خالد سليمان
24/11/2022
المياه الجوفية.. هل هي مصدر متجدد؟
- تم توثيق الكثير من آثار ندرة المياه على حياة الناس
- أغلب الدول العربية تلجأ إلى سحب المياه الجوفية
المياه الجوفية
“تقع مدينة النجف على بحر في جوف الأرض ولن تتأثر بندرة المياه السطحية مستقبلاً”.. هذا ما قاله لي أحد الزملاء العراقيين أثناء تجولنا في هذه المدينة الواقعة في الفرات الأوسط في العراق عام 2018.
كنت أبحث حينئذ عن القصص والحكايات العراقية عن المياه وعلاقتها بالموروث الاجتماعي والثقافي والفني، وكيفية تأثر البلاد وجودياً بندرة هذ المصدر الطبيعي الثمين في حال استمرار فصول الجفاف، وتناقص التدفق في الأنهر القادمة من تركيا وإيران.
جاء كلام زميلي كنوع من التقليل لحدة التخوف تجاه مستقبل البلاد المائي أثناء أحاديثنا، بخاصة أننا وبعد زيارات ميدانية لمدن ومسطحات مائية في الجنوبي العراقي وثقنا الكثير من آثار ندرة المياه على حياة الناس.
لا يقتصر هذا التصور السائد على العراقيين الذين يلجؤون إلى سحب المياه من باطن الأرض بكميات هائلة كلما اشتدت أزمة المياه السطحية، بل هو حال غالبية البلدان العربية، دون أن تسنده العلوم الجيولوجية بخصوص وفرة المياه الجوفية بالكميات التي تُروج لها الشائعات الشعبية. وهناك اعتقاد شائع في الأردن التي تعد دولة فقيرة مائياً على مستوى العالم، بوجود طبقة مشبعة بالمياه من الصخور الرملية تحت الأرض في جميع مناطق المملكة الأردنية ويمكن سحب الماء منها قدر ما نشاء.
يساهم مثل التصور الراسخ في الوعي الشعبي في الاستخدام المفرط للمياه الجوفية ولجوء السكان إلى سحبها
يساهم مثل التصور الراسخ في الوعي الشعبي في الاستخدام المفرط للمياه الجوفية ولجوء السكان إلى سحبها كمصدر لا نهائي من أجل الزراعة والشرب والأغراض الأخرى. ولكن السؤال هنا: هل هذا المصدر الجوفي متجدد، وهل يمثل الحل الأمثل لتجنب التهديدات المتعلقة بالأمن الغذائي واستقرار المجتمعات العربية، والى متى يستمر باطن الأرض في العطاء؟ إنه في الحقيقة مورد طبيعي محدود ويتعلق تجديده بالكميات المتوفرة على سطح الأرض وبالمواسم المطرية. تتناقص كمياته كلما تم الافراط في استغلاله.
الاستخدام المفرط
لقد ظلت المياه الجوفية التي تعد أكثر الموارد العذبة السائلة وفرة في العالم، بعيدة عن الأنظار لفترة طويلة، إنما أسباب عدة مثل تغير المناخ، التكاثر السكاني والزراعة، وضعتها في قلب الأزمة البيئية التي تعاني منها البلدان العربية.
ففي الأردن تغطي المياه الجوفية ما يقارب 60 في المئة من الاستخدامات مقارنة بنحو 27 في المئة من استخدامات المياه السطحية. وفي تونس تتوزع المياه الجوفية بنسب متفاوتة حسب المناطق، وتأتي المناطق الجنوبية في مقدمة المناطق الفقيرة والأكثر استخداماً لهذه الثروة الطبيعية غير المتجددة في ظل انحسار الأمطار. الملف للنظر هو استغلال المياه الجوفية بنسبة 120 في المئة عبر عشرات الآلاف من الآبار الارتوازية في الجنوب التونسي.
وتناقصت المياه الجوفية جراء الاستخدام المفرط في بلدان الخليج، العراق وسوريا الى مستويات غير مسبوقة في تاريخها، مما يقتضي اتّباع سياسية بيئية جديدة، ذلك أن المياه الجوفية لا تشكل عصب إنتاج الغذاء والاقتصاد فحسب، بل المورد الأهم في مواجهة تغير المناخ؛ ولا يمكن اعتماد الحلول القائمة على الطبيعة دون وفرة المياه. تناقص مستوى المياه الجوفية في الإمارات حوالي متر واحد كل عام خلال السنوات الثلاثين الماضية، وإذا استمر الاستغلال بالمعدل الحالي يقدر أن تستنفد الإمارات مواردها من المياه العذبة الطبيعية خلال 50 السنة القادمة.
يمكن القول في هذا السياق بأن حالة مدينة أربيل في إقليم كُردستان العراق من ناحية المخزون الأرضي للمياه، تقدم صورة صادمة وقد تؤدي الى الاستنفاد في غضون سنوات، وذلك بسبب توسع عمراني سريع بعد عام 2003 على حساب المياه الجوفية التي تغطي أكثر من 60٪ من احتياجات السكان.
كان عمق الآبار يتراوح بين 200 الى 250 متر عام 2000 بينما وصل الى 600 متر عام 2022. وقد أظهرت بحوث تستند الى صور الأقمار الصناعية من وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) في عام 2015، أن العديد من خزانات المياه الجوفية الكبيرة في العالم يتم استنفادها بمعدل أسرع بكثير مما يمكن تجديده أو إعادة شحنه.
ملوثات الأرض
إضافة الى الاستخدام غير المستدام يشكل التلوث، التحدي الأكبر أمام المياه الجوفية، سيما أن إدارة المخلفات في البلدان العربية لا تحتل الأولويات في السياسات العامة. ففي الصناعة النفطية ومشتقاتها على سبيل المثال لم تُؤخذ المياه الجوفية بنظر الاعتبار أثناء عمليات الحفر والتصفية والإنتاج، ما يزيد الخطورة على مصادر الماء الجوفية. وبحسب الأبحاث العلمية يجب أن يكون حفر الآبار بحثاً عن النفط بعيداً عن حوض مائي تحت الأرض بمسافة كيلومتر واحد، عكس ذلك من شأن الحفر فتح ممرات يتسرب من خلالها النفط الى المصادر المائية.
إلى جانب ذلك تعد أنظمة الصرف الصحّي في العالم العربي سبباً آخر من أسباب تلوث المياه الجوفية بخاصة أن العديد من المنازل والمكاتب والمباني المختلفة والشركات تفرغ المخلفات في الطبيعة دون المعالجة.
من شأن ذلك تسريب العديد من الفيروسات، والبكتيريا، والمواد الكيميائية المنزلية إلى المياه الجوفية. وتشكل مدافن النفايات الخطر الأكبر على مياهنا الراكدة في باطن الأرض.
لا تقتصر الملوثات على المخلفات والنشاط البشري، بل تساهم ملوّثات الغلاف الجويّ أيضاً في تدهور الأحواض الجوفية، خاصة ان المنطقة العربية، إضافة الى التلوث الجوي جراء الصناعة النفطية والنشاط الصناعي والبشري والزراعي، تعاني منذ السنوات من عواصف غبارية متكررة. وبما ان المياه الجوفية جزء من دورة المياه الطبيعية؛ فإنّ تلوّث الغلاف الجويّ قد يصل تأثيره إلى مصادر المياه المختلفة ومنها الجوفيّة خلال دورة المياه وانتقالها بين طبقات الأرض.
من شأن كل تلك الأسباب ترك آثار مباشرة على الأمن الغذائي للمجتمعات، إضافة الى تدهور النظام البيئي الجوفي، ذلك ان المياه الراكدة في عمق الأرض تعد منظماً حاسماً للظروف المائية الشديدة مثل الفيضانات والجفاف ناهيك بحرارة الأرض الداخلية. وتشير أبحاث علمية الى ان استخراج أكثر من 25٪ من الموارد الجوفية يؤثر سلباً على المنظم الحراري في جوف الأرض.
تالياً، نحن بحمايتنا للمورد المائي الجوفي نحافظ على النظم البيئية، ونحسِّن الصحة، ونحد من الجوع، ونتصدى لتغير المناخ دفعة واحدة. لذلك يجب علينا زيادة فهم أهمية المياه الجوفية حتى نتمكن من تحسين إدارتها وسبل حمايتها.
تشكل المياه الجوفية 99 في المئة من جميع المياه العذبة غير المتجمدة. فهي تزود ما يقارب من نصف سكان العالم بمياه الشرب وتساهم في حوالي نصف الإنتاج الغذائي العالمي. وتعد المياه الجوفية بالنسبة لحوالي 2.5 مليار شخص في العالم المصدر الوحيد لإدامة الحياة. ولكن لا تكمن الأهمية في توفير مياه الشرب وري المحاصيل فقط، بل في دعم الحياة وإدامتها على الأرض.
يقول العالم السويدي في المياه الجوفية جون شيري: “نحن بحاجة ماسة لرفع مستوى الوعي بأهمية المياه الجوفية، إنها المياه الأساسية لعالمنا البيئي وتدعم الأنهار والبحيرات والأراضي الخثة والأراضي الرطبة وكل شيء. وأصبحت المياه الجوفية أكثر أهمية بالنسبة للبشر أيضاً. ما يقارب من نصف سكان العالم يشربون المياه الجوفية اليوم. عندما يكون على كوكبنا ملياري أو ثلاث مليارات نسمة إضافية في السنوات القادمة، سيعتمد معظمهم على المياه الجوفية.”
بعكس المعتقدات الشعبية الشائعة بين الكثير من الناس الذين يرون بأن المياه الجوفية هي مصدر أصلي ولانهائي في العطاء، يرى العالم السويدي بانها مهددة من قبل النشاط البشري والاستخدام غير المستدام، ناهيك بالملوثات. ومن هذا المنطق يؤكد جون شيري على ضرورة توجيه سياسات وقوانين ومداولات جماعية آنية ومستقبلية حيث يتوجب على الحكومات إنشاؤها لحماية المياه، وهي أهم مواردنا وأكثرها تعرضاً للخطر.
وعلى رغم أن حماية المياه الجوفية وسبل تنظيمها تعد عمليةً مكلفةً ومعقدة؛ وقد يستمر تلوّث المياه الجوفيّة لسنوات عديدة، الا ان المحافظة عبر التدابير المنزلية والتخلص من النفايات وترميم مصارف الصرف الصحي والتقليل من استخدام المواد الكيمياوية والمبيدات الحشرية، مهمّةً للغاية. أما في البلدان المنتجة للنفط فتقتضي حماية المياه الجوفية قوانين وتشريعات بيئية جديدة تعطي الأفضلية للأحواض المائية الجوفية أثناء الحفر والتنقيب. وكذلك الأمر بالنسبة للمشاريع العمرانية والصناعية.
اختصاراً، وبعد فقدان كميات هائلة من المياه السطحية جراء سوء الاستغلال والاحترار والتلوث، العالم العربي مُطالب بالمصالحة مع مصادر المياه الجوفية، وذلك عبر تشريعات جديدة وبرامج اجتماعية وتربوية وثقافية من شأنها الحدّ من النشاطات البشرية المسبّبة لتلوّث المياه.
تعليقات