خالد سليمان
تعتبر شخصية المفكر العراقي الراحل هادي العلوي من بين الشخصيات الأكثر إشكاليةً في الثقافة العربية والإسلامية والأكثر إختلافاُ في حقول المعرفة الفلسفية والدينية . وهذا ما دفع المستعرب الفرنسي " جاك بيرك " إعتباره واحداً من أخطر عشرة مفكرين في القرن العشرين ووضعه في موازاة سارتر ، فوكو ، هربرت ماركوز ، كاسترياديس ، برتراند راسل ، سونغ لي ، تروتسكي وأخيراً نوم تشومسكي . هذا الرجل الذي جمع بين الدين والفلسفة والمعرفة والسياسة في كتاباته وبحوثه الفكرية النقدية ، دخل عالم الفكر والثقافة من مكان منسي وبيئة إجتماعية هامشية مرتبطة بفقر شديد وتخلف ثقافي كبير صنعه برأي العلوي العثمانيون .
حاولت في حواراتي الطويلة معه في أعوام 1997،1998،1999 التحدث إليه عن طفولته وتأثير المكان عليه بالإضافة إلى ذلك الفقر المدقع الذي كان تتميز به " كرادة مريم " مكان ولادته ، وهي ضاحية من ضواحي بغداد يقول عنها العلوي : " يصدق على أهلها بالضبط وصف أنجلز فلاحين مستقرين لكنهم في حالة إنحطاط " . كان هذا الوصف المستعار إختصاراً لسرديات المكان أراد من خلاله العبور إلى ضفة أُخرى وهي ضفة " جميع الخلق " أو الكل المئتلف في إختلافه وفي الفُقر الكُلي الذي أصبح فيه الفجل مصدراً للتجارة . بذلك أراد العلوي الحديث عن عموم " الخَلق " حسب تعبيره والإبتعاد عن الأمور الذاتية التي كانت تشكل بالنسبة له نوعاً من النرجسية لدى الكاتب . رأيت هذا الوصف لتلك المرحلة ، أي العقد الأخير من النصف الأول من القرن العشرين ، باباً مناسباً للدخول إلى ذاكرته والعودة من خلالها إلى كرادة مريم لإظهار طفولته . سألته عن مستويات ذلك الإنحطاط ومكوناته واسبابه وكان جوابه كالآتي : شأنها شأن المدن ، فقد امتد التأثير العثماني إلى تلك الضاحية ، ومسها حضارياً وحتى إنتاجياً . فرغم خصوبة التربة ووقوع الكرادة على ضفاف دجلة ، فقد كانت مزارعها كلهشيم المحترق وبساتينها خفيفة متفرقة الشجر . وكانت القيم الموروثة في حالة " البلبلة " والفقر الشديد إلى حد أنهم اعتبروا " الفجّال " تاجراً وكانوا يسمون الفجل " أبو خوصة الذهب " ( كانوا يشدّون باقة الفجل بالخوص ) والكادح منهم يضع طبق الفجل على رأسه ويذهب إلى بغداد ليبيعه إلى أغنيائها . والفجل عند " البغادّة شاويش العشا أي عريف الطعام .
وحسب رواية العلوي فإن ما كان يأتي للفجّال من طبق الفجل هو رزق يومين وإذا تأخر عن البيع ثلاثة أيام لم يجد عياله طعاماً . وارتبط ذلك الفقر الشديد بانحطاط الوعي .
في عام 1932 وفي تلك البيئة الفقيرة إقتصادياُ وحضارياً ولد هادي العلوي من عائلة متدينة وكبر مع البوؤس والحرمان ، عمل والده عاملاُ في البناء و ومات جده المتفقه السيد سلمان عام 1937 أي بعد خمس سنوات من ولادته . تعرف في نعومة أظفاره على شيئان رئيسيان وهما صورة الفقر القاسية في ملامح أُمه ومكتبة كبيرة ومليئة بأمهات المصادر الإسلامية تركها له جده . تظهر ملامح شخصية العلوي في سياق الصورة الأولى من خلال كلمات محدودة لم يضف إليها شيئاً في لقاءاتي معه وهي : " تأثرت طبقياً بوضعي العائلي ، عانيت الفقر مع والدتي ، مما غرس في وعيي الصغير كرهاً للأغنياء ولدولة الأغنياء " . اختصرهذه المرة ايضاً السرد وتفاصيل حياة معذبوا " كرادة مريم" إلى جمل قصيرة ومكثفة وبدأ يتكلم عن الصورة الثانية المتمثلة في مكتبة السيد سلمان التي أوصلته إلى صدمة مبكرة في حياته وهي أن الإسلام يبيح التملك العام ويسمح بتقسيم الناس على مالك ومحروم وخادم ومخدوم .
العثور على صورة طفل في طفولة العلوي هو أصعب الأشياء في أي بحث عنه ، لأنه افتقد للطفولة أولاً وتجنب الحديث عنها إن وجدت ثانياً . فرغم كل محاولاتي المتكررة بالتحدث إليه حول ذات الموضوع ، أي الطفولة وكرادة مريم ، فضل التكلم عن " العلوي " الكبير وأمكنته الكونية التي أصبحت مساحات للمعرفة لديه . وبسبب هذا النزوع الكوني إلى النظر للمكان لم يعتد الإرتياد في حياته اليومية على الأماكن العامة وأسس لذاته بؤر مكانية إفتراضية كـ" معرة نعمان " مثلاً . واختار في فترة شبابه مقهى " حسين الحمد " للقاء بالمثقف العراقي شاكر جابر في تلك الفترة ، ولا نستغرب إن سألناه عن مقهى ما في حياته وهو لا يعرف سوى مقهى الكرادة " حسين الحمد " الذي تحدث عنه بأسطر قليلة بعد مشاكسات كثيرة مع ذاكرته وأسئلة مكررة :
ما يشدني إلى مقهى محلتنا التاريخي هي جلساتي مع شاكر جابر وأخي الكبير كاظم وكان بعيداً عن همومنا الثقافية بسبب نزوعه نحو علوم الطبيعة ، ولكنه كان يحضر جلساتنا مكتفياً بالإستماع .
" حسين الحمد " مقهى للطرف أي لأبناء المحلة . هو مكانهم الذي يستريحون فيه من عناء العمل ويتسلون بلعب الدومنة والطاولة " النرد " . لم أكن من رواد المقاهي وإنما أخذني إليها شاكر وكاظم . وهكذا فالمكان الذي هو المقهى يصبح عندي المدرسة المفتوحة . وعندئذ يفقد المكان المقهى مفهومه الجغرافي ليكتسب جوهرية أُخرى من علاقتي به .
بعد تعرفه على مكتبة جده الغنية بمصادر التراث الإسلامية وبداية رحلة التعرف على عالم الكتب والقراءة يتعرف على شاكر جابر الذي يوجهه بدوره إلى طريق الثقافة العلمية . ويصف العلوي جابر صاحب رواية " الأيام المضيئة " و " الهارب " وأحد قادة الشيوعيين في الكرادة في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي ، يصفه بموسوعة أدب وثقافة ، وكان عنده مكتبة عامرة بالأمهات من الأصيل والمترجم قرأت أكثرها بتوجيه منه . وإلى جانب القراءة كانت لقاءاته شبه يومية معه في مقهى " حسين الحمد " . ومن المفارقة أن يتوقف هذا الكاتب عن الإنتاج ، فلا يكتب غير " الأيام المضيئة " ثم رواية صغيرة عنوانها " الهارب " كما يذكر العلوي .
نفهم من هذه السيرة القاسية والمجردة من السرديات والتي تظهر في اللامكان أحياناً ، أن الطفولة في حياة العلوي كان شيئاً مؤجلاً ، ولا تظهر ملامحها إلاّ في سياق أحاديثه عن الدين والسلطة والناس " الخلق " . حكى لي مرة عن ضعف بنيته الجسدية عندما كان يافعاُ وما كان يستطيع التسلق بأشجار النخيل لقطف ثمارها كما كان يفعل أخوه " حسن العلوي " . هذا التمايز الجسدي انعكس فيما بعد في الفكر والسلوك أيضاً وصار لكل واحد منهما طريقا يختلف فيه عن الآخر ، فـ" حسن " القوي جسدياً والذي كان يقطف التمر بسهولة اتجه نحو الأوساط المهيمنة في الثقافة والسياسة وأصبح واحداً من الرموز الصحافية البارزة في الصحافة العراقية السلطوية ،أما هادي النحيف فاتجه نحو ضفة المعارضة لكل ما هو سلطوي ومألوف في الحياة الثقافية والسياسية وصنف ذاته في موقع المهمشين .
زرعت تلك البيئة الدينية التي عاشها العلوي داخل عائلته ومكتبة جده السيد سلمان طقوس وممارسات يومية كانت جزءاً من شخصيته وإهتماماته ، ومن هذه الأشياء كانت مسألة الطهارة التي كان يسميها النظافة . فبعد كل مرة يمسك فيها شيء من خارج المنزل كان يغسل يديه بالصابون ويطهرهما من النجاسة الخارجية . وكنت قد أعتدت خلال حواراتي معه لمدة عام أن أغسل يدي بعد وصولي إلى منزله مباشرة وكان يقول لي أنت آت من الخارج وقد لمست النقود كي تشتري وتدفع إجرة السيارة التي وصلتك إلى هنا فعليك بغسل اليدين . ولا أخفي بأني تأثرت بهذا السلوك الحذر من النقود ولا أسطتيع تناول الأكل حتى الآن إذا لمست النقود . كان الحذر من الإتساخ – النجاسة ضمناً – جزءاً من إشكالاته السياسية والآيديولوجية وليست الجسدية فقط . لذلك قرر الإبتعاد عن رجالات السلطة والدين والمال ، وكما يقول عنه فوزي كريم كان العلوي " حزباً متطرفاً في داخله " في نظرته لهرميات الدولة والدين والمال . لم يجمعه بالتالي لقاء مع الأغنياء ورجالات الدولة على طاولة واحدة وبقي منعزلاً داخل بيته المحصن ضد التفسخ السياسي .
لقد لازمته ميزة الحذر والتفادي لرموز سلطات الدولة والدين والمال منذ ان كان طالباً في الجامعة ونتذكر هنا حدث مهم في حياته يتعلق بهذه المسألة وهو تفاديه مصافحة شخص ملك العراق عندما وزع الشهادات على الطلاب المتفوقين . حدث هذا عام 1955 وكان العلوي من المتفوقين على كلية التجارة والإقتصاد في بغداد .
سيطرت عناصر الثقافة الريفية على شخصية العلوي وتكوينه الفكري حتى بعد خروجه من بيئته الدينية والإجتماعية المتخلفة حضارياً وإقتصادياً ويقول عن نفسه : كان لمهدي الريفي أثر على بساطتي الثقافية في النشأة وأذكر نكتة قالها لي صديقي الراحل " يوسف عبدالقادر " . لقد رحمك الله إذ أخرجك من الكرادة ولو لا ذلك لكان طول عمامتك ذراعين ولحيتك ذراعاً " . لكن بعد خروجه من ذلك المكان المنسي يتعرف في بغداد على إسم المثقف اليساري اللبناني " جورج حنا " في تلك المرحلة ويقرأ كتابه المعنون " صنجة في صف الفلسفة " دون ان يستوعب الأفكار المطروحة فيه في المرة الأُولى ، لكنه يعيد قرائته ويستأنس به كما يقول ، لأن الكتاب بسيط ، يعكس شفافية جورج حنا واسلوبه الظريف الطليق .
والحال، ندرك من خلال هذه البورتريهات المتناثرة المتشابهة لشخصية هادي العلوي ان الصدمة الأولى في حياته تجسدت في عذابات الأُم في " الفقر الكلّي " وتليها الصدمة الثانية التي يكتشف فيها ان الإسلام يبيح التملك العام وتقسيم الناس إلى ملك ومحروم وخادم ومخدوم . من هنا دفع سؤال البحث التاريخي والإقتراب من حدود القدسي " غرامشي الإسلام " لتأسيس علاقة إشكالية مع التراث إذ قام بتفكيك عناصره وفضح وجدان قمعي يتخفى ورائه .
وكان للطفولة القلقة التي عاشها العلوي عوامل كثيرة منها عامل القلق العام الذي كان جزءاً من تطور هوية الإسلام الحضارية والوجدان القمعي والتخلف الإقتصادي والثقافي والإرث الذي تركته الإمبراطورية العثمانية. دفعت هذه العوامل التي تقدمت على أي شيء آخر في تأسيس مقدمات التصدع التاريخي والإجتماعي والإقتصادي ، دفعته للبحث عن جواب يليق بتصدع كرادة بغداد وطفولته المتروكة في تخوم مكان الفقر الأول .
تعليقات