خالد سليمان
يفقد العالم سنوياً مساحات إضافية من الغطاء الشجري تبلغ 3 ملايين هكتار من الأراضي الغابوية بالمقارنة مع عام 2001، وذلك وفقاً لدراسة أجراها باحثون في جامعة ماريلاند العام الماضي (2022). إنه ضعف الغطاء الشجري الذي كان يحترق قبل 20 عاماً، وتبلغ مساحته مجمل أراضي بلجيكا. كان عام 2021 واحداً من أسوأ سنوات حرائق الغابات منذ مطلع القرن بحسب الدراسة، وتسبب في فقدان 9.3 مليون هكتار من الغطاء الشجري في جميع أنحاء العالم، أي أن أكثر من ثلث فقدان الغطاء الشجري، حدث في ذلك العام.
يجد العالم نفسه اليوم، أمام حرائق غابات تبدو أكثر قسوة من تلك التي شهدتها الغابات الطبيعية في حوض الأمازون، أستراليا، كاليفورنيا وجنوب البحر الأبيض المتوسط في الأعوام الماضية (لبنان، سوريا، المغرب والجزائر). ففي كندا وحدها، أدت البداية “غير المسبوقة” لموسم حرائق الغابات هذا العام، إلى نشوب نيران خطيرة وكثيرة في غالبية مقاطعات البلاد، وتسببت (لحين كتابة هذه المقالة) بحرق 5.9 مليون هكتار من الغطاء الشجري وتدميرها.
بحسب بيانات المركز المشترك بين الوكالات لإطفاء حرائق الغابات في كندا، تبلغ أعداد الحرائق أكثر من 440 حريقاً، نصفها خارج السيطرة، أي أن البؤر المشتعلة قد تستمر طوال فصل الصيف، وقد تزداد أعدادها وحدّتها، ما يزيد من حجم آثار الخسائر في النظم البيئية، التنوع البيولوجي، الصحة العامة والخدمات واقتصاد كندا بطبيعة الحال. وتعد الحرائق الموسمية في الأحوال الطبيعية العادية، واحدة من الديناميكيات الداخلية لغابات شمال أميركا، وتحدث غالباً نتيجة البرق والعواصف الرعدية والرماد المتراكم تحت التربة إثر حرائق أخرى، وهي جزء من التغذية الطبيعية للغطاء الشجري.
بعد الحرائق، تحدث عملية تفاعلية داخلية وتبادلية بين الأشجار والتربة، إذ تتحول أشجار التنوب والأوراق والفروع وجذوع الأشجار التي أحرقتها النيران إلى رماد مليء بالفيتامينات، يساهم في ولادة أشجار أخرى ونموها بعد انتهاء الحريق. ولكن أن يبقى الرماد ذاته تحت التربة أو تغطّيها الثلوج الى حين قدوم صيف آخر، ليسبب حرائق جديدة أثناء ارتفاع درجات الحرارة. يمكن القول بالتالي، إن هناك أعشاشاً حرارية محفزة تتفاعل في التربة وفي الدينامية الداخلية في غابات شمال أميركا.
المحفّزات والمتغيّرات
ما حصل هذا العام ليس حدوث الحرائق قبل مجيء فصل الصيف فحسب، بل حدة الكُرات النارية وكثرتها من شرق كندا الى غربها. ويُرجع الباحثون أسباب ذلك الى حدوث تغيرات في الدينامية الداخلية للغابات نتيجة تغير المناخ والآثار التي تركها على الغطاء الشجري الشمالي.
بحسب إدوارد ستروزيك، وهو باحث في معهد كوينز لسياسة الطاقة والبيئة في جامعة كوينز الكندية، تبدأ غالبية الحرائق في الغابات الكندية نتيجة العواصف الرعدية والبرق. ويشير الباحث في حديث لهيئة الإذاعة الكندية، الى أن ارتفاع درجة الحرارة بمقدار درجة واحدة مئوية فوق درجات الحرارة لما قبل عصر الصناعي، يؤدي إلى زيادة البرق بنسبة 12 في المئة تقريباً، ما يساهم في زيادة العوامل المحفّزة للحرائق.
إضافة الى ذلك، تتعرض كندا الى اصطدام تيار هوائي ساخن من خليج المكسيك جنوباً بتيار آخر بارد من القطب الشمالي، الأمر الذي يؤدي الى حدوث عواصف رعدية وتقلبات سريعة في أحوال الطقس. وقد شهدت غالبية مناطق البلاد أياماً ساخنة بلغت فيها درجات الحرارة 30 درجة مئوية في بداية شهر حزيران/ يونيو، وسرعان ما انخفضت تلك الحرارة الى 20 درجة مئوية خلال ساعات.
واللافت في هذا الشأن وأصبح موضع حديث معظم الخبراء البيئيين في كندا، هو أن موجات الحرارة الشديدة أصبحت أكثر تواتراً بخمس مرات مما كانت عليه قبل 150 عاماً، ومن المتوقع أن تكون أكثر تواتراً مع استمرار ارتفاع درجة حرارة الأرض. ومن شأن هذا الارتفاع في درجات الحرارة أن يخلق بيئة مثالية للحرائق ويزيد من مكوناتها، لا سيما أن الغابات الشمالية الكثيفة لم تنج من الجفاف، وقد يسبب أي نشاط تنجم عنه الحرارة الى نشوب الحرائق.
إن آثار الاحترار العالمي على المناخ الشمالي لا تزيد عدد الحرائق فقط، بل تساهم في تغيير أنماطها وأوقات بدئها، وكذلك في “التغذية المرتدة” لتغيّر المناخ، ذلك أن كميات غاز الكربون المنبعثة من الحرائق الهائلة تزيد من سماكة الكميات الموجودة في الغلاف الجوي، والتي تسبب الحرارة على الأرض، فضلاً عن تزايد الأعشاش الحرارية في تربة الغابات نتيجة الحرائق. هذا ما يسميه العلماء بالتغذية المرتدة.
الآثار المحتملة
فقدت روسيا في عام 2021، 5.4 مليون هكتار من الغطاء الشجري بسبب الحرائق، وكان ذلك الرقم الأعلى خلال الـ 20 سنة الماضية، بزيادة بلغت 31 في المئة من حرائق عام 2020. وتعزى هذه الخسارة القياسية جزئياً، إلى طول أمد الحرائق نتيجة موجات الحرارة الناجمة عن تغير المناخ. أي أن هناك محفزات إضافية للدينامية الداخلية في الغابات تسبّبها النشاطات البشرية.
ويعدّ هذا الاتجاه مقلقاً بحسب دراسة نشرها معهد مصادر العالم، لأن الغابات الشمالية هي أحد أكبر خزانات الكربون الأرضية على الكوكب، حيث يتم تخزين معظم الكربون تحت الأرض، بخاصة في التربة الصقيعية. وما يحدث نتيجة ذوبان التربة الصقيعية التي تحمي الكربون من الحرائق النادرة بشكل طبيعي تاريخياً، هو حصول ديناميكية جديدة تجعل التربة أكثر عرضة للاحتراق، ما يحول الغابات الشمالية من خزان لامتصاص الكربون الى مصدر لانبعاثات الكربون.
لقد حصلت تلك الخسارة الكبيرة في الغابات الروسية طوال صيف كامل، إنما احترقت أكثر من تلك المساحة من الغطاء الشجري في كندا خلال أسابيع- ونحن لا نزال في بداية الصيف- ومن المتوقع أن تستمر الحرائق التي خرجت عن السيطرة طوال فترة الصيف، وتسبّبب بحرائق جديدة وفق الهيئات الكندية المختصة. تالياً، لا يضيف هذا العام رقماً قياسياً آخر للحرائق فحسب، بل يكشف عن حقيقة مُرّة طالما تم تجاهلها، وهي احترار الكوكب من المحيط المتجمد الذي يلعب دوراً جوهرياً في حماية نظام الأرض المناخي. ويشكل أي اختلال في أي من أغلفة الأرض الخمسة، وهي (الغلاف الجوي، الغلاف المائي، الغلاف الصلب، الغلاف المتجمد والمحيط الحيوي)، خطراً على مجمل النظام المناخي للكوكب الأزرق.
وقد كتب الكثير عن الحرائق كديناميكية طبيعية داخلية للغابات، إنما كانت هناك تحذيرات علمية حول آثار تغير المناخ على الغابات الشمالية، لا سيما أنها تعد حاضنة طبيعية لحرائق جوفية تغذيها الكتل النباتية المحترقة أو تلك المتحللة القابلة للاشتعال نتيجة الجفاف. وغالباً ما يكون إخماد هذه الحرائق الأحفورية أصعب من إطفاء حرائق الغابات السطحية.
تعليقات