خالد سليمان
وفق تقسيم العالم بين الفقراء والأثرياء، فتحت عينيّ في منزل طيني بقرية نائية جنوب العالم. في تلك القرية المنسية في إقليم كُردستان العراق، لم نكن نملك سوى آبار كانت تجف صيفاً، وأشجار توت معدودة تجلب لنا طيوراً مقيمة حيناً وبرّية مهاجرة حيناً آخر. حين بلغت الثلاثين من العمر، غابت طيور مهاجرة كثيرة عن أنظارنا، بما فيها طير الزرزور الجميل الذي كان يشاركنا في حراثة التربة شتاءً.
بحسب تقويم والدي، يعود زمن ولادتي الى فصل عودة الزرزور، ذلك الطير الأسود المنقط بالأبيض، الذي كان حضوره بيننا يعد بشتاء رطبٍ وممطر. منذ العقد الرابع من عمري، صار المناخ يتغير يوماً بعد يوم، فقد غاب الزرزور مع أنواع أخرى من الطيور. تناقص هطول الأمطار وتدهورت التربة، الأمر الذي زاد من حيرتي تجاه البيئة التي ولدت وكبرت فيها. ولو رويت لجيل ابني وابنتي قصة ولادتي وعلاقتها بالشتاء وعودة الزرزور إلى منطقتنا، لاحتجت الى رسم الطير بالألوان، ذلك أنه هجرنا كلياً ولم يعد ممكناً التعرّف عليه سوى عبر رسمه بالألوان أو من خلال صور له.
إنها ليست قصة ذاتية، بل قصة أجيال ولدت وكبرت في الخمسين سنة الأخيرة. هناك مَن ولدته المدن تحت الأضواء، وهناك مَن ولد في الظلام ولم يشهد على مجيئه الى العالم سوى قنديل وقابِلة؛ إنما كُلنا نشهد على أن التاريخ كذب علينا. تاريخ لم يوثق يوماً ما كان يشير في لحظة ولادتنا الى احتمال فقدان بيئتنا وتنوعها الأحيائي، واحتمال فقداننا بطبيعة الحال.
رويت هذه القصة كي أقول: قبل نصف قرن حيث ولدت وولد جيلي، كانت شركات الطاقة العالمية تعلم بأن الانبعاثات الحرارية تهلك البشرية والنظم البيئية في المستقبل القريب، لكنها أخفت المعلومات عن الجميع واستمرت في إلحاق مزيد من الأضرار بالأرض. لقد ولدنا في الظلام.
بما أن التأثير الأكبر لتغير المناخ على النظم البيئية والبشرية حصل في الخمسين سنة الأخيرة، ويقدّر حجمه بمليارات من الطاقة الحرارية المضافة الى نظام الأرض، علينا أن نفكر بالعقود الخمسة المقبلة.
كشف متأخر
في عام 2015، كشف صحافيون استقصائيون عن وثائق داخلية تعود الى شركة “إيكسون موبيل” النفطية العملاقة، وتحتوي على معرفة تامة بالأضرار التي تلحقها صناعات الوقود الأحفوري بحرارة مناخ الأرض. كان متوسط الاحترار المتوقع في وثائق الشركة يتراوح بين 0.20 الى 0.04 درجة مئوية لكل عقد، وهي، من دون اليقين، التوقعات الأكاديمية والحكومية المستقلة نفسها التي نُشرت في العقود الأخيرة.
تتعلق الوثائق التي أخفتها الشركة عن الصحافة والرأي العام لعقود، بآثار بيئية دراماتيكية تتركها صناعات الوقود الأحفوري قبل عام 2050. وهناك وثائق إضافية تُظهر أن أكبر اتحاد تجاري لصناعة النفط والغاز في الولايات المتحدة كان يعلم بالآثار ذاتها منذ خمسينات القرن الماضي على الأقل. وفي السياق ذاتها، كانت البحوث في قطاع صناعة الفحم تشير الى النتائج التي توصلت اليها “إيكسون موبيل” منذ الستينات، أما المرافق الكهربائية، وشركة توتال للنفط، وشركات محركات جنرال موتورز وفورد، فكانت على علم بذلك كله منذ بداية السبعينات على الأقل.
حلّل العلماء والصحافيون النصوص الواردة في وثائق الشركة، ووجدوا روايات نوعية عن معرفة الباحثين الذي قدموا تصوراتهم العلمية عن تغير المناخ وآثاره لصالح الشركة. من الناحية الأولى، بدا برنامج أبحاث المناخ المكثف للشركة موثقاً جيداً. من الناحية الثانية، كانت الوثائق تحتوي على مجموعة كبيرة من التوقعات سجلتها “إيكسون موبيل” بشأن الاحترار العالمي، ما سمح للعلماء بتطوير صورة متماسكة وفهم مبكر لعلوم المناخ من جهة صناعية واحدة. وتحدت الشركة تلك التحذيرات العلمية كلها واستمرت في نشاطاتها، فضلاً عن إخفاء المعلومات عن الصحافة والرأي العام.
أعشاش حرارية على الكوكب
بعد مرور خمسة عقود على إجراء تلك البحوث وإخفاء نتائجها، نبدو نحن البشر وكأننا نقيم في أعشاش حرارية على اليابسة كما في البحار. ومن الآن فصاعداً، أحسب عُمري وعمر جيلي بناءً على كم الخسائر الملحقة بالأرض والمخاوف الوجودية التي أصبحت مقاساً لتعداد السنوات والعقود.
أحسب بأن العام الذي ولدت فيه، ليس موصولاً باليوم من الناحية الزمنية؛ بل إنه موصول بـ 25 مليار قنبلة نووية قادرة على إخراج الأرض من منطقة الاعتدال المناخي وإنهاء الحياة فوقها. ولكن لماذا وكيف؟
منذ القرن التاسع، تواصل البشرية إخراج الوقود الأحفوري من مخازنه الآمنة في أعماق الأرض وحرقه بغية توليد الكهرباء وتشغيل آلات الطاقة والمزيد من رؤوس الأموال، ناهيك باستخدام مفرط للغاية للموارد الطبيعية الأخرى.
بذلك، حولت الفحم والنفط والغاز إلى أكثر من تريليوني طن من ثاني أكسيد الكربون والغازات الدفيئة الأخرى وأطلقتها إلى الجو. وجعلت من الغابات الطبيعية مصانع لإنتاج مزيد من اللحوم وتكديس الغذاء في المخازن. لقد خرّبت البشرية الغلاف الذي يحمي الأرض منذ مليارات السنين؛ ألا وهو الغلاف الجوي.
إن دلّ ذلك على شيء إنما يدلّ على أن الحضارة البشرية، ومنذ الثورة الصناعية الأوروبية التي نجمت عن اختراع المحرك البخاري في بريطانيا (1712)، تواصل زرع أعشاش حرارية على الأرض وفي مياهها. ترليونان طن من الغازات المحتجزة للحرارة على الأرض؛ إنه رقم مهول يُضاف الى تاريخ الحضارة البشرية، ومن شأنه تسخين بحارنا الى نصف الغليان في القرون المقبلة. ماذا يحدث؟
ارتفع متوسط درجة الحرارة على سطح الكوكب بنحو 1.2 ℃ مما كان عليه في عصر ما قبل الصناعة. وذلك لأن إضافة غازات دفيئة جديدة إلى دورة الغازات الطبيعية في الغلاف الجوي، تسببت في حصول خلل كبير في كمية الطاقة التي تدخل نظام الأرض وتخرج منه. علماً أن الكوكب بأكمله يتطلب قدراً كبيراً وغير عادي من الطاقة الإضافية كي يسخن، إنما تمكنت البشرية في الـ 50 السنة الماضية من إضافة كميات من الطاقة الى نظام مناخ الأرض توازي 25 مليار قنبلة نووية.
هل نقترب من كوكبي الزهرة وعطارد؟
والحال هذه، هل نقترب من كوكب الزهرة من ناحية الحرارة؟ يقتضي الأمر هنا قليلاً من الشرح. فنحن نعيش على ثالث أقرب كوكب الى الشمس، ويفصلنا عنها كوكبا عطارد والزهرة. وما يساعدنا على البقاء، هو أن الغلاف الجوي يتكون من غازات (ثاني أكسيد الكربون، ميثان، نيتروجين، ذريات المياه. الخ) تحبس الحرارة وتحمي الأرض من التجمد، ولكن إذا ازدادت كثافة هذه الغازات الدفيئة، فستؤدي الى تسخين الكوكب وإخراجه من منطقة الاعتدال. تمنع الغازات المذكورة تجمد الأرض تحت 18 درجة مئوية وتحميها في تخوم 14 درجة مئوية، ما يتيح الحياة والسكن للأنواع.
تبلغ درجة الحرارة على كوكب الزهرة، وهو ثاني أقرب كوكب الى الشمس بعد كوكب عطارد، 471 درجة مئوية؛ أي 33 مرة أعلى من حرارة الأرض، وذلك بسبب سمك غلافها الجوي واحتجازها قدراً أكبر بكثير من الغازات الدفيئة الموجودة في الغلاف الجوي للأرض. في المقابل، تبلغ درجة حرارة الكوكب الأقرب الى لشمس وهو عطارد، 167 درجة مئوية، أي 12 مرة أعلى من حرارة الأرض. ويرجح العلماء أن كوكب عطارد رغم أنه الكوكب الأقرب الى الشمس، جعله افتقاده الى الغلاف الجوي أقل سخونة من الزهرة.
بحسب تقويم والدي، يعود زمن ولادتي الى فصل عودة الزرزور، ذلك الطير الأسود المنقط بالأبيض، الذي كان حضوره بيننا يعد بشتاء رطبٍ وممطر. منذ العقد الرابع من عمري، صار المناخ يتغير يوماً بعد يوم، فقد غاب الزرزور مع أنواع أخرى من الطيور. تناقص هطول الأمطار وتدهورت التربة، الأمر الذي زاد من حيرتي تجاه البيئة التي ولدت وكبرت فيها. ولو رويت لجيل ابني وابنتي قصة ولادتي وعلاقتها بالشتاء وعودة الزرزور إلى منطقتنا، لاحتجت الى رسم الطير بالألوان، ذلك أنه هجرنا كلياً ولم يعد ممكناً التعرّف عليه سوى عبر رسمه بالألوان أو من خلال صور له.
إنها ليست قصة ذاتية، بل قصة أجيال ولدت وكبرت في الخمسين سنة الأخيرة. هناك مَن ولدته المدن تحت الأضواء، وهناك مَن ولد في الظلام ولم يشهد على مجيئه الى العالم سوى قنديل وقابِلة؛ إنما كُلنا نشهد على أن التاريخ كذب علينا. تاريخ لم يوثق يوماً ما كان يشير في لحظة ولادتنا الى احتمال فقدان بيئتنا وتنوعها الأحيائي، واحتمال فقداننا بطبيعة الحال.
رويت هذه القصة كي أقول: قبل نصف قرن حيث ولدت وولد جيلي، كانت شركات الطاقة العالمية تعلم بأن الانبعاثات الحرارية تهلك البشرية والنظم البيئية في المستقبل القريب، لكنها أخفت المعلومات عن الجميع واستمرت في إلحاق مزيد من الأضرار بالأرض. لقد ولدنا في الظلام.
بما أن التأثير الأكبر لتغير المناخ على النظم البيئية والبشرية حصل في الخمسين سنة الأخيرة، ويقدّر حجمه بمليارات من الطاقة الحرارية المضافة الى نظام الأرض، علينا أن نفكر بالعقود الخمسة المقبلة.
كشف متأخر
في عام 2015، كشف صحافيون استقصائيون عن وثائق داخلية تعود الى شركة “إيكسون موبيل” النفطية العملاقة، وتحتوي على معرفة تامة بالأضرار التي تلحقها صناعات الوقود الأحفوري بحرارة مناخ الأرض. كان متوسط الاحترار المتوقع في وثائق الشركة يتراوح بين 0.20 الى 0.04 درجة مئوية لكل عقد، وهي، من دون اليقين، التوقعات الأكاديمية والحكومية المستقلة نفسها التي نُشرت في العقود الأخيرة.
تتعلق الوثائق التي أخفتها الشركة عن الصحافة والرأي العام لعقود، بآثار بيئية دراماتيكية تتركها صناعات الوقود الأحفوري قبل عام 2050. وهناك وثائق إضافية تُظهر أن أكبر اتحاد تجاري لصناعة النفط والغاز في الولايات المتحدة كان يعلم بالآثار ذاتها منذ خمسينات القرن الماضي على الأقل. وفي السياق ذاتها، كانت البحوث في قطاع صناعة الفحم تشير الى النتائج التي توصلت اليها “إيكسون موبيل” منذ الستينات، أما المرافق الكهربائية، وشركة توتال للنفط، وشركات محركات جنرال موتورز وفورد، فكانت على علم بذلك كله منذ بداية السبعينات على الأقل.
حلّل العلماء والصحافيون النصوص الواردة في وثائق الشركة، ووجدوا روايات نوعية عن معرفة الباحثين الذي قدموا تصوراتهم العلمية عن تغير المناخ وآثاره لصالح الشركة. من الناحية الأولى، بدا برنامج أبحاث المناخ المكثف للشركة موثقاً جيداً. من الناحية الثانية، كانت الوثائق تحتوي على مجموعة كبيرة من التوقعات سجلتها “إيكسون موبيل” بشأن الاحترار العالمي، ما سمح للعلماء بتطوير صورة متماسكة وفهم مبكر لعلوم المناخ من جهة صناعية واحدة. وتحدت الشركة تلك التحذيرات العلمية كلها واستمرت في نشاطاتها، فضلاً عن إخفاء المعلومات عن الصحافة والرأي العام.
أعشاش حرارية على الكوكب
بعد مرور خمسة عقود على إجراء تلك البحوث وإخفاء نتائجها، نبدو نحن البشر وكأننا نقيم في أعشاش حرارية على اليابسة كما في البحار. ومن الآن فصاعداً، أحسب عُمري وعمر جيلي بناءً على كم الخسائر الملحقة بالأرض والمخاوف الوجودية التي أصبحت مقاساً لتعداد السنوات والعقود.
أحسب بأن العام الذي ولدت فيه، ليس موصولاً باليوم من الناحية الزمنية؛ بل إنه موصول بـ 25 مليار قنبلة نووية قادرة على إخراج الأرض من منطقة الاعتدال المناخي وإنهاء الحياة فوقها. ولكن لماذا وكيف؟
منذ القرن التاسع، تواصل البشرية إخراج الوقود الأحفوري من مخازنه الآمنة في أعماق الأرض وحرقه بغية توليد الكهرباء وتشغيل آلات الطاقة والمزيد من رؤوس الأموال، ناهيك باستخدام مفرط للغاية للموارد الطبيعية الأخرى.
بذلك، حولت الفحم والنفط والغاز إلى أكثر من تريليوني طن من ثاني أكسيد الكربون والغازات الدفيئة الأخرى وأطلقتها إلى الجو. وجعلت من الغابات الطبيعية مصانع لإنتاج مزيد من اللحوم وتكديس الغذاء في المخازن. لقد خرّبت البشرية الغلاف الذي يحمي الأرض منذ مليارات السنين؛ ألا وهو الغلاف الجوي.
إن دلّ ذلك على شيء إنما يدلّ على أن الحضارة البشرية، ومنذ الثورة الصناعية الأوروبية التي نجمت عن اختراع المحرك البخاري في بريطانيا (1712)، تواصل زرع أعشاش حرارية على الأرض وفي مياهها. ترليونان طن من الغازات المحتجزة للحرارة على الأرض؛ إنه رقم مهول يُضاف الى تاريخ الحضارة البشرية، ومن شأنه تسخين بحارنا الى نصف الغليان في القرون المقبلة. ماذا يحدث؟
ارتفع متوسط درجة الحرارة على سطح الكوكب بنحو 1.2 ℃ مما كان عليه في عصر ما قبل الصناعة. وذلك لأن إضافة غازات دفيئة جديدة إلى دورة الغازات الطبيعية في الغلاف الجوي، تسببت في حصول خلل كبير في كمية الطاقة التي تدخل نظام الأرض وتخرج منه. علماً أن الكوكب بأكمله يتطلب قدراً كبيراً وغير عادي من الطاقة الإضافية كي يسخن، إنما تمكنت البشرية في الـ 50 السنة الماضية من إضافة كميات من الطاقة الى نظام مناخ الأرض توازي 25 مليار قنبلة نووية.
هل نقترب من كوكبي الزهرة وعطارد؟
والحال هذه، هل نقترب من كوكب الزهرة من ناحية الحرارة؟ يقتضي الأمر هنا قليلاً من الشرح. فنحن نعيش على ثالث أقرب كوكب الى الشمس، ويفصلنا عنها كوكبا عطارد والزهرة. وما يساعدنا على البقاء، هو أن الغلاف الجوي يتكون من غازات (ثاني أكسيد الكربون، ميثان، نيتروجين، ذريات المياه. الخ) تحبس الحرارة وتحمي الأرض من التجمد، ولكن إذا ازدادت كثافة هذه الغازات الدفيئة، فستؤدي الى تسخين الكوكب وإخراجه من منطقة الاعتدال. تمنع الغازات المذكورة تجمد الأرض تحت 18 درجة مئوية وتحميها في تخوم 14 درجة مئوية، ما يتيح الحياة والسكن للأنواع.
تبلغ درجة الحرارة على كوكب الزهرة، وهو ثاني أقرب كوكب الى الشمس بعد كوكب عطارد، 471 درجة مئوية؛ أي 33 مرة أعلى من حرارة الأرض، وذلك بسبب سمك غلافها الجوي واحتجازها قدراً أكبر بكثير من الغازات الدفيئة الموجودة في الغلاف الجوي للأرض. في المقابل، تبلغ درجة حرارة الكوكب الأقرب الى لشمس وهو عطارد، 167 درجة مئوية، أي 12 مرة أعلى من حرارة الأرض. ويرجح العلماء أن كوكب عطارد رغم أنه الكوكب الأقرب الى الشمس، جعله افتقاده الى الغلاف الجوي أقل سخونة من الزهرة.
على رغم بعد كوكبنا من الحالتين المذكورتين، نسير على طريق خاطئ من ناحية استخدامنا الموارد الطبيعية وإطلاق الغازات المحتجزة للحرارة. إننا نضيف الوقود الى عود ثقاب أشعلته الثورة الصناعية قبل 200 سنة.
المصدر: موقع درج
تعليقات