكثير من المواعيد والواجبات إلى نهاية موجة الحر.
“لا يمكن ان يتخيل المرء، إلّا من جرّبها، كيف تسبب آثار ارتفاع درجات الحرارة إلى نصف الغليان مع موجات رطوبة عالية، المزاجية والعصبية بدراجة عالية بين الناس! الأمر الذي يزيد حتى من حوادث السير” يقول متحدثي.
البصرة ليست جنة البساتين
وما يزيد العبء على كاهل السكان اقتصادياً ونفسياً في مدينة البصرة التي تتصدر ثمان مدن عراقية ضمن 15 مدينة الأكثر سخونة في العالم، هو ملوحة مياه الإسالة التي لا تنفع للاستهلاك البشري، الأمر الذي يجبر المواطنين على شراء الماء ليس للشرب والطبخ فحسب، بل حتى للغسل والاستحمام والاستخدامات المنزلية الأخرى.
يذكر ان مياه الإسالة التي من المفترض ان تكون صالحة للشرب والطبخ والاستهلاك البشري العام، تحتوي على تراكيز ملحية عالية، أو ملوثة وغير صافية من حيث اللون والطعم والرائحة.
وتعاني أغلب مناطق البصرة من هذه الأزمة المائية التي تكلف حياة السكان صحياً واقتصادياً.
فمنذ السنوات الأخيرة من حكم نظام صدام حسين الى اليوم، يشتري سكان هذه المحافظة الجنوبية الغنية بالنفط والغاز، المياه الصالحة للاستخدام البشري، وهي أما مياه معبئة، باهظة الثمن ولا يتحمل ذوي الدخل المحدود دفع تكاليفها، أو مياه (الحوضيات) بحسب اللهجة البصرية الدارجة.
والحوضيات هي عبارة عن محطات لتنقية المياه اُستحدثت بعد 2003، يباع ألف ليتر منها بـ 7 دولار، والمواطن البصري مجبر على شرائها، لأن استخدام المياه الجارية في شبكات التوزيع الحكومية يعرض المستهلك للتسمم، والأمراض الجلدية.
ولا تقتصر أضرار الاستخدام على الشرب والطبخ فقط، بل حتى الاستحمام والغسل. ويرتبط ازدياد الملوحة بشكل مباشرة بصعود لسان ملحي من الخليج نحو شط العرب،
وذلك جراء قلة التدفق المائي في نهري دجلة والفرات لصد اللسان الملحي، الأمر الذي ساهم في تفاقم أزمة المياه والملوحة في البصرة، التي لم تعد “جنة البساتين” كما أسماها الشاعر العراقي الراحل مهدي محمد علي في كتاب بالعنوان ذاته.
نصف بيت ونصف عراق
وبما ان إعلان العُطل الطارئة الناتجة عن ارتفاع درجات الحرارة يرتبط بقلة الخدمات، الكهرباء تحديداً، في المؤسسات الحكومية التي من المفترض ان تكون خدمية، علينا ان نفكر بالمكان الذي يقضي فيها الموظفون العطلة، وماذا يعملون في بيت تجتاز الحرارة عتبته في ظل انقطاع التيار المستمر، انه نصف بيت فإلى أين يذهب الناس، هل من مكان؟
مثل هذه الأسئلة مدفوعة بتفحص العراق من الناحية الثقافية، الفنية الترفيهية والسياحية أيضاً، فباستثناء مراكز التسوق المغلقة والغالية في الأحياء والمناطق الغنية، تفتقر المدن الأخرى، بما فيها العاصمة بغداد، الى صالات السينما الحديثة والمكيفة، بينما تعتمي المسارح المتبقية من الإهمال المستمر علاوة على غياب الأماكن الترفيهية، ولا حرج في الحديث عن بؤس القطاع السياحي والآثار والمتاحف. إذاً، الى أين يذهب الناس؟
على رغم الشمس الحارقة، قد تكون ساحات الاحتجاج وجهة لتفريغ سخطهم وغضبهم عما يعيشون، انما لماذا أصبحت بلادهم الأكثر سخونة في العالم وهل من حلول من شأنها انتشال “وادي الرافدين” من أزمته البيئية المستفحلة، بينما روجت عنه طوال التاريخ الحديث صورة رومانسية في الكتب المدرسية من ناحية الفصول والمناخ؟
قصارى القول، لم يعد العراق يشبه نفسه، انه اليوم من بين أكثر دول العالم فقراً في إدارة الموارد الطبيعية المتجددة، يعتمد على الوقود الأحفوري للحصول على أكثر من 90 في المئة من إجمالي عائداته الوطنية. وتتخلل هذا القطاع مصالح سياسية راسخة وفساد مستشري ومنظم على مستوى عال، فضلاً عن تحديات كبيرة تتعلق بالحروب المتتالية والتكاثر السكاني المفرط وغياب الحوكمة وعدم الاستقرار، مما يشلّ المؤسسات الاقتصادية والقانونية والتعليمية والإدارة المستدامة للنظم البيئية.
لقد أوصلت كل تلك الأسباب العراق الى نصف عراق يصطدم مع نفسه كلما فاضت موجات الحرّ القائظ وما يصاحبها من المشقة.
وفي غياب استراتيجية وطنية من شأنها استعادة النظم البيئية والتقليل من أخطار آثار تغير المناخ، يلفّ النسيان كل شيء ولا محاولات في الأفق لدرء الأخطار المحدقة بالصحة والاقتصاد والزراعة والغذاء.
يلقي المسؤولون العراقيون، بما فيها وزير البيئة، اللوم على تغير المناخ ولا أحد يسأل لماذا وصل العراق هذا المستوى من “الانحطاط البيئي” ان جازت التسمية؟
انهم يحتاجون الى قواعد “المبتدأ والخير” البيئية، ذلك ان تجريف بساتين النخيل، الافراط في حفر المزيد من الآبار بحثاً عن النفط، تلويث ما بقي من المياه الجارية وتخريب النظم البيئية، لا يدخل ضمن تعريفات المناخ المتغير، أنه تدهور بيئي ناتج عن نظام حكم فقير وبائس جعل من بلاد الرافدين واد حاف.
في النهاية مَن يستعيد ويربح العراق ويعيد له نصفه الثاني، هو مَن يستعيد عافية أنظمته البيئية.
تعليقات